الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العموم من رواية آدم، وفيه رد على من زعم أن ذلك خاص بالميتين المذكورين، لغيب أطلع الله نبيَّه عليه، وإنما هو خبر عن حكم أعلمه الله به. وقوله: أنتم شهداء الله في الأرض، أي المخاطبون بذلك من الصحابة، ومن كان على صفتهم من الإِيمان.
وحكى ابن التين أن ذلك مخصوص بالصحابة، لأنهم كانوا ينطقون بالحكمة بخلاف من بعدهم. قال: والصواب أن ذلك يختص بالمتقيات والمتقين. وسيأتي في الشهادات بلفظ "المؤمنون شهداء الله في الأرض". ولأبي داود عن أبي هُريرة في نحو هذه القصة "إن بعضكم على بعض لشهيد" وسيأتي مزيد بسط في الكلام على الحديث الذي بعده.
قال النوويّ: والظاهر أن الذي أثنوا عليه شرًا كان منافقًا لما رواه أحمد عن أبي قتادة بإسناد صحيح، أنه صلى الله تعالى عليه وسلم "لم يصل على الذي أثنوا عليه شرًا، وصلى على الآخر".
رجاله أربعة
قد مرّوا، مرَّ آدم وشعبة في الثالث من الإِيمان، ومرَّ عبد العزيز بن صهيب في الثامن منه، وأنس في السادس منه، وفي الحديث لفظ جنازة مبهمة، ولم أقف على تسميتها.
الحديث الثالث والعشرون والمئة
حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ هو الصفار حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ قَالَ: قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ وَقَدْ وَقَعَ بِهَا مَرَضٌ، فَجَلَسْتُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَمَرَّتْ بِهِمْ جَنَازَةٌ فَأُثْنِيَ عَلَى صَاحِبِهَا خَيْرًا فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه وَجَبَتْ. ثُمَّ مُرَّ بِأُخْرَى فَأُثْنِيَ عَلَى صَاحِبِهَا خَيْرًا، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه وَجَبَتْ. ثُمَّ مُرَّ بِالثَّالِثَةِ، فَأُثْنِيَ عَلَى صَاحِبِهَا شَرًّا فَقَالَ وَجَبَتْ. فَقَالَ أَبُو الأَسْوَدِ فَقُلْتُ وَمَا وَجَبَتْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ قُلْتُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَيُّمَا مُسْلِمٍ شَهِدَ لَهُ أَرْبَعَةٌ بِخَيْرٍ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ. فَقُلْنَا وَثَلَاثَةٌ قَالَ وَثَلَاثَةٌ. فَقُلْنَا وَاثْنَانِ قَالَ وَاثْنَانِ. ثُمَّ لَمْ نَسْأَلْهُ عَنِ الْوَاحِدِ.
قوله: حدثنا عفان، كذا للأكثر، وذكر أصحاب الأطراف أنه أخرجه قائلًا فيه "قال عفان" وبذلك جزم البيهقيّ، وقد وصله أبو بكر بن أبي شيبة في مسنده عن عفان، ومن طريقه أخرجه الإِسماعيليّ وأبو نعيم، فقوله: وقد وقع بها مرض، زاد المصنف في الشهادات "وهم يموتون موتًا ذريعًا، وهو بالذال المعجمة، أي: سريعًا.
وقوله: فأثني على صاحبها خيرًا، كذا في جميع الأصول "خيرًا" بالنصب، وكذا "شرًا"، وقد غلط من ضَبط أُثْنِي، بفتح الهمزة على البناء للفاعل، فإنه في جميع الأصول مبني للمفعول، قال ابن التين: والصواب الرفع، وفي نصبه بعد في اللسان، ووجهه غيره بأن الجار والمجرور أقيم مقام المفعول الأول، وخيرًا مقام الثاني. وهو جائز وإن كان المشهور عكسه.
