الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب في الركاز الخمس
الرِّكاز، بكسر الراء وتخفيف الكاف وآخره زاي، المال المدفون، مأخوذ من الرَّكْز، بفتح الراء، يقال: ركزه ركزًا إذا دفنه، فهو مركوز. وهذا متفق عليه. واختلف في المعدن كما سيأتي.
ثم قال: وقال مالك وابن إدريس: الرّكاز دِفْن الجاهلية، في قليله وكثيره الخمس، وليس المعدن بركاز. وقوله: دِفن الجاهلية، بكسر الدال وسكون الفاء: الشيء المدفون، كذِبح بمعنى مَذْبوح. وأما بالفتح فهو المصدر، ولا يراد هنا. وقوله: في قليله وكثيره الخمس، نقله ابن المُنذر عن مالك. وفيه عند أصحابه خلاف. وهو قول الشافعيَّ، كما نقله ابن المنذر واختاره. وأما في الجديد، فقال: لا يجب فيه الخُمس حتى يبلغ نصاب الزكاة. والأول قول الجمهور، كما نقله ابن المنذر أيضًا، وهو مقتضى ظاهر الحديث أما قول مالك، فرواه أبو عبيد في كتاب الأموال موصولًا، وكذا هو في الموطأ إلا أنَّ فيه "عن مالك عن بعض أهل العلم". ومالك هو صاحب المذهب، وقد مرّ في الثاني من بدء الوحي.
وأما ابن إدريس، فقد قيل: المراد الشافعيّ، وهذا هو الصحيح الذي جزم به زيد المروزيّ، أحد الرواة عن الغريريّ، وتابعه البيهقيّ في المعرفة، من طريق الربيع، ولم يوجد عن الأوديّ. وقيل: المراد به عبد الله بن إدريس الأودي الكوفيّ. وقال ابن التين: هو الأشبه، ولم يبين وجه الشبه، والصحيح هو الأول كما مرَّ، وها أنا أذكر تعريف الاثنين تتميمًا للفائدة، فأقول:
الأول محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطَّلب بن عبد مناف القرشيّ المطَّلبيّ، أبو عبد الله الشافعيّ المكيّ نزيل مصر، وأمه فاطمة بنت عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب. قال عمرو بن سواد: قال لي الشافعي: ولدتُ بعسقلان، فلما أتى عليَّ سنتان، حملتني أمي إلى مكة، وكانت نهمتي في الرّمي والعلم، فنلت من الرمي حتى كنت أصيب من العشرة عشرة، وسكت عن العلم، فقلت له: والله أنت في اعلم أكثر منك في الرمي.
وقال ابن عبد الحكم: قال لي الشافعيّ: ولدت بغزة سنة خمسين ومئة، وحملت إلى مكة وأنا ابن سنتين، وقال أبو عبد الله، أخو ابن وهب: سمعت الشافعيّ يقول: ولدتُ باليمن، فخافت عليّ أمي الضيعة، فقالت: إلحق بأهلك، فجهزتني إلى مكة، فقدمتها وأنا ابن عشر. وقال ابن عبد الحكم: لما حملت أم الشافعي به، رأت كأن المشتري خرج من فرجها حتى انقضّ بمصر. ثم
وقع في كل بلد منه شُطْيَة، فتأول أصحاب الرؤيا أنه يخرج منها عالم يخص علمه أهل مصر، ثم يتفرق في سائر البلدان. وقال المُزَنيّ: سمعتُ الشافعي يقول: رأيت عليّ بن أبي طالب في النوم، فسلم عليّ وصافحني، وخلع خاتمه وجعله في أُصْبُعي، وكان لي عم، ففسرها لي فقال لي: أما مصافحتك له، فأمانٌ من العذاب، وأما خلع خاتمه وجعله في أُصبعك فسيبلغ اسمك ما بلغ اسمه.
