الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقوله: "وابدأ بِمَنْ تعول" أي بمَنْ تجب عليك نفقته، يقال: عال الرجلُ أهلَه إذا مَأَنَهم، أي: قام بما يتحاجون إليه من قوت وكِسوة، وهو أمر بتقديم من يجب، وهو نفقة نفسه وعياله؛ لأنها منحصرة فيه، بخلاف نفقة غيرهم. وقال ابن المنذر: اختُلف في نفقة مَنْ بلغ من الأولاد، ولا مال له ولا كسب، فأوجبت طائفة النفقة لجميع الأولاد أطفالًا كانوا أو بالغين، إناثًا أو ذكورًا إذا لم تكن لهم أموال يستغنون بها. وذهب الجمهور إلى أن الواجب أن ينفق عليهم حتى يبلغ الذكر أو تتزوج الأنثى، ثم لا نفقة على الأب إلا إن كانوا زَمْنى، فإن كانت لهم أموال فلا وجوب على الأب. وألحق الشافعيّ ولد الولد، وإن سَفُل في ذلك.
رجاله ستة:
قد مرّوا، مرَّ عبدان وعبد الله بن المبارك في السادس من بدء الوحي، ومرّ الزهريّ في الثالث منه، ويونس في متابعة بعد الرابع منه، ومرَّ ابن المُسَيَّب في التاسع عشر من الإيمان، وأبو هريرة في الثاني منه.
الحديث الثاني والثلاثون
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ".
قوله: "اليد العليا خير من اليد السفلى" جاء في حديث ابن عمر الذي بعده، تفسيرُ العليا بأنها هي المنفِقة، والسفلى بأنها هي السائلة، والمنفِقة في أكثر الروايات، بالنون والقاف، من الإنفاق وفي بعض الروايات "المتعففة" بالعين وفاءين، من العفة، والأُولى هي الصحيحة، بل قيل: إن الأخيرة تصحيف، ويؤيدها حديث طارق المحاربيّ عند النَّسائيّ قال: قدمنا المدينة فإذا النبي صلى الله عليه وسلم قائمٌ على المنبر يخطب الناس، وهو يقول:"يد المعطي العُليا" ولابن أبي شيبة والبزار عن ثعلبة بن زهرم مثله، وللطبراني بإسناد صحيح عن حكيم بن حِزام مرفوعًا "يد الله فوق يد المعطي، ويد المعطي فوق يد المعطى، أو يد المعطى أسفل الأيدي".
وللطبرانيّ عن عدي الجُذاميّ، مرفوعًا، مثله، ولأبي داود وابن خُزيمة عن أبي الأحوص، مرفوعًا "الأيدي ثلاثة: فيد الله العليا، ويد المعطي التي تليها، ويد السائل السفلى" فهذه الأحاديث متضافرة على أن اليد العليا هي المنفِقة المعطية، وأن السفلى هي السائلة، وهذا هو المعتمد، وهو قول الجمهور. وقيل: اليد السفلى الآخذة، سواءًا كان بسؤال أم بغير سؤال، وهذا أباه قومٌ، واستندوا إلى أن الصدقة تقع في يد الله قبل يد المتصدق عليه.
قال ابن العربيّ: التحقيق أن السفلى يد السائل، وأما يد الأخذ فلا؛ لأن يد الله هي المعطية،
ويد الله هي الآخذة، وكلتاهما عليا وكلتاهما يمين، وفيه نظر؛ لأن البحث إنما هو في أيدي الآدميين، وأما يد الله تعالى فباعتبار كونه مالكَ كل شيء، نسبت يده إلى الإعطاء، وباعتبار قبوله للصدقة ورضاه بها نسبت يده إلى الأخذ، ويده العليا على كل حال، وأما يد الآدمي فهي أربعة: يد المعطي، وقد تضافرت الأخبار بأنها عُليا. ثانيها: يد السائل، وقد تضافرت بأنها سفلى سواءًا أخذت أم لا، وهذا موافق لكيفية الإعطاء والأخذ غالبًا، وللمقابلة بين العلو والسفل، والمشتق منهما. ثالثها: يد المتعفف عن الأخذ، ولو بعد أن تمد إليه يد المعطي مثلًا، وهذه توصف بكونها عُليا علوًا معنوياً. رابعها: يد الآخذ بغير سؤال، وهذه قد اختلف فيها، فذهب جمع إلى أنها سُفلى، وهذا بالنظر إلى الأمر المحسوس، وأما المعنويّ فلا يطرد، فقد تكون عُليا في بعض الصور، وعليه يحمل كلام من أطلق أنها عُليا.
قال ابن حِبّان: اليد المتصدقة أفضل من السائلة، لا الآخذة بغير سؤال، إذ محالٌ أن تكون اليد التي أُبيح لها استعمال فعل باستعماله دون من فرض عليه إتيان شيء، فأتى به، أو تقرب إلى ربه متنفلًا، فربما كان الآخذ لما أبيح له أفضل وأورع من الذي يعطي. وعن الحسن البصريّ: اليد العليا المُعْطِية، والسفلى المانعة. ولم يوافق على ذلك. وأطلق آخرون من المتصوفة أن اليد الآخذة أفضل من المعطية مثلًا، وقد حكى ابن قُتيبة ذلك عن قوم، ثم قال: وما أرى هؤلاء إلا قومًا استطابوا السؤال، فهم يحتجون للدناءة، ولو جاز هذا لكان المولى من فوق هو الذي كان رقيقًا فأُعتق، والمولي من أسفل هو السيد الذي أعتقه.
ولجمال الدين بن بُناتة معنى آخر في تأويل الحديث، فقال: اليد هنا هي النعمة، وكأنَّ المعنى أن العطية الجزيلة خيرٌ من العطية القليلة، وهذا حث على المكارم بأوجز لفظ، ويشهد له أحد التأويلين في قوله:"ما أبقت غنى" أي: ما حصل به للسائل غنى عن سؤاله، كمن أراد أن يتصدق بألف، فلو أعطاها لمئة إنسان لم يظهر عليهم الغنى، بخلاف ما لو أعطاها لرجل واحد، قال: وهذا أولى من حَمْلِ اليد على الجارحة؛ لأن ذلك لا يستمر، إذ فيمن يأخذ مَنْ هو خير عند الله تعالى ممن يعطي، والتفاضل هنا راجع إلى الإعطاء والأخذ، ولا يلزم منه أن يكون المعطي أفضل من الآخذ على الإطلاق.
وقد روى إسحاق في مسنده أن حكيم بن حِزام قال: يا رسول الله، ما اليد العليا؟ قال:"التي تعطي ولا تأخذ". فقوله: "ولا تأخذ" صريح في أن الآخذة ليست بعُليا، وكل هذه التأويلات المتعسفة تضمحل عند الأحاديث المتقدمة، المصرحة بالمراد، فأولى ما فسر به الحديثُ الحديثُ، ومحصل ما في الآثار المتقدمة أن أعلى الأيدي المنفقة ثم المتعففة عن الأخذ، ثم الأخذة بغير سؤال، وأسفل الأيدي السائلة والمانعة.
وفي الحديث الحث على الإنفاق في وجوه الطاعة، وفيه تفضيل الغنى، مع القيام بحقوقه،