الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الخامس والثمانون
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ مِنْهُمْ وَامْرَأَةٍ زَنَيَا، فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا قَرِيبًا مِنْ مَوْضِعِ الْجَنَائِزِ عِنْدَ الْمَسْجِدِ.
قوله: موضع الجنائز عند المسجد، حكى ابن بطال عن ابن حبيب أن مصلى الجنائز بالمدينة كان لاصقًا بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم من ناحية جهة المشرق، فإنْ ثبت ما قال، وإلاّ فيحتمل أن يكون المراد بالمسجد هنا المصلى المتخذ للعيدين والاستسقاء، لأنه لم يكن عند المسجد النبوي مكان يتهيأ فيه الرجم، وسيأتي في قصة "ماعز فرجمناه" بالمصلى.
قلت: ما قاله ابن حبيب ثابت موجودٌ إلى الآن، معروف عند جميع أهل المدينة، وأما كون المراد بالمسجد المصلى المتخذ للعيدين والاستسقاء، فبعيدٌ لا يليق. قوله: قال في الفتح: دلَّ حديثُ ابن عمر المذكور على أنه كان للجنائز مكانٌ معد للصلاة عليها، فقد يستفاد منه أن ما وقع من الصلاة على بعض الجنائز في المسجد كان لأمر عارض، أو لبيان الجواز، قال: واستدل به على مشروعية الصلاة على الجنائز في المسجد، ويؤيده حديث عائشة: ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سُهيل بن بَيضاء إلاّ في المسجد. أخرجه مسلم، وبه قال الجمهور.
وقال مالك: لا يعجبني، وكرهه ابن أبي ذيب وأبو حنيفة وكل من قال بنجاسة الميت. وأما من قال بطهارته منهم فلخشية التلويث، وحملوا الصلاة على سُهيل بأنه كان خارج المسجد والمصلون داخله، وذلك جائز اتفاقًا، وفيه نظر. لأن عائشة استدلت بذلك لما أنكروا عليها أمرها بالمرور بجنازة سعد على حجرتها لتصلى عليه. قلت:"قوله جائز اتفاقًا" قد مرَّ أن المالكية لا فرق عندهم بين أن يكون الميت داخل المسجد أو خارجه، واحتج بعضهم بأن العمل استقر على ترك ذلك، لأن الذين أنكروا ذلك على عائشة كانوا من الصحابة، وَرُدَّ بأن عائشة لما أنكرت ذلك الإِنكار سلموا لها، فدل على أنها حفظت ما سلموه.
قلت: لا دلالة فيها، فقد يسكتون عنها تركًا للمجادلة، توقيرًا لها، ولكونها مجتهدة، وأما النسيان من هذا الجمع الغفير من الصحابة في المدة اليسيرة، فبعيد جدًا. وقد روى ابن أبي شَيبة وغيره أن عمر صلى على أبي بكر في المسجد، وأنّ صهيبًا صلى على عمر في المسجد، وزاد في رواية "ووضعت الجنازة في المسجد تِجاه المنبر" وهذا يقتضي الإجماع على جواز ذلك. قلت: لعل خصوصية الصلاة على هذين في المسجد إنما هي لأجل كونهما يدفنان في المسجد.
وهذا الحديث ذكره البخاريّ هنا عن موسى بن عُقبة مختصرًا، وذكره مطولًا في كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة عن مالك، وها أنا أذكر الرواية الطويلة هنا، وأذكر جميع مباحثه هنا تتميمًا للفائدة.
ولفظ الطويلة، عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، أن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا له أن رجلًا منهم وامرأة زنيا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ فقالوا: نفضحهم ويجلدون، قال عبد الله بن سَلَام: كذبتم، إن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال كله عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده، فإذا فيها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما، فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة.