وقال أبو نعيم؛ عبد الملك بن محمد في قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اهد قريشًا علمًا، فإن عالمها يملأ طباق الأرض .. " الحديث. في هذا الحديث علامة بينة للميزان، المراد بذلك رجل من علماء هذه الأمة من قريش، قد ظهر علمه، وانتشر في البلاد، وهذه صفة لا نعلمها قد أحاطت إلا بالشافعيّ، إذا كان كل واحد من قريش من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وإن كان علمه قد ظهر وانتشر، فإنه لم يبلغ مبلغًا يقع تأويل كل هذه الرواية عليه، إذ كان لكل واحد منهم نتفٌ وقطعٌ من العلم، ومسائلٌ. وليس في كل بلد من بلاد المسلمين مدرسٌ ومفتٍ ومصنف يصنف على مذهب قرشيّ إلا على مذهب الشافعيّ، فعلم أنه يعنيه لا غيره. وحديث عالم قريش هذا أخرجه أبو داود الطيالسيّ في مسنده. وفيه الجارود، مجهول، ولكن له شواهد، وجمع الحافظ بن حَجَر طُرُقَه في كتاب سماه "لذة العيش في طُرُق حديث الأئمة من قُريش".
وقال أحمد بن حنبل: إن الله يقيض للناس في كل رأس مئة سنة من يعلِّمهم السنن، وينفي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الكذب، فنظرنا؛ فإذا في رأس المئة عمر بن عبد العزيز، وفي رأس المئتين الشافعيّ. وقال أيضًا. هذا الذي تروون كله، أو عامته من الشافعيّ، وما بِتُّ منذ ثلاثين سنة إلا وأنا أدعو الله واستغفر للشافعيّ. وقال أبو داود: ما رأيت أحمد يميل إلى أحد ميله إلى الشافعيّ، وقال حميد بن أحمد المصريّ: كنت عند أحمد بن حنبل نتذاكر في مسألة، فقال رجل لأحمد: يا أبا عبد الله، لا يصح فيه حديث، فقال: إن لم يصح فيه حديث ففيه قول الشافعيّ، وحجته أثبت شيء فيه. وقال إسحاق بن راهويه: قال لي أحمد بن حنبل بمكة: تعال أُريك رجلًا لم تر عيناك مثله، فأقامني على الشافعي، وقال أحمد: سمعت الموطأ من بضعة عشر نفسًا من حُفّاظ أصحاب مالك، فأعدته على الشافعي، لأني وجدته أقومهم.
وقال المزنيّ: سمعت الشافعيّ يقول: حفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين، وحفظت الموطأ وأنا ابن عشر. وقال الحُميديّ: سمعت مسلم بن خالد، ومرَّ على الشافعيّ وهو يفتي وهو ابن خمس عشرة سنة، فقال له: افتِ، فقد آن لك أن تفتي. وقال أبو ثَور: كتب عبد الرحمن بن مَهْدِيّ إلى الشافعيّ، وهو شاب، أن يضع له كتابًا فيه معاني القرآن، ومعجم قبول الأخبار فيه، وحجة الإجماع، وبيان الناسخ والمنسوخ، فوضع له كتاب الرسالة، فكان عبد الرحمن يقول: ما أصلي صلاةً إلا وأنا أدعو للشافعيّ فيها. وقال عبد الرحمن بن مَهديّ؛ وقد ذكر الشافعيّ فقال: كان شابًا مفهمًا. وقال أبو ثور: ما رأيت مثل الشافعيّ، ولا رأى هو مثل نفسه.
وقال الفضل بن زياد: سمعت أحمد بن حنبل يقول: ما أحد مس مُحبَّرةً إلا وللشافعى في عنقه منَّة. وقال ابن راهويه: الشافعي إمام ما أحد تكلم بالرأي إلا والشافعيّ أكثرهم اتِّباعًا، وأقلهم خطأ. وقال أبو داود ما أعلم للشافعيّ حديثاً خطأ. وقال حَرْمُلة: سمعت الشافعيّ يقول: سميتُ ببغداد ناصر الحديث. وقال الزعفرانيّ: حج بشر المَريسيّ، فقال: رأيت بالحجاز رجلًا ما رأيت مثله سائلًا ولا مجيبًا، ولما قدم الشافعيّ بعد ذلك، فاجتمع إليه الناس، وخفوا عن بشر، فجئت إلى بشر فقلت: هذا الشافعيّ قد قدم، فقال إنه قد تغير، قال الزعفرانيّ: فما كان مَثَله إلا مثل اليهود في ابن سلام.