وقال النوويّ: هو منصوب بنزع الخافض، أي: أُثني عليها بخير، وقال ابن مالك:"خيرًا"، صفة لمصدر محذوف فأقيمت مقامه، فنصبت لأن أثنى مسند إلى الجار والمجرور. قال: والتفاوت بين الإِسناد إلى المصدر والإِسناد إلى الجار والمجرور قليلٌ. وقوله: فقال أبو الأسود، هو الراوي، وهو بالإِسناد والمذكور.
فقلت: وما وجبت، هو معطوف على شيء مقدّر، أي: قلت: هذا شيء عجيب، وما معنى قولك لكل منهما وجبت مع اختلاف الثناء بالخير والشر؟ وقوله: أيما مسلم الظاهر أنه هو المقول، وحينئذ يكون قول عمر لكل منهما: وجبت، قاله بناء على اعتقاده صدق الوعد المستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم "أدخله الله الجنة" وأما اقتصار عمر على ذكر أحد الشقين، فهو إما للاختصار، وإما لاحالته السامع على القياس، والأول أظهر.
وعرف من القصة المذكورة أن المثني على كل من الجنائز كان أكثر من واحد، وكذا في قول عمر "قلنا: وما وجبت" إشارة إلى أن السائل عن ذلك هو وغيره، وقد وقع في تفسير قوله تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} في البقرة عند ابن أبي حاتم عن أبي هُريرة أن أُبيّ بن كعب ممن سأل عن ذلك. وقوله: فقلنا: وثلاثة؟ فيه اعتبار مفهوم الموافقة، لأنه سأل عن الثلاثة، ولم يسأل عما فوق الأربعة، كالخمسة مثلًا. وفيه أن مفهوم العدد ليس دليلًا قطعيًا، بل هو في مقام الاحتمال.
وقوله: ثم لم نسأله عن الواحد، قال الزين بن المنير: إنما لم يسأل عمر عن الواحد استبعادًا منه أن يكتفى في مثل هذا المقام العظيم بأقل من النصاب، وقال أخوه في الحاشية: فيه إيماء إلى الاكتفاء بالتزكية بواحد، كذا قال. وفيه نظر، وقد استدل به المصنف على أن أقل ما يكتفى به في الشهادة اثنان، كما يأتي في كتاب الشهادات، إن شاء الله تعالى.
قال الداوديّ: المعتبر في ذلك شهادة أهل الفضل والصدق لا الفسقة، لأنهم قد يثنون على من يكون مثلهم، ولا مَنْ بَيْنه وبني الميت عداوة، لأن شهادة العدو لا تقبل، وفي الحديث فضيلة هذه الأمة، وإعمال الحكم بالظاهر. ونقل الطيبيّ عن بعض الشراح المصابيح، قال: ليس معنى قوله "أنتم شهداء الله في الأرض" أي: الذي يقولونه في حق شخص يكون كذلك، حتى يصير من يستحق الجنة من أهل النار بقولهم، ولا العكس، بل معناه أن الذي أثنوا عليه خيرًا رَأوْهُ منه كان ذلك علامة كونه من أهل الجنة، وبالعكس، وتعقبه الطيبيّ بأن قوله "وجبت" بعد الثناء حكمٌ عَقبَ وصفًا مناسبًا، فأشعر بالعلية، وكذا قوله "أنتم شهداء الله في الأرض" لأن الإِضافة فيه للتشريف، لأنهم بمنزلة عالية عند الله، فهو كالتزكية للأمة بعد أداء شهادتهم، فينبغي أن يكون لها أثر. قال: وإلى هذا يومى قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} وقد استشهد محمد بن كعب القُرظِيّ، لمّا روي عن جابر نحو حديث أنس، بهذه الآية، أخرجه الحاكم، وقد وقع ذلك في حديث مرفوع عند ابن أبي حاتم في التفسير، وفيه أن الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: وما قولكَ وَجَبت؟ هو أُبيّ بن كعب.
