الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب قول الله تعالى والعاملين عليها ومحاسبة المصدقين مع الإِمام
قال ابن بطال: اتفق العلماء على أن العاملين عليها السعاةُ المتولون لقبض الصدقة. وقال ابن المنير: يحتمل أن يكون العامل المذكور صرف شيئًا من الزكاة في مصارفه، فحوسب على الحاصل والمصروف. وقال المهلب: حديث الباب أصل في محاسبة المؤتمن، وأن المحاسبة تصحح أمانته، والذي يظهر من مجموع الطرق أن سبب مطالبته بالمحاسبة ما وجد معه من جنس مال الصدقة، وادعى أنه أهدى إليه.
الحديث الثاني والمئة
حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه قَالَ: اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً مِنَ الأَسْدِ عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ يُدْعَى ابْنَ اللُّتْبِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ.
قوله: رجلًا من الأسْد، بفتح الهمزة وسكون السين المهملة، وفي رواية من "بني أسد" وهو يوهم أنه بفتح السين، نسبة إلى بني أسد بن خزيمة القبيلة المشهورة، أو إلى بني أسد بن عبد العُزّى بطن من قريش، وليس كذلك، وإنما كان بوهمه لأن الأزْد تلازمه الألف واللام في الاستعمال، أسماءًا وأنسابًا، بخلاف بني أسد، فبغير ألف ولام في الاسم.
وفي الهبة "استعمل رجلًا من الأزد" وقد ذكر أصحاب الأنساب أن في الأزد بطنًا يقال لهم بنو أسد بالتحريك، ينسبون إلى أسد بن شُريك، بالمعجمة مصغر، فيحتمل أن ابن اللُّتْبِيّة كان منهم، فيصح أن يقال فيه الأزدي، بسكون الزاي، والأسْدي بسكون المهملة وبفتحها، من بني أسَد بفتح السين، ومن بني الأزْد أو الأسْد بالسكون فيهما لا غير. وقوله: على صدقات بني سُليم، وفي رواية: على صدقة، وفي رواية: على الصدقة، وقوله: يدعى ابن اللُّتْبِيّة بضم اللام وسكون المثناة، وقيل بضم اللام وفتح المثناة، وقيل بالهمزة بدل اللام بفتح الهمزة والمثناة وكسر الموحدة، واللتبية أمه، ولم يعرف اسمها.
وهذا الحديث أخرجه هنا مختصرًا، وأخرجه مطولًا في كتاب الأحكام. وها أنا أشرحه على ما في كتاب الأحكام. وقوله: فلما قدم قال هذا لكم وهذا أهدي لي، وفي رواية: فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وحاسبه قال: هذا الذي لكم، وهذه هدية أهديت لي. وعند مسلم عن الزهريّ: فجاء بالمال
فدفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: هذا مالكم، وهذه هدية أهديت لي. وعنده أيضًا عن أبي الزناد: فجاء بسواد كثير، فجعل يقول هذا لكم، وهذا أهدى لي. والسواد، بفتح السين وتخفيف الواو، المراد به الأشياء الكثيرة، والأشخاص البارزة من حيوان وغيره. ولفظ السواد يطلق على كل شخص.
ولأبي نعيم في المستخرج: فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم من يتوفى منه، وهذا يدل على أن قوله في الرواية المذكورة "فلما جاء حاسبه" أي: أمر من بحاسبه، ويقبض منه. وفي رواية أبي نعيم أيضًا: فجعل يقول هذا لكم وهذا لي، حتى ميزه. قال: يقولون: من أين هذا لك؟ قال: أهدي لي، فجاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بما أعطاهم. وقوله: فقام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، زاد في رواية هشام قبل ذلك. فقال: ألا جلست في بيت أبيك وبيت أمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقًا؟ ثم قام فخطب.
وقوله: ما بال العامل نبعثه فيأتي فيقول: هذا لك .. الخ، وفي رواية هشام: فإني أستعمل الرجل منكم على أمور مما ولاني الله. وقوله: فهلاّ جلس في بيت أبيه وأمه، فينظر أيهدى له أم لا، وذلك أن العامل اعتقد أن الذي يهدى له يستبد به دون أصحاب الحقوق، التي عمل فيها، فبين له النبيّ صلى الله عليه وسلم أن الحقوق التي عمل لأجلها هي السبب في الإهداء له، وأنه لو أقام في منزله لم يهد له شيء، فلا ينبغي له أن يستحلها بمجرد كونها وصلت إليه على طريق الهدية، فإن ذاك إنما يكون حيث يتمحض الحق له.
قال المهلب: حيلة العامل ليهدى له تقع بأن يسامح بعض من عليه الحق، فلذلك قال: هلا جلس في بيت أمه لينظر هل يهدى له، فأشار إلى أنه لولا الطمع في وضعه من الحق ما أهدي له. قال: فأوجب النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الهدية وضمها إلى أموال المسلمين .. قال في الفتح: كذا قال، ولم أقف على أخذ ذلك منه صريحًا. قال ابن بطال: دل الحديث على أن الهدية للعامل تكون لشكر معروفه، أو للتحبيب إليه، أو للطمع في وضعه من الحق، فأشار النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى أنه، فيما يهدى له من ذلك، كأحد المسلمين، لا فضل له عليهم فيه، وأنه لا يجوز الاستثناء به.