وقال الميمونيّ: سمعت أحمد بن حنبل يقول: ستة أدعو لهم سَحَرًا: أحدهم الشافعيّ وقال أبو عبيد: ما رأيت رجلًا أعقل من الشافعيّ. وقال قُتيبة: الشافعيّ إمام. وقال أبو ثور: من زعم أنه رأى مثل محمد بن إدريس في عمله وفصاحته وثباته وتمكنه ومعرفته، فقد كذب. كان منقطع القرين في حياته، فلما مضى لسبيله لم يقتض منه. وقال أبو الوليد بن أبي الجارود: ما رأيت أحدًا إلا وكتبه أكثر من مشاهدته، إلا الشافعيّ، فإن لسانه كان أكثر من كتبه. وكان الحميدي إذا جرى عنده ذكر الشافعي قال: حدثنا سيد الفقهاء الإِمام الشافعي.
وقال المُبَرِّد: كان الشافعيّ من أشعر الناس، وأعلمهم بالقراءات. وذكر الحاكم مما يدل على تبحّر الشافعي في الحديث أنه حدث الكثير عن مالك، ثم روى عن الثقة عنده عن مالك، وأكثر عن ابن عيُينة، ثم روى عن رجل عنه، وقال الحسين الكَرابيسيّ: ما كنا ندري ما الكتاب والسنة، نحن والأولون، حتى سمعنا من الشافعيّ. وسئل أبو موسى الضَّرير عن كتب الشافعيّ كيف سارت في الناس؟ فقال: أراد الله بعلمه، فرفعه الله، وقال إسحاق بن راهويه: كيف وضع الشافعيُّ هذه الكتب وكان عمره يسيرًا؟ فقال: جمع الله تعالى له عقله لقلة عمره.
وقال الجاحظ: نظرت كتب الشافعيّ فهذا هي دُرٌّ منظوم، لم أر أحسن تأليفًا منه، وقال هلال بن العلاء: لقد منَّ الله على الناس بأربعة: الشافعيّ فَقَّه الناس في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال أحمد بن سيّار: لولا الشافعيّ لدرس الإِسلام. وقال أبو زرعة الرازيّ: ما عند الشافعيّ حديث غلط. وقال يحيى بن أكثم: ما رأيت أعقل منه. وقال ابن مُعين: لو كان الكذب له مطلقًا لكانت مروءته تمنعه أن يكذب. وقال مسلم بن الحجاج في كتابه "الانتفاع بجلود السباع": هذا قول أهل العلم بالأخبار ممن يعرف بالتفقه فيها، والاتباع لها. منهم يحيى بن سعيد وابن مَهدي ومحمد بن إدريس الشافعيّ وأحمد وإسحاق. وكما ذكر في موضع آخر قول من عاب الشافعيّ أنشد:
ورب عبّاب له منظرٌ
…
مشتمل الثوب على العيب
وقال علي بن المَدِينيّ: لا تدع للشافعيّ حرفًا إلا كتبته، فإن فيه معرفة. وقال أبو حاتم: ففيه البدن صدوق. وقال أيوب بن سُويد: ما ظننت أنني أعيش حتى أرى مثله. وقال يحيى بن سعيد
القطان: ما رأيت أعقل ولا أفقه من الشافعيّ. وأنا أدعو الله له، أخصه به وحده في كل صلاة. وقال الأصمعي: سمعت أشعار البدويين على شاب من قريش يقال له محمد بن إدريس، وقال عبد الملك بن هشام: الشافعيُّ بصير باللغة، يؤخذ عنه، ولسانه لغة فاكتبوه. وقال مصعب الزبيريّ: ما رأيت أعلم بأيام الناس منه.