قوله: إن رجلًا منهم وامرأة زنيا، ذكر السهيليّ عن ابن العربيّ أن اسم المرأة بُسْرة، بضم الموحدة وسكون المهملة، ولم يسم الرجل. وذكر أبو داود السبب في ذلك عن الزّهري: سمعت رجلًا من مُزَينة ممن تبع العلم، وكان عند سعيد بن المسيب يحدث عن أبي هريرة قال: زنى رجل من اليهود بامرأة، فقال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى هذا النبي، فإنه بعث بالتخفيف، فإن أفتانا بفُتيا دون الرجم قبلناها، واحتججنا بها عند الله، وقلنا فُتْيا نبي من أنبيائك. قال: فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، وهو جالس في المسجد في أصحابه، فقالوا: يا أبا القاسم، ما ترى في امرأة ورجل زنيا منهم؟
ونقل ابن العربيّ عن الطبريّ والثعلبيّ عن المفسرين قالوا: انطلق قوم من قُرَيظة والنَّضير منهم كعب بن الأشرف وكعب بن أسَد وسعيد بن عمرو ومالك بن الصيف وغيرهم، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم، وكان رجل وامرأة من أشراف أهل خيبر زنيا، واسم المرأة بُسْرة، وكانت خيبر حينئذ حربًا، فقال لهم اسألوه، فنزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: اجعل بينك وبينهم ابن صُوريا، فذكر القصة مطولة.
ولفظ الطبريّ من طريق الزُّهريّ المذكورة، أن أحبار اليهود اجتمعوا في بيت المُدارس، وقد زنى رجل منهم بعد إحصانه بامرأة منهم قد أُحْصِنت، فذكر القصة، وفيها فقال: أخرجوا إليّ عبد الله بن صوريا الأعور، قال ابن إسحاق: ويقال إنهم أخرجوا معه أبا ياسر بن أحْطَب ووهب بن يهودا فخلا النبيّ صلى الله عليه وسلم بابن صوريا، فذكر الحديث.
وعند مسلم عن البراء: مُرَّ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم بيهودي محممًا مجلودًا، فدعاهم، فقال: هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قالوا: نعم. وهذا يخالف الأول من حيث أن فيه أنهم ابتدأوا السؤال قبل إقامة الحد، وفي هذا أنهم أقاموا الحد قبل السؤال، ويمكن الجمع بالتعدد بأن يكون الذين سألوا عنهما غير الذين جلدوه، ويحتمل أن يكونوا بادروا فجلدوه ثم بدا لهم فسألوا، فاتفق المرور
بالمجلود في حال سؤالهم عن ذلك، فأمرهم بإحضارهما فوقع ما وقع.
ويؤيد الجمع ما عند الطبرانيّ عن ابن عباس، أن رهطًا من اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، ومعهم امرأة فقالوا: يا محمد، ما أنزل عليك في الزنا؟ فيتجه أنهم جلدوا الرجل ثم بدا لهم أن يسألوا عن الحكم، فأحضروا المرأة، وذكروا القصة والسؤال. وفي رواية عُبيد الله العمري عن نافع عن ابن عُمر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بيهوديّ ويهودية زنيا، ونحوه في رواية عبد الله بن دينار ولفظه "أحدثا" أي: فعلا فعلًا فاحشًا.
وقوله: ما تجدون في التوراة في شأن الرجم، قال الباجيّ: يحتمل أن يكون علم بالوحي أن حكم الرجم فيها ثابت على ما شرع، لم يلحقه تبديل، ويحتمل أن يكون إنما سألهم عن ذلك ليعلم ما عندهم فيه، ثم يتعلم صحة ذلك من قبل الله تعالى.
وقوله: فقالوا نفضحهم ويجلدون، أي: بفتح أول الأول وثالثه، من الفضيحة. وفي رواية أيوب عن نافع في التوحيد بيان الفضيحة ولفظه "قالوا نُسَخِّم وجوههما ونخزيهما" وفي رواية عن عبد الله بن عمر قالوا: نسود وجوههما ونُحَمِّمُهما ونخالف بين وجوههما ويُطاف بها. وفي رواية عبد الله بن دينار أن أحبارنا أحدثوا تحميم الوجه والتجبيه.
