الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب من أحب الدفن في الأرض المقدسة أو نحوها
قال الزين بن المنير: المراد بقوله "أو نحوها" بقية ما تشد إليه الرحال من الحرمين، وكذلك ما يمكن من مدافن الأنبياء وقبور الشهداء والأولياء، تيمنًا بالجواز، وتعرضًا للرحمة النازلة عليهم، اقتداء بموسى عليه السلام. وهذا بناء على أن المطلوب القرب من الأنبياء الذين دفنوا ببيت المقدس، وهو الذي رجحه عياض، وقال المهلّب: إنما طلب ذلك ليقرب عليه المشي إلى المحشر، وتسقط عنه المشقة الحاصلة لمن بعد عنه. قلت: هذا بعيد جدًا، فإن موسى لا تحصل له مشقة في الحشر يوم القيامة، ولا يظن ذلك ذو عقل.
الحديث الخامس والتسعون
حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: أُرْسِلَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى عليهما السلام فَلَمَّا جَاءَهُ صَكَّهُ فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ فَقَالَ أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ. فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ عَيْنَهُ وَقَالَ ارْجِعْ فَقُلْ لَهُ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ، فَلَهُ بِكُلِّ مَا غَطَّتْ بِهِ يَدُهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ. قَالَ أَيْ رَبِّ، ثُمَّ مَاذَا قَالَ ثُمَّ الْمَوْتُ. قَالَ فَالآنَ. فَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُدْنِيَهُ مِنَ الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ. قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَوْ كُنْتُ ثَمَّ لأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ عِنْدَ الْكَثِيبِ الأَحْمَرِ.
قوله: أُرسل ملك الموت إلى موسى، بضم الهمزة مبنيًا للمجهول، لم يذكر فيه الرفع هنا، وساقه في أحاديث الأنبياء عن عمر عن همّام بن مُنَبّه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، وساقه مسلم بالسندين كذلك، وقوله:"فلما جاءه صكه" أي: ضربه على عينه، وفي رواية همام عن أبي هُريرة عند أحمد ومسلم "جاء ملك الموت إلى موسى، فقال: أجب ربك، فلطم موسى عينَ ملك الموت، ففقأها".
وفي رواية عَمار بن أبي عمار عن أبي هريرة عند أحمد والطبريّ "كان ملك الموت يأتي الناس عَيانًا، فأتى موسى فلطمه ففقأ عينه" وقوله: لا يريد الموت، زاد همّام "وقد فقأ عيني" فرد الله عليه
عينه، وفي رواية عمار، فقال: يا رب عبدُك موسى فقأ عيني، ولولا كرامته عليك لشققت عليه. وقوله: فقل له يضع يده، في رواية أبي يونس فقل له "الحياةَ تريد؟ فإن كنت تريد الحياة فضع يدك".
وقوله: على مَتْن، بفتح الميم وسكن المثناة، هو الظهر، وقيل مكتنف الصُّلب بين العصب واللحم. وفي رواية عمار "على جلد ثور". وقوله: فله بكل ما غطت به يده بكل شعرة حسنة، وفي رواية "فله بما غطَّى يده". وقوله: ثم الموت، في رواية أبي يونس "قال فالآن يا ربّ من قريبٍ، وفي رواية عمار "فأتاه فقال له: ما بعد هذا؟ قال الموت، قال: فالآن" والآن ظرف زمان غير متمكن، وهو اسم لزمان الحال الفاصل بين الماضي والمستقبل.
وقوله: أنْ يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر، المُقَدّسة أي: المطهرة، وأن مصدرية في موضع نصب، أي: سأل الله الدنو من بيت المقدس ليدفن فيه. وقوله: رمية بحجر، أي دنوا، لو رمى رامٍ حجرًا من ذلك الموضع الذي هو موضع قبره، لوصل إلى بيت المقدس.
قال في الفتح: يحتمل أن يكون المعنى أَدْنِني من مكان إلى الأرض المقدسة هذا القدر، أو أدنني إليها حتى يكون بيني وبينها هذا القدر. وهذا الثاني أرجح، وعليه شرح ابن بطال. وأما الأول، فهو وإن رجَّحه بعضهم، فليس بجيد، إذ لو كان كذلك لطلب الدنو أكثر من ذلك، ويحتمل أن يكون القدر الذي بينه وبين أول الأرض المقدسة كان قدر رمية حجر، فلذلك طلبها.