وقال أبو الوليد بن أبي الجارود: كان يقال: إن الشافعيّ لغة وحده، يحتج بها. وقال ابن عبد الحكم: إن أحد من أهل العلم حجة فالشافعيُّ حجة في كل شيء. وقال الزعفرانيّ: ما رأيته لَحَنَ قط. وقال يونس بن عبد الأعلى: كان إذا أخذ في العربية قال: هذه صناعته. وقال النَّسائيّ: كان الشافعيّ عندنا أحد العلماء، ثقة مأمونًا، وقال المزنيّ: كان بصيرًا بالفُروسية والرمي، وصنف كتاب السبق، ولم يسبقه أحد إليه. وقال الحاكم: تتبعنا التواريخ وسائر الحكايات عن يحيى بن مُعين، فلم نجد في رواية واحد منهم طعنًا على الشافعيّ، ولعل من حكى عنه غير ذلك قليل المبالاة بالوضع على يحيى. وقال أبو منصور البغداديّ: بالغ مسلم في تعظيم الشافعيّ في كتاب الانتفاع، وفي كتاب الرد على محمد بن نصر، وعده في هذا الكتاب من الأئمة الذين يرجع إليهم في الحديث، وفي الجرح والتعديل.
قال الذهبيّ: كان حافظًا للحديث، بصيرًا بعلله، لا يقبل منه إلا ما ثبت عنده، ولو طال عمره لازداد منه. وقال الربيع: سمعته يقول: إذا رديت حديثًا صحيحًا، فلم آخذ به، فأشهدكم أن عقلي قد ذهب. وقال إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط. ومناقبه أكثر من الحصر، وقد جمعها ابن أبي حاتم، وزكرياء الساجيّ والحاكم والبيهقيّ والهرويّ وابن عَسَاكر وغيرهم.
روى عن مسلم بن خالد الزّنجيّ ومالك بن أنس وإبراهيم بن سعد وابن عُيينة وابن علية وخلق. وروى عنه سليمان بن داود وأحمد بن حنبل وأبو ثَور إبراهيم بن خالد والحسن بن محمد الزعفرانيّ وغيرهم. مات في آخر يوم من رجب، سنة أربع ومئتين بمصر. وكان قد انتقل إليها سنة تسع وتسعين ومئة.
الثاني عبد الله بن إدريس بن يزيد بن عبد الرحمن بن الأسود الأودي الرعافريّ، أبو محمد الكوفيّ. قال أحمد: كان نسيج وحده. وقال عثمان الدارميّ: قلت لابن مُعين: ابن إدريس أحب إليك أو ابن نمير؟ قال: ثقتان، إلا أن ابن إدريس أرفع منه، وهو ثقة في كل شيء. وقال يعقوب بن شَيبة: كان عابدًا فاضلًا، وكان يسلك في كثير من فتياه ومذاهبه مسالك أهل المدينة. وكان بينه وبين مالك صداقة. وقيل: إن بلاغات مالك سمعها من ابن إدريس. وقال بشر الحافي: ما شرب أحد من ماء الفرات فَسَلِم إلا ابن إدريس.
وقال الحسن بن عُرْفَة: ما رأيتُ بالكوفة أفضل منه. وقال ابن المَدِينيّ: عبد الله بن إدريس فوق أبيه في الحديث. وقال جعفر الفرياتي: سألت ابن نمير عن عبد الله بن إدريس وحفص،
فقال: حفص أكثر حديثًا، ولكن ابن إدريس ما خرج منه فإنه أثبت وأتقن. فقلت: أليس عبد الله أحدَّ في السنَّة؟ قال: ما أقربهما في السنة، وقال ابن عمار: كان من عباد الله الصالحين الزهّاد. وكان إذا لحن أحد في كلامه لم يحدّثه. وقال الكسائيّ: قال لي الرشيد: من أقرأ الناس؟ قلت: عبد الله بن إدريس، ثم حسين الجُعفيّ، وقال أبو حاتم: هو حجة يحتج بها، وهو إمام من أئمة المسلمين، ثقة.