والذي يظهر أن الصورة الثانية إن وقعت، لم تحل للعامل جزمًا، وما قبلها في طرق الاحتمال. وقوله: والذي نفسي بيده لا يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة، أي لا يأتي بشيء يحوزه لنفسه. وفي رواية: لا يأخذ أحد منها شيئًا، وفي رواية: لا ينال أحدكم منها شيئًا، وفي رواية: لا يَغُل منها شيئًا إلا جاء به، بضم الغين المعجمة من الغلول، وأصله الخيانة في الغنيمة، ثم استعمل في كل خيانة. وقوله: يحمله على رقبته، في رواية: على عنقه إن كان بعيرًا له رُغاء، بضم الراء وتخفيف المعجمة مع المد، صوت البعير. وقوله: أو بقرة لها خُوار، بضم الخاء المعجمة، صوت للبقر "أو شاة تَبْعر" بفتح المثناة الفوقانية وسكون التحتانية بعدها مهملة مفتوحة، ويجوز كسرها. وعند ابن التين: أو شاة لها بَعَار، يعني بفتح التحتانية وتخفيف المهملة، وهو صوت الشاة الشديدة، وقيل: هو بضم أوله.
وقوله: ثم رفع يديه حتى رأينا عُفْرتي إبطيه، وفي رواية عُفْرة إبطه، بالإفراد. ولأبي ذر: عَفْر، بفتح أوله، ولبعضهم بفتح الفاء أيضًا بلا هاء، والعُفْرَة، بضم المهلة وسكون الفاء، تقدم شرحها في أبواب صفة الصلاة. وحاصله أن العَفر بياض ليس بالناصع. وقوله: ألا هل بلّغت ثلاثًا، بالتخفيف، وبلغت بالتشديد. وثلاثًا أي أعادها ثلاثًا. وفي رواية في الهبة: اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت، ثلاثًا. وعند مسلم: اللهم هل بلغت مرتين، والمراد بلغت حكم الله تعالى إليكم، امتثالًا لقوله تعالى {بَلَغَ} وإشارة إلى ما يقع في القيامة من سؤال الأمم هل بلغهم أنبياؤهم ما أرسلوا به إليهم.
وفي الحديث من الفوائد أن الإمام يخطب في الأمور المهمة، واستعمال "أما بعد" في الخطبة، كما تقدم في الجمعة، ومشروعية محاسبة المؤتمن، ومنع العمال من قبول الهدية ممن له عليه حكم، إذا لم يأذن الإمام في ذلك، لما أخرجه التِّرمذيّ، عن معاذ بن جبل قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فقال:"لا تصيبن شيئًا بغير أذني، فإنه غُلول". وقال المهلب: فيه أنها إذا أُخذت تجعل في بيت المال، ولا يختص العامل منها إلا بما أذن له فيه الإِمام. وهو مبني على أن ابن اللُّتْبيَّة أخذ منه ما ذكر أنه أهدي له، لكن لم يرد ذلك صريحًا كما مرَّ. وقال ابن قُدامة في "المغني" لما ذكر الرشوة: وعليه ردها لصاحبها، ويحتمل أن يجعل في بيت المال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر ابن اللتبية برد الهدية التي أهديت له لمن أهداها.
وقال ابن بطال: يلتحق بهدية العامل الهدية لرب الدَّين ممن له عليه دَين، ولكن له أن يحاسب بذلك من دَينه. وفيه إبطال كل طريق يتوصل بها من يأخذ المال إلى محاباة المأخوذ منه، والانفراد بالمأخوذ. وقال ابن المنير: يؤخذ من قوله "هلاّ جلس في بيت أبيه وأمه" جواز قبول الهدية ممن كان يهاديه قبل ذلك، ومحل ذلك إذا لم يزد على العادة. وفيه أن من رأى متاولًا أخطأ في تأويل يضر من أخذ به، أن يشهر القول للناس، ويبين خطأه، ليحذر من الاغترار به.
وفيه جواز توبيخ المخطيء، واستعمال المفضول في الإمارة والإمامة والأمانة، مع وجود من هو أفضل منه، وفيه استشهاد الراوي والناقل بقول من يوافقه ليكون أوقع في نفس السامع، وأبلغ في طمأنينته، وفيه أن السعاة لا يستحقون على قبضها جزاء منها معلوما سبعًا أو ثمنًا وإنما له أجر عمله على حسب اجتهاد الإِمام.
وهذا الحديث هو أصل فعل عمر، رضي الله تعالى عنه، في محاسبة العمال، وإنما فعل ذلك لما رأى ما قالوه من كثرة الأرباح، وعلم أن ذلك من سلطانهم، وسلطانُهم إنما كان بالمسلمين، فرأى مقاسمة أموالهم، واقتدى بقوله عليه الصلاة والسلام "أفلا جلس في بيت أبيه وأمه، فيرى أيهدى له شيء أم لا" ومعناه: لولا الإمارة لم يهدَ له شيء، وهذا اجتهاد من عمر رضي الله تعالى عنه، وإنما أخذ منهم ما أخذ لبيت مال المسلمين لا لنفسه.