وقوله: أحدثوا: أي ابتكروا، وتحميم الوجه أنْ يصب عليه ماءٌ حارٌ مخلوطٌ بالرماد، والمراد تسخيم الوجنة بالحميم، وهو الفحم. وفي حديث أبي هُريرة "يحمم ويُجَبَّه ويجلد" والتجبيه بفتح المثناة وسكون الجيم وكسر الموحدة بعدها ياء آخر الحروف ساكنة ثم هاء، أصله من جَبَهت الرجل إذا قابلته بما يكره من الإغلاظ في القول أو الفعل، قاله ثابت في الدلائل. وقال عياض: فسر التجبيه في الحديث بأنهما يجلدان ويحمم وجوههما ويحملان على دابة مخالفًا بين وجوههما.
وقال المنذريّ يشبه أن يكون أصله الهمزة، وأنه التجبئة، وهي الرَّدْع والزجر، يقال: جَبَّأته تجبيئًا أي ردعته. والتجبئة أن ينكس رأسه فيحتمل، أن يكون من فعل به ذلك ينكس رأسه استحياءًا. فسمي ذلك الفعل تجبية.
وقيل: التجبية أن يضع اليدين على الركبتين وهو قائم، فيصير كالراكع، وكذا أن يكبَّ على وجهه باركًا كالساجد. وقال الفارابي: جبّأ، بفتح الجيم وتشديد الموحدة: قام قيام الراكع وهو عريان. قال الباجيّ: ظاهر الأمر أنهم قصدوا في جوابهم تحريف حكم التوراة. والكذب على النبي عليه الصلاة والسلام، إما رجاء أن يحكم بينهم بغير ما أنزل الله، وإما لأنهم قصدوا بتحكيمه التخفيف على الزانيين، واعتقدوا أن ذلك يخرجهم عما وجب عليهم، أو قصدوا اختيار أمره لأنه من المقرر أن من كان نبيًا لا يُقِرُّ على باطل، فطهر بتوفيق الله نبيَّه كذبهم، وصدقه ولله الحمد.
وقوله: قال عبد الله بن سلام كذبتم، إن فيها الرجم، في رواية أيوب وعُبيد الله ابن عمر قال: فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين. وقوله: فَأتَوا بالتوراة بصيغة الفعل الماضي، وفي رواية أيوب: فجاؤوا، وزاد عُبَيد الله بن عمر "بها" فقرأوها. وفي رواية زيد بن أسلم "فأتى بها فنزع الوسادة من تحته، فوضع التوراة عليها ثم قال: آمنت بك، وبمن أنزلك" وفي حديث البراء عند مسلم "فدعا رجلًا من علمائهم، فقال: أنشدك بالله وبمن أنزله .. ".
وعند أبي داود عن جابر فقال: أئتوني بأعلم رجلين منكم، فأُتي بابن صوريا، زاد الطبريّ عن ابن عباس "إيتوني برجلين من علماء بني إسرائيل، فأتوه برجلين أحدهما شاب والآخر شيخ، قد سقط حاجباه على عينيه، من الكبر، ولابن أبي حاتم عن مجاهد: أن اليهود استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزانين، فأفتاهم بالرجم، فأنكروا فأمرهم أن يأتوا بأحبارهم، فناشدهم فكتموه إلَاّ رجلًا من أصاغرهم، فقال: كذبوك يا رسول الله، إنه في التوراة. وقوله فوضع: أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها، ونحوه في رواية عبد الله بن دينار، وفي رواية عُبيد الله بن عمر، فوضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم، فقرأ ما بين يديها وما وراءها. وفي رواية أيوب، فقالوا لرجل ممن يرضون: يا أعور، اقرأ، فقرأ حتى انتهى إلى موضع فوضع يده عليه، واسم هذا الرجل عبد الله بن صوريا، وقد وقع عند النقَّاش أنه أسلم، لكن ذكر مكيُّ في تفسيره أنه ارتد بعد أن أسلم.
