الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب ما جاء في عذاب القبر
وقوله تعالى {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} هو الهَوان، والهَوْنُ الرفق، وقوله جل ذكره {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} وقوله تعالى {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} .
لم يتعرض المصنف في الترجمة لكون عذاب القبر يقع على الروح فقط، أو عليها وعلى الجسد، وفيه خلاف شهير عند المتكلمين، وكأنه تركه لأن الأدلة التي يرضاها ليست قاطعة في أحد الأمرين، فلم يتقلد الحكم في ذلك، واكتفى بإثبات وجوده، خلافًا لمن نفاه مطلقًا من الخوارج، وبعض المعتزلة، كضرار بن عمرو وبِشر المريسيّ ومن وافقهما. وخالفهما في ذلك أكثر المعتزلة، وجميع أهل السُنَّة وغيرهم، وأكثروا من الاحتجاج له.
وذهب بعض المعتزلة كالجبائيّ إلى أنه يقع على الكفار دون المؤمنين، وبعض الأحاديث الآتية عليهم أيضًا. وقوله: وقوله تعالى، بالجر عطفًا على عذاب القبر، أي: ما ورد في تفسير الآيات المذكورة، وكأن المصنف قدّم ذكر هذه الآية، لينبه على ثبوت ذكره في القرآن، خلافًا لمن رده وزعم أنه لم يرِد ذكره إلا من أخبار الآحاد، فأما الآية التي في الأنعام، فروى الطبرانيّ وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى:{وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} قال: هذا عند الموت، والبسط: الضرب، يضربون وجوههم وأدبارهم، ويشهد له قوله تعالى في سورة القتال {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} وهذا، وإن كان قبل الدفن، فهو من جملة العذاب الواقع قبل يوم القيامة، وإنما أضيف العذاب إلى القبر لكون معظمه يقع فيه، ولكون الغالب على الموتى أن يقبروا، وإلا فالكافر، ومن شاء الله تعذيبه من العصاة، يعذب بعد موته، ولو لم يدفن. ولكن ذلك محجوب عن الخلق، إلا من شاء الله.
وقوله {وَلَوْ تَرَى} خطاب للنبي عليه الصلاة والسلام، وجواب لو محذوف، أي: لرأيت أمرًا عجيبًا عظيمًا، وكلمة "إذا" ظرف مضاف إلى جملة اسمية، وهي قوله:{الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} وقال الزمخشري: يريد بالظالمين الذين ذكرهم من اليهود والمتنبئة، فيكون اللام للعهد، ويجوز أن يكون للجنس، فيدخل فيه هؤلاء لاشتماله. وقال غيره: المراد من الظالمين قوم كانوا أسلموا بمكة، أخرجهم الكفار إلى قتال بدر، فلما أبصروا أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام
رجعوا عن الإِيمان. وقيل: هم الذين قالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء.
وقوله {فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} أي: في شدائده وسكراته وكرباته، وهو جمع غمرة، وأصل الغمرة ما يغمر من الماء، فاستعيرت للشدة الغالبة. وقوله:{بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} قد مرَّ تفسيره، وقال الزمخشري: يبسطون إليهم يقولون: هاتوا أرواحكم أخرجوها الينا من أجسادكم، وهذه عبارة عن العنف في السياق، والإِلحاح والتشديد في الإِرهاق من غير تنفيس وإمهال. وقال الضحّاك: باسطوا أيديهم بالعذاب.
وقوله: أخرجوا أنفسكم، أي: تقول الملائكة: أخرجوا أنفسكم، وذلك لأن الكافر إذا احتُضر، بشرته الملائكة بالعذاب والنَّكال والسلاسل والجحيم وغضب الرحيم، فَتَغرَّقُ روحه في جسده، ويعطي ويأبى الخروج، فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم قائلين لهم؛ أخرجوا أنفسكم. وقيل: معناه أخرجوا أنفسكم من العذاب إن قدرتم، تقريعًا لهم، وتوبيخًا. واحتُج بهذه الآية على أن النفس والروح شيء واحد، لقوله تعالى {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} والمراد الأرواح، وهي مسألة مشهورة، فيها أقوال كثيرة، وقد مرَّ استيفاء الكلام عليها في كتاب العلم في باب "وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا" وبقية قليلة في باب الأذان بعد ذهاب الوقت، من كتاب المواقيت.
وقوله {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} أي: اليوم تهانون غاية الإهانة بما كنتم تكفرون بالله، وتستكبرون عن اتباع آياته، والانقياد لرسله. وقال الزمخشري: اليوم تجزون، يجوز أن يراد به وقت الإِماتة، وما يعذبون به من شدة النزع، وأن يراد الوقت الممتد المتطاول الذي يلحقهم فيه العذاب، في البرزخ والقيامة.
وفسر البخاريّ الهُون، بالضم، بأنه الهَوان، وهو الشديد، وإضافة العذاب له كقولك: رجلُ سَوْءٍ، يريد العراقة في الهوان، والتمكن فيه. وفسر الهَون، بفتح الهاء، بأنه الرفق، كما في قوله تعالى:{الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} أي برفق وسكينة.
قوله: وقوله تعالى {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} روى الطبريّ وابن أبي حاتم والطبرانيّ عن ابن عباس قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة فقال: اخرجْ يا فلان، فإنك منافق، واخرج يا فلان فإنك منافق، فأخرج من المسجد ناسًا منهم فضحهم، فجاء عمر رضي الله تعالى عنه وهم يخرجون، فأختبأ منهم حياءًا، وأنه لم يشهد الجمعة، وظن أن الناس قد انصرفوا، واختبئوا هم منه، ظنوا أنه قد علم بأمرهم، فجاء عمر، فدخل المسجد فإذا الناس لم يصلوا، فقال له رجل من المسلمين: أبشر يا عمر، فقد فضح الله المنافقين. قال ابن عباس: فهذا العذاب الأول حين أخرجهم من المسجد، والعذاب الثاني عذاب القبر.
وقال الطبريّ، بعد أن ذكر اختلافًا: والأغلب أن إحدى المرتين عذابُ القبر، والأخرى تحتمل