وقال ابن سعد: كان ثقة مأمونًا كثير الحديث، حجة صاحب سنة وجماعة. وقال ابن حِبّان في الثقات: كان صَلبًا في الحديث. وقال النَّسائيّ: ثقة ثبت. وقال ابن خُراش: ثقة، وقال العجليّ: ثقة ثبت صاحب سنة، زاهد صالح. وكان عثمانيًا يحرم النبيذ، ويقول: كل شراب مسكر كثيره حرام يسيره، إني لكم من شُرْبه نذيرٌ. وقال أبو بكر بن أبي شَيبة سمعت ابن إدريس يقول: كتبت حديث أبي الحَوْراء، فخفت أن يتصف بأبي الجوزاء، فكتبت تحته "حور عينْ"، لأنه لم يكن الشكل قد ظهر حينئذ. وقال الخليليّ: ثقة متفق عليه. وقال أحمد بن عُبيد الله العَدانيّ: حدثنا ابن إدريس، وكان مرضيًا.
وروى وكيع أن الرشيد عرض عليه القضاء، فامتنع وقال: لا أصلح له، فولّى حفص بن غياث، فبعث الرشيد إلى ابن إدريس بخمسة آلاف، فردها فقال له: إذا جاءك ابني المأمون فحدثه. فقال: إذا جاءنا مع الجماعة حدثناه. فقال له: لم تكرمنا ولم تقبل صلتنا، وددت أني لم أكن رأيتك. فقال: وأنا وددت أني لم أكن رأيتك. وقال الحسن بن الربيع: قرىء كتاب الخليفة إلى ابن إدريس وأنا حاضر: من عبد الله هارون إلى عبد الله بن إدريس، فشهق وسقط بعد الظهر إلى العصر، وهو على حاله، فأثبته قبل المغرب، وصببنا عليه الماء، فأفاق فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، صار يعرفني حتى كتب إلي، أي ذنب بلغ بي هذا. وقال علي بن نصر الجَهْضَميّ الكبير: قال لي شُعبة: هاهنا رجل من أصحابي من علمه ومن حاله، فجعل يثني عليه، يعني ابن إدريس. وقال الساجيّ: سمعت ابن المثنى يقول: ما رأيت بالكوفة رجلًا أفضل منه.
وروى عنه الأشج أنه قال: قال لي الأعمش: والله لا أحدثك شهرًا، فقلت له: والله لا آتيك سنة، ثم أتبته بعد سنة، فقال: ابن إدريس؟: قلت: نعم. فقال: أحب أن يكون للعربي مرارة. قال الحسن بن عُرفة: حدثنا عبد الله بن إدريس قال: حدثنا ابن أبي خالد عن أبي سَبرة النخعيّ قال: أقبل رجل من اليمن، فلما كان في بعض الطريق مات حماره، فقام وتوضأ وصلى ركعتين، ثم قال: اللهم إني جئت من الدَّثينةِ مجاهدًا في سبيلك، وابتغاء مرضاتك، فأنا أشهد أنك تحيي الموتى، وتبعث من في القبور، لا تجعل لأحد عليّ اليوم مِنّةً، أطلب إليك أن تبعث لي حماري. قال: فقام الحمار ينفض أذنيه.
وقال: حسين بن عمروِ العَنقريّ: لما نزل به الموت بكت ابنته، فقال: لا تبكي. قد خَتَمت في هذا البيت أربعة آلاف خَتْمة. روى عن أبيه وعمه داود والأعمش ومنصور وابن جريج وهشام بن
عروة وغيرهم. وروى عنه مالك بن أنس، وهو من شيوخه، وابن المبارك ومات قبله، وأحمد بن حنبل ويحيى بن مُعين وإسحاق بن راهويه وغيرهم. ولد سنة مئة وعشر، ومات سنة اثنتين وتسعين ومئة في عشر ذي الحجة والزعافريّ في نسبه نسبة إلى الزَّعافر بطن من الأوْد.