وعند الطبري أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما ناشده، قال: يا رسول الله، إنهم ليعلمون أنك نبيٌّ مرسل، ولكنهم يحسدونك. وقال في آخر الحديث: ثم كفر بعد ذلك ابن صوريا، ونزلت فيه {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} . الآية، وقوله: فإذا فيها آية الرجم، في رواية عبد الله بن دينار "فإذا آية الرجم تحت يده"، وفي حديث البراء "فحده الرجم، ولكنه في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الوضيع أقمنا عليه الحد، فقلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم".
ووقع بيان ما في التوراة من آية الرجم في رواية إبي هُريرة "المحصَن والمحصَنة إذا زنيا، فقامت عليهما البينة، رُجما، وإن كانت المرأة حُبلى تُرُبِّص بها حتى تضع ما في بطنها". وعند أبي داود عن جابر قالا: نجد في التوراة إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرحها، كالمِيل في المكحلة، رُجما. زاد البزّار "فإن وجدوا الرجل مع المرأة في بيت أو في ثوبها أو على بطنها فهي ريبة، وفيها عقوبة. قال: فما منعكما أن ترجموهما؟ قالا: ذهب سلطاننا، فكرهنا القتل".
وفي حديث أبي هُريرة "فما أول ما ارتخصتم أمر الله؟ قال: زنى ذو قرابة من الملك، فأخر عنه الرجم، ثم زنى رجل شريف، فأرادوا رجمه، فحال قومه دونه، وقالوا: ابدأ بصاحبك، فاصطلحوا على هذه العقوبة" وعند الطبرانيّ عن ابن عباس "أنّا كنّا شببة، وكان في نسائنا حُسن
وَجه، فكثر فينا فلم يقم له، فصرنا نجلد" وقوله: فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما، زاد في حديث أبي هريرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "فإني أحكم بما في التوراة".
وفي حديث البراء "اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه". وفي حديث جابر من الزيادة أيضًا "فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهود، فجاء أربعة فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل المِيل في المكحلة، فأمر بهما فرجما".
وقوله: فرأيت الرجل يحني، كذا في رواية السَّرْخسيّ، بالحاء المهملة بعدها نون مكسورة ثم تحتانية ساكنة، وعن المستملي والكشميهنيّ بجيم ونون مفتوحة ثم همزة. وقال ابن دقيق العيد: إنه الراجح، وفي رواية أيوب يُجانىء، بضم أوله وجيم مهموز. قال ابن عبد البر: الصواب يحني، أي: يميل.
وجملة ما حصل لنا من الاختلاف في ضبط هذه اللفظة عشرة أوجه، هذه الثلاثة المذكورة. الرابع كالأول إلا أنه بالموحدة بدل النون، الخامس كالثاني إلا أنه بواو بدل الهمزة، السادس كالأول إلا أنه بالجيم، السابع بضم أوله وفتح المهملة وتشديد النون، الثامن يُجاني، التاسع مثله لكنه بالغاء بدل النون وبالجيم أيضًا.
وفي بعض الروايات "فرأيت اليهودي أحنى عليها" بلفظ الفعل الماضي، أي كبّ عليها. يقال أحْنَت المرأة على ولدها حُنوًا وحنت بمعنى، وفي رواية أجنى بالجيم بدل الحاء، وهو بمعنى الذي بالمهملة، قال ابن القطاع: جَنَأ على الشيء: حنا ظهره عليه. وقال الأصمعي: أَحْنا الترس جعله مجَنَّاً: أي مُحْدودبًا.
وقوله: يَقيها الحجارة، بفتح أوله ثم قاف، تفسير لقوله يحني، وفي رواية عبيد الله بن عمر "فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه" ولابن ماجه "يسترها" وعند الطبرانيّ عن ابن عباس "فلما وجد مس الحجارة قام على صاحبته يحني عليها، يقيها الحجارة، حتى قتلا جميعا"، فكان ذلك مما صنع الله تعالى لرسوله في تحقيق الزنا منهما.