وقال النوويّ: قال بعضهم معنى الحديث أن الثناء بالخير لمن أثنى عليه أهل الفضل، وكان ذلك مطابقًا للواقع، فهو من أهل الجنة، فإن كان غير مطابق، فلا، وكذا عكسه. قال: الصحيح أنه على عمومه، وإن من مات منهم فألهم الله تعالى الناسَ الثناء عليه بخيرٍ، كانَ دليلًا على أنه من أهل الجنة، سواء كانت أفعاله تقتضي ذلك أم لا، فإن الأعمال داخلةٌ تحت المشيئة، وهذا إلهام يستدل به على تعيينها، بهذا تظهر فائدة الثناء.
في هذا في جانب الخير واضح، ويؤيده ما رواه أحمد وابن حِبّان والحاكم عن أنس مرفوعًا "ما من مسلم يموت، فيشهد له أربعة من جيرانه الأدْنِين أنهم لا يعلمون منه إلا خيرًا، إلا قال الله تعالى "قد قبلتُ قولكم، وغفرتُ له ما لا تعلمون".
ولأحمد عن أبي هريرة نحوه، وقال ثلاثة بدل أربعة، وفي إسناده من لم يسم، وله شاهد من مراسيل بشير بن كعب، أخرجه أبو مسلم الكجيّ، وأما جانب الشر، فظاهر الأحاديث أنه كذلك، لكن إنما يقع ذلك في حق من غلب شره على خيره. وفي رواية النضر المشار إليها أولًا، في آخر حديث أنس، أنَّ لله ملائكة تنطق على ألسنة بني آدم بما في المرء من الخير والشر، واستدل به على جواز ذكر المرء بما فيه من خير أو شر، للحاجة، ولا يكون ذلك من الغيبة، وسيأتي البحث عن ذلك في باب النهي عن سبب الأموات، آخر الجنائز، وهو أصل في قبول الشهادة بالاستفاضة، وأن أقل أصلها إثنان.
وقد أباح العلماء الغيبة في أمور جمعها القائل في قوله:
تجنب غيبة إلا أمورًا
…
ببيت جاء عن بعض الأكابرِ
تظلَّم واستغثْ واستفتِ حذر
…
وعرف بدعة فسق المجاهِر
فهل تباح في حق الميت أيضًا؟ وإنّ ما جازت غيبة الحي به تجوز غيبة الميت به أم يختص جواز الغيبة في هذه المواضع المستثناة بالأحياء؟ ينبغي أنْ ينظر في السبب المبيح للغيبة إن كان قد انقطع بالموت كالمعاملة، فهذا لا يذكر في حق الميت، لأنه قد انقطع بموته. وإن لم ينقطع بموته كجَرْح الرواة، وكونه يؤخذ عنه اعتقاد ونحوه، فلا بأس بذكره به ليحذر ويجتنب.
وهل يختص الثناء الذي ينفع الميت بالرجال أم يشترك فيه النساء والرجال؟ وإذا قلنا يشتركون فيه، فهل يكتفى في ذلك بامرأتين، أو لابد من رجل وامرأتين، وأربع نسوة؟ الظاهر الاكتفاء باثنين مسلمين، وأنه لا يحتاج إلى قيام امرأتين مقام رجل واحد، فقد روى الطبرانيّ في الكبير عن كعب بن عُجْرة قال:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا لأصحابه" ما تقولون في رجل قتل في سبيل الله؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال: الجنة إن شاء الله تعالى، قال: فما تقولون في رجل مات، فقام رجلان ذوا عدل، فقالا: لا نعلم إلا خيرًا؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم، قال: الجنة إن شاء الله تعالى. قال: فما تقولون في رجل مات فقام رجلان ذوا عدل فقالا: لا نعلم خيرًا؟ قالوا: النار. قال صلى الله عليه وسلم: مذنب،