ثم قال: وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "في المعدن جبار، وفي الركاز الخمس" أي: فغاير بينهما، وهذا وصله في آخر الباب من حديث أبي هُريرة. ويأتي الكلام عليه.
ثم قال: وأخذ عمر بن عبد العزيز من المعادن من كل مئتين خمسة. وروى البيهقي عن قتادة أن عمر بن عبد العزيز جعل المعدن بمنزلة الركاز، يؤخذ منه، ثم عقب بكتاب آخر فجعل فيه الزكاة. وهذا التعليق وصله أبو عبيد في كتاب الأموال من طريق الثوريّ وعمر بن عبد العزيز في أول الإيمان قبل ذكر حديث منه.
ثم قال: وقال الحسن: ما كان من ركاز في أرض الحرب ففيه الخمس، وما كان في أرض السلم ففيه الزكاة. قال ابن المنذر: لا أعلم أحدًا فرق هذه التفرقة غير الحسن، وهذا التعليق وصله ابن أبي شيبة من طريق عاصم الأحول عنه، والحسن قد مرَّ في الرابع والعشرين من الإيمان.
ثم قال: وإن وجدت اللُّقَطَة في أرض العدو فعرفها، وإن كانت من العدو ففيها الخمس. قال في الفتح: لم أقف عليه موصولًا، وهو بمعنى ما تقدم عنه.
ثم قال: وقال بعض الناس: المعدن ركازٌ مثل دِفن الجاهلية، لأنه يقال أركز المعدن إذا خرج منه شيء، قيل له: قد يقال لمن وهب له شيء أو ربح ربحًا كثيرًا أو كثر ثمره: أركزتَ، ثم ناقض وقال: لا بأس أن يكتمه فلا يؤدي الخمس. قال ابن التين: المراد ببعض الناس أبو حنيفة، وهذا أول موضع ذكره فيه البخاريّ بهذه الصيغة، ويحتمل أن يريد به أبا حنيفة وغيره من الكوفيين ممن قال بذلك. قال ابن بطال: ذهب أبو حنيفة والثَّوري وغيرهما، إلى أن المعدن كالركاز، واحتج لهم بقول العرب: أركز الرجل إذا أصاب ركازًا، وهي قطع من الذهب تخرج من المعادن. والحجة للجمهور تفرقة النبي صلى الله عليه وسلم بين المعدن والركاز بواو العطف، فصح أنه غيره. قال: وما ألزم به البخاريُّ القائل المذكور قد يقال لمن وهب له الشيء أو ربح ربحًا كثيرًا أو كثر ثمرةً أركزتَ حِجةٌ بالغةٌ؛ لأنه لا يلزم من الاشتراك في الأسماء الاشتراك في المعنى إلا إن أوْجَب ذلك من يحب التسليم له، وقد أجمعوا على أن المال الموهب لا يجب فيه الخمس، وإن كان يقال له أركز، فكذلك المعدن.
وأما قوله: ثم ناقض .. إلى آخره، فليس كما قال، وإنما أجاز له أبو حنيفة أن يكتمه إذا كان محتاجًا، بمعنى أنه يتأول أن له حقًا في بيت المال، ونصيبًا في الفيء، فأجاز له أن يأخذ الخمس لنفسه، عوضًا عن ذلك. لا أنه أسقط الخمس عن المعدن. وقد نقل الطحاويّ المسألة التي ذكرها ابن بطال، ونقل أيضًا أنه لو وجد في داره معدنًا فليس عليه شيء، وبهذا يتجه اعتراض البخاريّ.
