الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الخامس والمئة
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّكَنِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَهْضَمٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ نَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاةِ.
قوله: زكاة الفطر، زاد مسلم عن نافع "من رمضان" واستدل به على أن وقت وجوبها غروب الشمس ليلة الفطر، لأنه وقت الفطر من رمضان. وقيل: وقت وجوبها طلوع الفجر من يوم العيد، لأن الليل ليس محلًا للصوم، إنما يتبين الفطر الحقيقي بالأكل بعد طلوع الفجر. والأول قول الثوري وأحمد وإسحاق والشافعي، في الجديد، وأحد الروايتين عن مالك. والثاني قول أبي حنيفة والليث والشافعيّ في القديم. والرواية الثانية عن مالك، ويقويه قوله في حديث الباب "وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة".
قال المازريّ: قيل إن الخلاف ينبني على أن قوله "الفطر من رمضان" الفطر المعتاد في سائر الشهر، فيكون الوجوب بالغروب، أو الفطر الطارىء بعد، فيكون بطلوع الفجر. وتظهر ثمرة الخلاف فيمن وُلد أو اشتُري بعد الغروب، واستمر للفجر، تجب على الثاني دون الأول. وقال ابن دقيق العيد: الاستدلال بذلك لهذا الحكم ضعيف، لأن الإضافة إلى الفطر لا تدل على وقت الوجوب، بل تقتضي إضافة هذه الزكاة إلى الفطر من رمضان. وأما وقت الوجوب فيطلب من أمر آخر.
وقوله: صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير، انتصب صاعًا على التمييز، أو أنه مفعول ثان، ولم تختلف الطرق عن ابن عمر في الاقتصار على هذين الشيئين، إلا ما أخرجه أبو داود والنَّسائي، عن نافع فزاد فيه السُّلْتَ والزَّبيب، والسلت بضم المهملة وسكون اللام بعدها مثناة، نوع من الشعير. ومذهب مالك والشافعي، وأحمد وإسحاق أنَّ صدقة الفطر صاع من البر، ومذهب أبي حنيفة نصف صاع من بر أو دقيق أو سويق أو زبيب، أو صاع من تمر أو شعير. وقال أبو يوسف ومحمد: الزبيب بمنزلة التمر والشعير. وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة. والأول رواية محمد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة.
وقوله: على العبد والحر، ظاهره إخراج العبد عن نفسه، ولم يقبل به إلا داود، فقال: يجب على السيد أن يمكِّن العبد من الاكتساب لها، كما يجب عليه أن يمكنه من الصلاة، وخالفه أصحابه والناس، واحتجوا بحديث أبي هريرة مرفوعًا "ليس في العبد صدقة إلا صدقة الفطر" أخرجه مسلم. وفي رواية له "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة إلا صدقة الفطر والرقيق" ومقتضاه أنها واجبة على السيد.
وهل تجب عليه ابتداء، أو تجب على العبد، ثم يتحملها السيد؟ وجهان للشافعية، وإلى الثاني نحا البخاريّ ومذهب الجمهور: مالك والليث والأوزاعي والشافعي، وإسحاق، أنها واجبة على السيد، ولو كان للتجارة. وقال عطاء والنخعي، والثوري، والحنفيون: إذا كان للتجارة لا تلزمه فطرته، وأما المُكاتِب فالجمهور أنها لا تجب عليه. وعن مالك قولان: قيل: يخرجها عن نفسه، وقيل: سيده، وهذا هو المشهور، ولا تجب على السيد عند أبي حنيفة والشافعي، وأحمد.
وقوله: والذكر والأنثى، ظاهره وجوبها على المرأة سواء كان لها زوج أم لا، وبه قال الثَّوري وأبو حنيفة وابن المنذر. وقال مالك والشافعي والليث وأحمد وإسحاق: تجب على زوجها، إلحاقًا بالنفقة، وفيه نظر؛ لأنهم قالوا: إن أعسر وكانت الزوجة أمَة، وجبت فطرتها على السيد، بخلاف النفقة فافترقا. قلت: مسألة الأَمة هذه لم أطلع عليها للمالكية، وأيضًا اتفقوا على أن المسلم لا يخرج عن زوجته الكافرة، مع أن نفقتها تلزمه. وإنما احتج القائلون بوجوبها على الزوج بما روي عن ابن عمر من قوله "ممن تَمُونون" وروى نحوه مرسلًا عن محمد الباقر.
وقوله: والصغير والكبير، ظاهره وجوبها على الصغير، لكن المخاطب عنه وليه، فوجوبها على هذا في مال الصغير، وإلا فعلى من تلزمه نفقته، وهذا قول الجمهور. وقال محمد بن الحسن: هي على الأب مطلقًا، فإن لم يكن له أب فلا شيء عليه. قلت: وهذا هو مذهب مالك، وعن سعيد بن المسيب والحسن البصري: لا تجب إلا على من صام واستدل لهما بحديث ابن عباس مرفوعًا "صدقة الفطر طُهْرَة للصائم من اللَّغو والرَّفث" أخرجه أبو داود.