وفي الحديث من الفوائد وجوب الحد على الكافر الذميّ إذا زنى، وهو قول الجمهور، وفيه خلاف عند الشافعية، وذهل ابن عبد البر فنقل الاتفاق على أن شرط الإِحصان الموجب للرجم الإِسلامُ، وَرُدَّ عليه بأنَّ الشافعية وأحمد لا يشترطان ذلك، ويؤيد مذهبهما وقوع التصريح بأن اليهوديين اللذين قد رجما كانا قد أحْصِنا، كما مرَّ نقله، وقالت المالكية، ومعظم الحنفية وربيعة شيخ مالك: شرط الإِحصان الإِسلام، وأجابوا عن حديث الباب بأنه عليه الصلاة والسلام إنما رجمهما بحكم التوراة، وليس هو من حكم الإِسلام في شيء، وإنما هو من باب تنفيذ الحكم
عليهم بما في كتابهم، فإن في التوراة الرجم على المحصن وغير المحصن، قالوا: وكان ذلك أول دخول النبي صلى الله عليه وسلم المدينة. وكان مأمورًا باتباع حكم التوراة، والعمل بها حتى ينسخ ذلك في شرعه، فرجم اليهوديين على ذلك الحكم، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى:{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} إلى قوله {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} ثم نسخ ذلك بالتفرقة بين من أُحصن ومن لم يحصَن.
وفي دعوى الرجم على من لم يحصن نظرّ، لما مرَّ من رواية الطبريّ وغيره. وقال مالك: إنما رجم اليهوديين لأن اليهود يومئذ لم تكن لهم ذمة، فتحاكموا إليه، وتعقبه الطحاويّ بأنه لو لم يكن واجبًا ما فعله. قال: وإذا قام الحد على من لا ذمة له، فلأنْ يقيمه على من له ذمة أوْلى. وقال المازري: يعترض على جواب مالك بكونه رجم المرأة، وهو يقول: لا تقتل المرأة الحربية إلا إن أجاب أن ذلك كان قبل النهي عن قتل النساء. وأيد القرطبيّ أنهما كان حربيين، بما أخرجه الطبريّ فيما مرَّ، ولا حجة فيه، لأنه منقطع.
قال القرطبيّ: ويعكر عليه أن مجيئهم سائلين يوجب لهم عهدًا، كما لو دخلوا لغَرضٍ كتجارة أو رسالة أو نحو ذلك، فإنهم في أمان إلى أن يردوا إلى مأمنهم، ولم ينفصل عن هذا إلا أن يقول: إن السائل عن ذلك ليس هو صاحب الواقعة، وقال النّوويّ: دعوى أنهما كانا حربيين باطلة، بل كانا من العهد، كذا قال. وسلّم بعض المالكية أنهما كانا من أهل العهد، واحتج بأن الحاكم مخير إذا تحاكم إليه أهل الذمة، بين أن يحكم فيهم بحكم الله وبين أن يُعرض عنهم، على ظاهر الآية. فاختار عليه الصلاة السلام في هذه الواقعة أن يحكم بينهم، وتعقب أن ذلك لا يستقيم على مذهب مالك، لأن شرط الإِحصان عنده الإِسلام، وهما كانا كافرين، وانفصل ابن العربيّ عن ذلك بأنهما كانا مُحَكّمين له في الظاهر، مُخْتَبرين ما عنده في الباطن، هل هو نبيٌّ حقٌ أو مسامح في الحق؟ وهذا لا يرفع الإِشكال، ولا يخلص عن الإِيراد.
ثم قال ابن العربيّ في الحديث: إن الإِسلام ليس شرطًا في الإِحصان، والجواب بأنه إنما رجمهما لإِقامة الحجة على اليهود، فيما حكموه فيه من حكم التوراة، فيه نظر، لأنه كيف يقيم الحجة عليهم بما لا يراه في شرعه مع قوله تعالى:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} قال: وأُجيب بأن سياق القضية ما قلناه، ومن ثمّ استدعى شهودهم ليقيم الحجة عليهم منهم، إلى أن قال:"والحق أحق أن يتبع" ولو جاؤوني لحكمت بينهم بالرجم، ولم اعتبر الإِسلام في الإِحصان.