وحكى ابن بطال عن غيره أن الحكمة في أنه لم يطلب دخولها ليُعَمِّي موضع قبره، لئلا تعبده الجهال من ملته. قال ابن عباس: لو علمت اليهود قبر موسى وهارون لاتخذوهما إلهين من دون الله، ويحتمل أن يكون سر عدم طلبه دخولَ نفس الأرض المقدسة هو أن موسى كان إذ ذاك في التيه، ومعه بنو إسرائيل، وكان أمرهم بالدخول إلى الأرض المقدسة، فامتنعوا فحرم الله عليهم دخولها أبدًا، غير يوشع وكالب، وتَيَّههم في القفار أربعين سنة في ستة فراسخ، وهم ستمائة ألف مقابل. وكانوا يسيرون كل يوم جادّين، فإذا أمسوا كانوا في الموضع الذي ارتحلوا منه، إلى أن أفناهم الموت، ولم يدخل منهم أحد الأرض المقدسة ممن امتنع أولًا أن يدخلها إلا أولادهم، وهم مع يوشع.
ومات هارون ثم موسى عليهما السلام، قبل فتح الأرض المقدسة على الصحيح، فكأنّ موسى لما لم يتهيأ له دخولها لغلبة الجبّارين عليها. ولا يمكن نبشه بعد ذلك لينقل إليها طلبَ القرب منها، لأن ما قارب الشيء يعطى حكمه، وقيل: إنما طلب موسى الدنو لأن النبي يدفن حيث يموت، ولا ينقل، وفيه نظر، لأن موسى قد نقل يوسف، عليهما السلام، معه لما خرج من مصر،
كما أخرجه أبو يعلى وغيره بسند صحيح. وأجيب بأنه إنما نقله بوحي، فتكون خصوصية له.
وقوله: فلو كنت ثَمَّ، بفتح المثلثة، أي: هناك، وقوله: إلى جانب الطريق، وفي رواية "من جانب الطريق" وقوله: عند الكثيب الأحمر، وفي رواية "تحت الكثيب الأحمر" والكثيب، بالمثلثة وآخره موحدة، وزن عظيم، الرملُ المجتمع، وهذا ليس صريحًا في الإِعلام بقبره الشريف، ومن ثم حصل الاختلاف فيه، فزعم ابن حِبّان أن قبره بمَدْيَن بين المدينة وبيت المقدس، وتعقبه الضّياء بأن أرض مَدْين ليست قريبة من المدينة ولا من بيت المقدس. قال وقد اشتهر عن قبر بأريحاء عنده كثيب أحمر أنه قبر موسى، وأريحاء من الأرض المقدسة. وقيل: بالتيه، وقيل: بباب لُدّ ببيت المقدس، أو بدمشق، أو بوادٍ بين بُصرى والبلقاء.
وزاد عمار في روايته "فشمه شمة فقبض روحه، وكان يأتي الناس خفية بعد ذلك، ويقال: إنه أتاه بتفاحة من الجنة، فشمها فمات، وقال وهب: خرج موسى لبعض حاجته، فمر برهط من الملائكة يحفرون قبرًا لم يَرَ قط شيئًا أحسنَ منه، فقال: لمن تحفرون هذا القبر؟ فقالوا: أتحب أن يكون لك؟ قال: وددت، قالوا: فانزل واضطجع فيه، وتوجه إلى ربك، ففعل، ثم تنفس أسهل نَفَس فقبض الله روحه، ثم سوت عليه الملائكة التراب".