وأجيب بأن ذكر التطهير خرج على الغالب، كما أنها تجب على من لم يذنب، كمتَحقَّق الصلاح، أو من أسلم قبل غروب الشمس بلحظة، ونقل ابن المنذر الإجماع على أنها لا تجب على الجنين. قال: وكان أحمد يستحبه ولا يوجبه. ونقل بعض الحنابلة رواية عنه بالإيجاب، وبه قال ابن حَزم، لكن قيّده بمئة وعشرين يومًا من يوم حمل أمه به. وتعقب بأن الحمل غير محقق، وبأنه لا يسمى صغيرًا، لا لُغَة ولا عُرفًا. واستدل بقوله في حديث ابن عباس "طهرة للصائم" على أنها تجب على الفقير، كما تجب على الغني، وقد ورد ذلك صريحًا في حديث أبي هريرة عن أحمد، وحديث ثعلبة بن أبي صُغير عند الدارقطني.
وعند الحنفية لا تجب إلا على من ملك نصابًا، ومقتضاه أنه لا تجب على الفقير على قاعدتهم في الفرق بين الغني والفقير، واستدل لهم بحديث أبي هريرة المتقدم "لا صدقة إلاّ عن ظهر غِنى" واشترط مالك والشافعيّ ومن تبعهما أن يكون ذلك فاضلًا عن قوت يومه، ومن تلزمه نفقته. وقال ابن بُزَيزة: لم يدل دليل على اعتبار النصاب فيها، لأنها زكاة بدنية لا مالية.
وقوله: من المسلمين، فيه رب على من زعم أن مالكًا تفرد بها في الرواية التي بعد هذه، فقد تابعه عليها سبعة: عمر بن نافع في هذه الرواية، والضحاك بن عثمان عن نافع عند مسلم،
والمعلي بن أسد عن نافع عند ابن حبان، وعبد الله بن عمر عن نافع عند الحاكم في المستدرك، وكثير بن فَرْقَد عن نافع عند الحاكم أيضًا، وعبيد الله بن عمر العمري، عن نافع عند الدارقطني، ويونس بن يزيد عن نافع عند الطحاوي، في مشكله.
واستدل بهذه الزيادة على اشتراط الإِسلام في وجوب زكاة الفطر، ومقتضاه أنها لا تجب على الكافر عن نفسه، وهو أمر متفق عليه، وهل يخرجها عن غيره كمستولدته المسلمة مثلًا؟ نقل ابن المنذر فيه الإجماع على عدم الوجوب، لكن فيه وجه للشافعية، ورواية عن أحمد، وهل يخرجها المسلم عن عبده الكافر؟ قال الجمهور: لا، خلافًا لعطاء والثوري، والحنفية وإسحاق. واستدلوا بعموم قوله "ليس على المسلم في عبده صدقة إلا صدقة الفطر"، وقد مرّ. وأجاب الآخرون بأن الخاص يقضي على العام، فعموم قوله "في عبده" مخصوص بقوله "من المسلمين". وقال الطحاوي: قوله "من المسلمين" صفة للمخرجين لا للمخرج عنهم.
وظاهر الحديث يأباه، لأن فيه العبد، وكذا الصغير في رواية عمر بن نافع، فدل على أن صفة الإِسلام لا تختص بالمخرجين، ويؤيده رواية الضحاك عند مسلم بلفظ "على كل نفس من المسلمين حرًا وعبدًا" الحديث قال القرطبي: ظاهر الحديث أنه قصد بيان مقدار الصدقة ومن تجب عليه، ولم يقصد فيه بيان من يخرجها عن نفسه ممن يخرجها عن غيره، بل شمل الجميع، ويؤيده حديث أبي سعيد الآتي، فإنه دال على أنهم كانوا يخرجون عن أنفسهم وعن غيرهم، لقوله فيه "عن كل صغير وكبير" لكن لابد من أن يكون بين المخرج وبين الغير ملابسة، كما بين الصغير ووليه، والعبد وسيده، والمرأة وزوجها.
وقال الطيبي: قوله "من المسلمين" حال من العبد وما عطف عليه، وتنزيلها على المعاني المذكورة أنها جاءت مزدوجة على التضاد، للاستيعاب لا للتخصيص، فيكون المعنى: فرض على جميع الناس من المسلمين. وأما كونها فيم وجبت، وعلى من وجبت، فيعلم من نصوص أخر. ونقل ابن المنذر أن بعضهم احتج بما أخرجه، أن ابن عمر كان يخرج عن أهل بيته حرِّهم وعبدهم، صغيرهِم وكبيرِهم، مسلمهم وكافرهم، من الرقيق. قال: وابن عمر راوي الحديث، وقد كان يخرج عن عبده الكافر، وهو أعرف بمراد الحديث، وتعقب بأنه لو صح حمل على أنه كان يخرج عنهم تطوعًا، ولا مانع منه، واستدل بعموم قوله "من المسلمين" على تناولها لأهل البادية، خلافًا للزهريّ وربيعة والليث في قولهم: إن زكاة الفطر تختص بالحاضرة.
وقوله: وأمر بها أن تؤدّى قبل خروج الناس إلى الصلاة، وهذا الأمر أمر استحباب، واستدل به على كراهة تأخيرها عن ذلك، وهذا هو قول الأئمة جميعًا. وقال ابن حَزم الأمر فيه للوجوب، فيحرم تأخيرها عن ذلك الوقت.