قلت: الحق في الجواب عندي هو أنه مخير في الحكم بينهم بما أنزل الله، وردهم إلى أساقفتهم. والحكم بما أنزل الله في المسلمين هو الرجم بعد الإِحصان، وهو عليه الصلاة والسلام قد أمر بالحكم بينهم بحكم الإِسلام، مع علم الله تعالى بكفرهم، وقال ابن عبد البَر: حد الزنى
حق من حقوق الله، وعلى الحاكم إقامته، وقد كان لليهود حاكم، وهو الذي حكَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهما.
وقول بعضهم: إن الزانيين حكّماه دعوى مردودة، واعترض بأن التحكيم لا يكون إلا لغير الحاكم، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فحكمه بطريق الولاية، لا بطريق التحكيم. وأجاب الحنفية عن رجم اليهوديين بأنه وقع بحكم التوراة ورواه الخَطَّابيّ بأن الله تعالى قال:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وإنما جاءه القوم سائلين عن الحكم عنده، كما دلت عليه الرواية المذكورة، فأشار عليهم بما كتموه من حكم التوراة، ولا جائز أن يكون حكم الإِسلام عنده مخالفًا لذلك، لأنه لا يجوز الحكم بالمنسوخ، فدل على أنه إنما حكم بالناسخ.
وأما قوله في حديث أبي هُريرة "فإنّي أحكم بما في التوراة" ففي سنده رجل مبهم، ومع ذلك فلو ثبت لكان معناه لإِقامة الحجة عليهم، وهو موافق، ويؤيده أن الرجم جاء ناسخًا للجلد، ولم يقل أحد إن الرجم شرع ثم نسخ بالجلد، ثم نسخ الجلد بالرجم. وإذا كان الرجم باقيًا منذ شُرع، فما حكم عليهما بالرجم بمجرد حكم التوراة بل بشرعه الذي استمر حكم التوراة عليه، ولم يُقَدَّر أنهم بدّلوه فيما بدّلوا.
وأما ما تقدم من أن النبي صلى الله عليه وسلم رجمهما أول ما قدم المدينة، لقوله في بعض طرق القصة "لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، أتاه اليهود" فالجواب أنه لا يلزم من ذلك الفور، ففي بعض طرقه الصحيحة، كما تقدم، أنهم تحاكموا إليه وهو في المسجد بين أصحابه، والمسجد لم يكمل بناؤه إلا بعد مدة من دخوله صلى الله عليه وسلم المدينة، فبطل الفور، وأيضًا، ففي حديث عبد الله بن الحارث بن جَزْء أنه حضر ذلك، وعبد الله إنما قدم مع أبيه مسلمًا بعد فتح مكة.
وقد تقدم حديث ابن عباس، وفيه ما يشعر بأنه شاهد ذلك، وفيه أن المرأة إذا أقيم عليها الحد تكون قاعدة، هكذا استدل به الطحاويّ، وقد اختلفوا في الحَفْر للمرجومة، فمن يرى أنه يحفر لها تكون في الغالب قاعدة في الحفرة، واختلافهم في إقامة الحد عليها قاعدةً أو قائمةً، إنما هو في الجلد، ففي الاستدلال بصورة الجلد على صورة الرجم نظرٌ لا يخفى.
