الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب إذا تصدق على غني وهو لا يعلم
أي: فصدقته مقبولة، ولفظ "باب" ثابت في غير رواية أبي ذَرٍّ، ساقط في روايته، فأما على رواية غيره، فمناسبة الحديث المسوق للترجمة ظاهرة، وعلى رواية أبي ذرٍّ يحتاج إلى مناسبة بين ترجمة صدقة السر وحديث المتصدق، ووجهها أن الصدقة المذكورة وقعت بالليل، لقوله في الحديث:"فأصبحوا يتحدثون" بل وقع في صحيح مسلم التصريح بذلك، لقوله فيه:"لا تصدقن الليلة" كما سيأتي، فدل على أن صدقته كانت سرًا، إذ لو كانت بالجهر نهارًا لما خفي عنه حال الغني؛ لأنها في الغالب لا تخفى، بخلاف الزانية والسارق، ولذلك خص الغني بالترجمة دونهما.
الحديث السادس والعشرون
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "قَالَ رَجُلٌ: لأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ. فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ سَارِقٍ فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ عَلَى سَارِقٍ. فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ لأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ. فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدَيْ زَانِيَةٍ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ اللَّيْلَةَ عَلَى زَانِيَةٍ. فَقَالَ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ، لأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ. فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدَيْ غَنِىٍّ فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ عَلَى غَنِيٍّ فَقَالَ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، عَلَى سَارِقٍ وَعَلَى زَانِيَةٍ وَعَلَى غَنِيٍّ. فَأُتِيَ فَقِيلَ لَهُ: أَمَّا صَدَقَتُكَ عَلَى سَارِقٍ فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعِفَّ عَنْ سَرِقَتِهِ، وَأَمَّا الزَّانِيَةُ فَلَعَلَّهَا أَنْ تَسْتَعِفَّ عَنْ زِنَاهَا، وَأَمَّا الْغَنِيُّ فَلَعَلَّهُ يَعْتَبِرُ فَيُنْفِقُ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ.
قوله: "عن أبي هُريرة" في رواية مالك في الغرائب للدارقطنيّ عن أبي الزناد أن عبد الرحمن بن هُرْمُز أخبره أنه سمع أبا هريرة. وقوله: "قال رجل" قال في "الفتح": لم أقف على اسمه، ووقع عند أحمد عن ابن لُهَيعة أنه كان من بني إسرائيل، وقوله:"لأتصدقنَّ بصدقة" في رواية أبي أمية بهذا الإسناد "لأتصدقن الليلة" وكرره، كذلك في المواضع الثلاثة، وكذلك أخرجه أحمد عن ورقاء ومسلم عن موسى بن عُقبة والدارقطنيّ في غرائب مالك، كلهم عن أبي الزناد.
وقوله: "لأتصدقن" من باب الالتزام، كالنذر مثلًا. والقسم فيه مقدر، كأنه قال: والله لأتصدقن. وقوله: "فوضعها في يد سارقٍ" أي: وهو لا يعلم أنه سارق. وقوله: "تصدق على سارق" في رواية أبي أمية "تصدق الليلة على سارق" وفي رواية ابن لُهَيعة "تصدق الليلة على فلان
السارق" وليس في شيء من الطرق تسمية أحد من الثلاثة المتصدَّق عليهم. وقوله: "تُصدق" بضم أوله على البناء للمجهول، وقوله: "اللهم لك الحمد" أي: لا لي؛ لأن صدقتي وقعت بيد مَنْ لا يستحقها، ذلك الحمد، كان ذلك بإرادتك لا بإرادتي، فإن إرادة الله كلها جميلة.
قال الطيبيّ: لما عزم على أن يتصدق على مستحق، فوضعها في يد زانية، حمد الله على أنه لم يقدر أن يتصدق على مَنْ هو أسوأ حالًا منها، أو أجرى الحمد مجرى التسبيح في استعماله عند مشاهدة ما يتعجب منه، تعظيمًا لله، فلما تعجبوا من فعله، تعجب هو أيضًا. فقال:"اللهم لك الحمد على زانية" أي التي تصدقت عليها، فهو متعلق بمحذوف، ولا يخفى بعد هذا الوجه، والذي قبله أبعد منه. والذي يظهر الأول، وأنه سلّم وفوِّض ورضي بقضاء الله، فحمد الله على تلك الحال؛ لأنه المحمود على جميع حال لا يحمد على المكروه سواه، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى مالًا يعجبه، قال: اللهم لك الحمد علي كل حال. وقوله: فأتي، فقيل له. في رواية الطبرانيّ عن أبي اليمان بهذا الإسناد "فساءه ذلك، فأتي في منامه". وأخرجه أبو نعيم في المستخرج عنه، والإسماعيليّ عن شُعيب وفيه تعيين بعض الاحتمالات التي ذكرها ابن التين وغيره.
قال الكرمانيّ: قوله: "إني أرى" أي: أرى في المنام، أو سمع هاتفًا ملكًا أو غيره، أو أخبره نبي أو أفتاه عالِم. وقال غيره: أو أتاه مَلَك فكلمه، فقد كانت الملائكة تكلم بعضهم في بعض الأمور، وقد ظهر بالنقل الصحيح أنها كلها لم تقع إلا النقل الأول. وقوله:"أما صدقتك على سارق" زاد أبو أمية: "فقد قبلت" وفي رواية موسى بن عقبة وابن لُهَيعة: "أما صدقتك فقد قبلت" وفي رواية الطبرانيّ: "أن الله قد قبل صدقتك" وفي الحديث دلالة على أن الصدقة كانت عندهم مختصة بأهل الحاجة من أهل الخير، ولهذا تعجبوا من الصدقة على الأصناف الثلاثة.
وفيه أن نية المتصدق إن كانت صالحة قبلت صدقته، ولو لم تقع الموقع، واختلف الفقهاء في الإجزاء إذا كان ذلك في زكاة الفرض، ولا دلالة في الحديث على الإجزاء، ولا على المنع. ومن ثَمّ أورد المصنف الترجمة بلفظ الاستفهام، ولم يجزم بالحلم، واحتج أبو حنيفة بهذا الحديث على أن مَنْ أعطى زكاته لشخص ظنه فقيرًا، فبان غنيًا، أنه تسقط عنه الزكاة، ولا تجب عليه الإعادة. ووافقه محمد بن الحسن، ومذهب مالك والشافعي وأبي يوسف أنها لا تجزىء، فإن قيل: إن الخبر إنما تضمن قصة خاصة، وقع الاطِّلاع فيها على قبول الصدقة برؤيا صادقة اتفاقية، فمن أين يقع تعميم الحكم؟ فالجواب أن التنصيص، في هذا الخبر على رجاء الاستعفاف، هو الدال على تعدية الحكم، فيقتضي ارتباط القبول بهذه الأسباب.
وفيه فضل صدقة السر. وفضل الإخلاص واستحباب إعادة الصدقة إذا لم تقع الموقع، وأن الحكم للظاهر حتى يتبين سواه، وبركة التسليم والرضى وذم التضجر بالقضاء، كما قال بعض السلف: لا تقطع الخدمة، ولو ظهر لك عدم القبول. وفيه اعتبار لمن تصدق عليه بأن يتحول عن