وذكر السّديّ في تفسيره أن موسى لما دنت وفاته مشى هو وُيوشع بن نُون، فتاهَ، فجاءت ريحٌ سوداء، فظن يوشع أنها الساعة، فالتزم موسى، فانسل موسى من تحت القميص، فأقبل يوشع بالقميص، وكان عمر موسى مئة وعشرين سنة. قال ابن خزيمة: قد أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث، وقالوا: إن كان عرفه فقد استخف به، وإن كان لم يعرفه فكيف لم يقتص له من فقأ عينه؟
والجواب أن الله تعالى لم يبعث ملك الموت لموسى وهو يريد قبض روحه حينئذ، وإنما بعثه إليه اختبارًا، وإنما لطم موسى مَلَك الموت لأنه رأى آدميًا دخل داره بغير إذنه، ولم يعلم أنه ملك الموت، وقد أباح الشارع فقأ عين الناظر في دار المسلم بغير إذن، وقد جاءت الملائكة إلى إبراهيم وإلى لوط في صورة آدميين، ولم يعرفاهم ابتداءًا، ولو عرفهم إبراهيم لما قدم إليهم المأكول، ولو عرفهم لوط لما خاف عليهم من قومه، وقد جاء المَلَك إلى مريم ولم تعرفه، ولو عرفته لما استعاذت منه، وقد دخل المَلَكان على داود عليه السلام في شبه آدميين يختصمان عنده، ولم يعرفهما، وقد جاء جبريل عليه السلام إلى النبي عليه الصلاة والسلام وسأله عن الإِيمان ولم يعرفه، وقال: ما أتاني في صورة قط إلا عرفته فيها، غير هذه، فكيف يستنكر أن يعرف موسى الملك حين دخل عليه؟ وعلى تقدير أن يكون عرفه، فمن أين لهذا المبتدع مشروعية القصاص بين الملائكة والبشر؟ ثم من أين له أنَّ مَلَك الموت طلب القصاص من موسى ولم يقتص له منه؟
ولخص الخطابي كلام ابن خُزيمة، وزاد فيه أن موسى دفعه عن نفسه، لما رُكِّب فيه من الحِدّة، وأن الله رد عين ملك الموت، ليعلم موسى أنه جاءه من عند الله، فلهذا استسلم حينئذ، وقال النوويّ: لا يمتنع أن يأذن الله لموسى في هذه اللطمة امتحانًا للملطوم، وقال غيره: إنما لطمه لأنه جاء لقبض روحه من غير أن يخيره، لما ثبت أنه لم يقبض نبي حتى يُخير، فلهذا لما خيّره في المرة الثانية أَذْعن. قيل: وهذا أولى الأقوال بالصواب، وفيه نظر، لأنه يعود أصل السؤال، فيقال: لم أقدم مَلَك الموت على قبض نبي الله، وأخل بالشرط، فيعود الجواب أن ذلك وقع امتحانًا.
وزعم بعضهم أن معنى قوله "فقأ عينه" أي: أبطل حجته، وهو مردود بقوله في نفس الحديث "فرد الله عنيه" وقوله:"لطمه وصكه وغير ذلك" من قرائن السياق، وقال ابن قتيبة إنما فقأ موسى العينَ التي هي تخييل وتمثيل، وليست عينًا حقيقة، ومعنى رد الله عينه أي: أعاده إلى خلقته الحقيقية. وقيل: على ظاهره ورد الله إلى ملك الموت عينه البشرية، ليرجع إلى موسى على كمال الصورة، فيكون ذلك أقوى في اعتباره، وهذا هو المعتمد. وجوّز ابن عقيل أن يكون موسى أذن له أن يفعل ذلك بملك الموت، وأمر ملك الموت بالصبر على ذلك، كما أمر موسى بالصبر على ما يصنع الخضر، وفيه أن الملك يتمثل بصورة الإنسان، وقد جاء ذلك في عدة أحاديث، وقد اختلف في جواز نقل الميت من بلد إلى بلد، فقيل: يكره، لما فيه من تأخير دفنه، وتعريضه لهتك حرمته. وقيل: يستحب. والأولى تنزيل ذلك على حالتين، فالمنع حيث لم يكن هناك غرض راجح، كالدفن في البقاع الفاضلة، وتختلف الكراهة في ذلك، فقد تبلغ التحريم والاستحباب حيث يكون ذلك بقرب مكان فاضل.
كما نص الشافعيّ على استحباب نقل الميت إلى الأرض الفاضلة، كمكة وغيرها. وقال القسطلانيّ: ولابد من قرب المنقول إليه، والمراد بالقرب مسافة لا يتغير فيها الميت قبل وصوله، ولا ينبغي التخصيص بالثلاثة، بل لو كان بقربه مقابر أهل الصلاح والخير، فالحكم كذلك، لأن الشخص يقصد الجار الحسن. وعند المالكية يجوز النقل إذا لم يحصل فيه هتك لحرمة الميت، بأن لا يحصل له انفجار ونحو ذلك، وإن كان للدفن مع الصالحين أو مع أقاربه استحب بشرطه المذكور، واستدل بقوله "فلك بكل شعرة سنة" على أنّ الذي بقي من الدنيا كثيرٌ جدًا لأن عدد الشعر الذي تواريه اليد، قدر المدة التي بين موسى وبعثة نبينا عليه الصلاة والسلام مرتين وأكثر.
واستدل به على جواز الزيادة في العمر، وقد قال به قوم في قوله تعالى:{وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} إنه نقص وزيادة في الحقيقة. وقال الجمهور: الضمير في قوله {مِنْ عُمُرِهِ} للجنس لا للعين، أي: لا ينقص من عمر آخر، وهذا كقولهم: عند ثوب ونصفه، أي: ونصف ثوب آخر. وقيل: المراد بقوله {وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} أي: وما يذهب من عمره، فالجميع معلوم عند الله تعالى من قصة موسى عليه السلام أن أجله كان قرب حضوره، ولم يبق منه