وفيه قبول شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض، وزعم ابن العربيّ أن معنى قوله في حديث جابر "فدعا بالشهود" أي: شهود الإِسلام على اعترافهما. وقوله: فرجمهما بشهادة الشهود، أي: البينة على اعترافهما، وَرُدَّ هذا التأويل بقوله في نفس الحديث "أنهم رأوا ذكره في فرجها كالميل في المكحلة" وهو صريح في أن الشهادة بالمشاهدة لا بالاعتراف، وقال القرطبيّ: الجمهور على أن الكافر لا تقبل شهادته على مسلم، ولا على كافر، لا في حد ولا في غيره، ولا فرق بين السفر
والحضر في ذلك، وقبل شهادتهم جماعة من التابعين وبعض الفقهاء، إذا لم يوجد مسلم، استثني أحمد حالة السفر إذا لم يوجد مسلم، وأجاب القرطبيّ عن الجمهور عن واقعة اليهود بأنه صلى الله عليه وسلم نفّذ عليهم فاعلم أنه حكم التوراة، وألزمهم العمل به إظهارًا لتحريفهم كتابهم، وتغييرهم حكمه أو كان ذلك خاصًا بهذه الواقعة. كذا قال. والثاني مردود.
وقال النّوويّ: الظاهر أنه رجمهما بالاعتراف، فإنْ ثبت حديث جابر، فلعل الشهود كانوا مسلمين، وإلا فلا عبرة بشهادتهم، ويعين أنهما أقرا بالزنى، ولم يثبت أن الشهود كانوا مسلمين، ويحتمل أن يكون الشهود أخبروا بذلك السؤال بقية اليهود لهم، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم كلامهم، ولم يحكم بينهم إلا مستندًا لما أَطْلعه الله تعالى عليه، فحكم في ذلك بالوحي، وألزمهم الحجة بينهم، كما قال تعالى:{وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} أو أن شهودهم شهدوا عليهم عند أحبارهم بما ذكر، فلما رفعوا الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم استعلم القصة على وجهها، فذكر كل من حضره من الرواة ما حفظه في ذلك، ولم يكن مستند حكم النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما أَطْلعه الله تعالى عليه.
واستدل به بعض المالكية على أن المجلود يجلد قائمًا إن كان رجلًا، والمرأة قاعدة، لقول ابن عمر: رأيت الرجل يقيها الحجارة، فدل على أنه كان قائمًا وهي قاعدة، وتُعُقِّب بأنه واقعةُ عينٍ فلا دلالة فيه على أن قيام الرجل كان بطريق الحكم عليه بذلك، واستدل به على رجم المُحْصَن.
وقد مرَّ البحث فيه مستوفى، وعلى الاقتصار على الرجم، ولا يضم إليه الجلد كذا، احتج به بعضهم، وفيه خلاف، لو احتج به لعكسه لكان أقرب، لأنه في حديث البراء عند مسلم أن الزاني جلد أولًا ثم رجم، لكن يمكن الانفصال عنه بأن الجلد الذي وقع له، لم يكن بحكم حاكم، وفيه أنَّ أَنْكِحَةَ الكفار صحيحة، لأن ثبوت الإِحصان فرع ثبوت صحة النكاح.
وفيه أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، وفي أخذه من هذه القصة بعد، ولو سلم الأخذ يكون خاصًا بأهل الكتاب، لأنهم أخذوا بما في كتابهم، وفيه أن اليهود كانوا ينسبون إلى التوراة ما ليس فيها، ولو لم يكن مما أقدموا على تبديله، وإلا لكان في الجواب حَيْدة عن السؤال، لأنه سأل عما يجدون في التوراة، فعدلوا عن ذلك لما يفعلونه، وأوهموا أن فعلهم موافق لما في التوراة، فأكذبهم عبد الله بن سلام.
وقد استدل به بعضهم على أنهم لم يسقطوا شيئًا من ألفاظها كما يأتي تحريره في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى. والاستدلال به لذلك غير واضح، لاحتمال خصوص ذلك بهذه الواقعة، فلا يدل ذلك على التعميم، وكذلك من استدل به على أن التوراة التي أُحضرت حينئذ كانت كلها صحيحة سالمة من التبديل، لأنه يطرقه هذا الاحتمال بعينه، ولا يريده قوله "آمنت بك وبمن أنزلك" لأن