والفرق بين المعدن والركاز في الوجوب وعدمه، أن المعدن يحتاج إلى عمل ومؤونة ومعالجة لاستخراجه، بخلاف الركاز. وقد جرت عادة الشرع أن ما غلظت مؤونته خفف عنه في قدر الزكاة، وما خفت زيد فيه. وقيل: إنما جعل في الركاز الخمس لأنه مال كافر، فنزل من وجده منزلة الغنائم، فكأن له أربعة أخماسه. وقال الزين بن المنير: كأنَّ الركاز مأخوذ من أرْكزته في الأرض إذا غَرَزته فيها. وأما المعدن فإنه ينبت في الأرض بغير وضع واضع، هذه حقيقتهما، فإذا افترقا في أصلهما، فكذلك في حكمهما.
وحيث إن ابن التين جزم بأن المراد بالبعض هنا أبو حنيفة، اذكر تعريفه، فأقول: هو فقيه العراق النعمان بن ثابت بن زوطا التيميّ الكوفيّ مولى بني تيم الله بن ثعلبة، وقيل إنه من أبناء فارس. قال العجليّ: أبو حنيفة كوفي تيمي من رهط حمزة الزيات، كان خزازًا يبيع الخز. وروى عن إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة. قال: نحن من أبناء فارس الأحرار، ولد جدي النعمان سنة ثمانين، وذهب جدي ثابت إلى عليّ وهو صغير، فدعا له بالبركة فيه وفي ذريته. قال ابن مُعين: كان أبو حنيفة ثقة لا يحدث بالحديث إلا بما يحفظه، ولا يحدث بما لا يحفظ.
وقال الذهبيّ: كان إمامًا ورعًا عالمًا عاملًا متعبدًا كبير الشأن، لا يقبل جوائز السلطان، بل يتجر ويتكسب، وسئل يزيد بن هارون: أيُّما أفقه؛ الثَّوريُّ أو أبو حنيفة؟ فقال: أبو حنيفة أفقه، وسفيان أحفظ للحديث. وقال ابن المبارك: أبو حنيفة أفقه الناس، ما رأيت في الفقه مثله. وقال أيضًا: لولا أن الله تعالى أغاثني بأبي حنيفة وسفيان كنت كسائر الناس. وقال سليمان بن أبي شيخ: كان أبو حنيفة ورعًا سخيًا، وقال روح بن عبادة: كنت عند ابن جريج سنة خمسين ومئة، فأتاه موت أبي حنيفة، فاسترجع وتوجع، وقال: أي علم ذهب.
قال: وفيها مات ابن جريج، وقال أبو نعيم: كان أبو حنيفة صاحب غوص في المسائل، وقال يحيى بن سعيد القطان: لا نكذب الله، ما سمعنا أحسن من رأي أبي حنيفة، وقد أخذنا بأكثر أقواله. قال ابن مُعين: كان القطان يذهب إلى قول الكوفيين، ويختار قوله من قولهم. وقال الشافعيّ: الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة. وقال أبو يوسف: بينما أنا أمشي مع أبي حنيفة، إذ سمعت رجلًا يقول لرجل: هذا أبو حنيفة لا ينام الليل، فقال أبو حنيفة: لا يتحدث عني بما لم أفعل، فكان بعد ذلك يُحيي الليل. وقال إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة عن أبيه حماد: لما مات أبي سألنا الحسن بن عمارة أن يتولى غسله ففعل: فلما غسله قال: رحمك الله تعالى، وغفر لك، لم تفطر منذ ثلاثين سنة، ولم تتوسد يمينك بالليل منذ أربعين سنة. وقد أتعبت من بعدك، وفضحت القراء.
وكلم ابن هبيرة أبا حنيفة أن يلي قضاء الكوفة، فأبى عليه، فضربه مئة سوط وعشرة أسواط، وهو على الامتناع فلما رأى ذلك خلّى سبيله، وقال الخريبيّ: الناس في أبي حنيفة حاسد وجاهل. وقال أحمد بن عبدة: قاضي الرّي عن أبيه: كنا عند ابن عائشة، فذكر حديثًا لأبي حنيفة، ثم قال: