الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تدفن هناك، وقولهاهنا "لا تدفني معهم" يشعر بأنه بقي من البيت موضع للدفن، وقولها لعمر: أريده لنفسي، يدل على أنه لم يبق ما يسع إلا موضع قبر واحد، فهما متغايران، والجمع بينهما بأنها كانت أولًا تظن أنه لا يسع إلا قبرًا واحدًا، فلما دفن عمر ظهر أن هناك ما يسع قبرًا آخر.
وفي "التكملة" لابن الأبّار يسنده إلى عائشة أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: إني لا أراني إلا سأكون بعدك، فتأذن لي أن أدفن إلى جانبك؟ قال: وأنّى لكِ ذلك الموضع؟ ما فيه إلا قبري وقبر أبي بكر وعُمرَ وفيه عيسى بن مريم عليهما السلام.
رجاله خمسة:
وفيه ذكر عمر رضي الله تعالى عنه، والوليد بن عبد الملك، وقد مرَّ رجاله إلَاّ فروة، مرَّ علي بن مسهر في الرابع والمئة من استقبال القبلة، ومرَّ هشام وعروة وعائشة في الثاني من بدء الوحي.
وفروة هو ابن أبي المفراء، واسمه معدي كَرِب، الكنديّ أبو القاسم الكوفي، ذكره ابن حِبّان في الثقات، ووثقه الدارقطنيّ، وقال أبو حاتم: صدوق. روى عن علي بن مسهر وأبي الأحوص وعُبيدة بن حميد وغيرهم. وروى عنه البخاري وأبو حاتم وأبو زرعة والتِّرمِذِيّ بواسطة. مات سنة خمس وعشرين ومئتين.
وقد مرَّ عمر في الأول من بدء الوحي، والوليد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم ولي الأمر بعد موت عبد الملك في سنة ست وثمانين، وكان أكبر ولد عبد الملك، وكانت خلافته تسع سنين وثمانية أشهر على المشهور، وكانت وفاته يوم السبت منتصف جمادى الآخرة سنة ست وتسعين بدمشق، بدير مروان، وصلّى عليه عمر بن عبد العزيز وحمل على أعناق الرجال ودفن بمقابر باب الصغير وقيل بباب الفراييس وبعد وفاته بويع بالخلافة لأخيه سليمان بن عبد الملك، وكان بالرّملة.
الحديث الخمسون والمئة
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ حَدَّثَنَا حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الأَوْدِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، اذْهَبْ إِلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رضي الله عنها فَقُلْ يَقْرَأُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَيْكِ السَّلَامَ، ثُمَّ سَلْهَا أَنْ أُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيَّ. قَالَتْ كُنْتُ أُرِيدُهُ لِنَفْسِي، فَلأُوثِرَنَّهُ الْيَوْمَ عَلَى نَفْسِي. فَلَمَّا أَقْبَلَ قَالَ لَهُ: مَا لَدَيْكَ قَالَ: أَذِنَتْ لَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: مَا كَانَ شَيْءٌ أَهَمَّ إِلَيَّ مِنْ ذَلِكَ الْمَضْجَعِ، فَإِذَا قُبِضْتُ فَاحْمِلُونِي ثُمَّ سَلِّمُوا ثُمَّ قُلْ يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ. فَإِنْ أَذِنَتْ لِي فَادْفِنُونِي، وَإِلَاّ فَرُدُّونِي إِلَى مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، إِنِّي لَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَحَقَّ بِهَذَا الأَمْرِ مِنْ هَؤُلَاءِ النَّفَرِ الَّذِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ، فَمَنِ اسْتَخْلَفُوا بَعْدِي فَهُوَ الْخَلِيفَةُ
فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا. فَسَمَّى عُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَسَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ، وَوَلَجَ عَلَيْهِ شَابٌّ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِبُشْرَى اللَّهِ، كَانَ لَكَ مِنَ الْقَدَمِ فِي الإِسْلَامِ مَا قَدْ عَلِمْتَ، ثُمَّ اسْتُخْلِفْتَ فَعَدَلْتَ، ثُمَّ الشَّهَادَةُ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ. فَقَالَ: لَيْتَنِي يَا ابْنَ أَخِي وَذَلِكَ كَفَافًا لَا عَلَيَّ وَلَا لِي أُوصِى الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِي بِالْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ خَيْرًا، أَنْ يَعْرِفَ لَهُمْ حَقَّهُمْ، وَأَنْ يَحْفَظَ لَهُمْ حُرْمَتَهُمْ، وَأُوصِيهِ بِالأَنْصَارِ خَيْرًا الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ أَنْ يُقْبَلَ مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَيُعْفَو عَنْ مُسِيئِهِمْ، وَأُوصِيهِ بِذِمَّةِ اللَّهِ وَذِمَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُوفَى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَأَنْ يُقَاتَلَ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَأَنْ لَا يُكَلَّفُوا فَوْقَ طَاقَتِهِمْ.
هذا طرف من حديث طويل يأتي في مناقب عثمان، وأوله في سياق مقتل عمر، وآخره في قصة بيعة عثمان، وقوله:"يقرأ عمر بن الخطاب عليك السلام"، في رواية المناقب زيادة:"ولا تقل أمير المؤمنين، فإني لست اليوم للمؤمنين أميرًا" قال ابن التين: إنما قال ذلك عندما أيقن بالموت، إشارة بذلك إلى عائشة، حتى لا تحابيه لكونه أمير المؤمنين. وقوله:"لأوثرنَّه اليومَ على نفسي"، قال ابن بطال: إنما استأذنها عمر لأن الموضع كان بيتها، وكان لها فيه حق، وكان لها أن تؤثر به نفسها، فآثرت به عمر.
واستدل بعضهم باستئذان عمر لها على أنها كانت تملك البيت. وفيه نظر، بل الواقع أنها كانت تملك منفعته بالسكنى فيه والإسكان، ولا يورث عنها، وحكم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كالمعتدات لأنهن لا يتزوجن بعده، وقد مرَّ في الحديث الذي قبله وجه الجمع بين قول عائشة:"لأوثرنَّه علي نفسي"، وبين قولها لابن الزبير:"لا تدفني عندهم". ويحتمل أن يكون مرادها بقولها: "لأوثرنَّه على نفسي" الإشارة إلى أنها لو أذنت في ذلك لامتنع عليها الدفن هناك، لمكان عمر، لكونه أجنبيًا منها، بخلاف أبيها وزوجها، ولا يستلزم ذلك أن لا يكون في المكان سعة أم لا، ولهذا كانت تقول بعد أن دفن عمر:"لم أضع ثيابي عني منذ دفن عمر في بيتي" أخرجه ابن سعد وغيره.
وقوله: "ما كان شيء أهم عليّ من ذلك المضجع، فإذا قبضت فاحملوني ثم سلِّموا، ثم قل: يستأذن عمر بن الخطاب"، ذكر ابن سعد عن مالك أن عمر كان يخشى أن تكون أذنت في حياته حياء منه، وأن ترجع عن ذلك بعد موته، فأراد أن لا يكرهها على ذلك. وقوله:"وولج عليه شاب من الأنصار فقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله".
وفي رواية المناقب: "وجاء الناس يثنون عليه، وجاء رجل شاب .. إلخ". وفي رواية الكشميهنيّ: "فجعلوا يثنون عليه" وفي حديث جابر عند ابن سعد من تسمية مَنْ أثنى عليه عبد الرحمن بن عوف، وأنه أجابه بما أجاب به غيره، وروى عمر بن شَيَّة أن المغيرة أثنى عليه، وقال له: هنيئًا لك الجنة، وأجابه بنحو ذلك. وروى ابن أبي شَيبة عن المُسَوّر بن مَخْرَمة أنه ممن دخل
على عمر حين طُعِن، وعند ابن سعد عن جُوَيْرية بن قُدَامة "فدخل عليه الصحابة، ثم أهل المدينة، ثم أهل الشام ثم أهل العراق، فكلما دخل عليه قومٌ بكوا، وأثنوا عليه".
وفي رواية أبي إسحاق عند ابن سعد: "فأتاه كعب الأحبار فقال: ألم أقل لك إنك لا تموت إلا شهيدًا وإنك تقول: من أين وإنّي في جزيرة العرب؟ وقوله: "جاء رجل شاب"، وفي رواية سِماك الحنفيّ عن ابن عباس عند ابن سعد أنه أثنى على عمر فقال له نحوًا مما قال هنا للشاب، فلو لم يكن في رواية الباب من الأنصار لساغ أن يفسر المبهم بابن عباس، لكن لا مانع من تعدد المُثْنين مع اتحاد جوابه، كما تقدم.
ويؤيده أنّ في قصة هذا الشاب أنه لما ذهب رأى عمر إزاره يصل إلى الأرض، فأنكر عليه، ولم يقع ذلك في قصة ابن عباس. وقوله:"كان من القِدَم في الِإسلام ما قد علمت، ثم استخلفت فعدلت، ثم الشهادة بعد هذا كله"، والقِدِم بفتح القاف وكسرها، فالأول بمعنى الفضل والثاني بمعنى السبق، وقوله:"ليتني يا ابن أخي، وذلك كِفَافًا، لا عليّ، ولا لي"، تفسير للكَفاف، بفتح الكاف أي: سواء بسواء. وفي رواية المناقب زيادة "فلما أدبر إذا إزاره يَمَسّ الأرض قال: ردوا عليّ الغلام، قال: يا ابن أخي، ارفع ثوبك، فإنه أنقى لثوبك، وأتقى لربك" وفي إنكاره على الغلام ما كان عليه من الصلابة في الدين، وأنه لم يشغله ما هو فيه من الموت عن الأمر بالمعروف.
وفي رواية المبارك بن فضالة قال ابن عباس: وإن قلت ذلك فجزاك الله خيرًا أليس قد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعز بكَ الدين؟ والمسلمين إذ يخافون بمكة، فلما أسلمت كان إسلامك عزًا، وظهر بك الإِسلام، وهَاجرت فكانت هجرتك فتحًا، ثم لم تغلب عن مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم، من قتال المشركين ثم قُبِض وهو عنك راضٍ، ووازرت الخليفة بعده على منهاج النبي صلى الله عليه وسلم، فضربت من أدبر بمن أقبل، ثم قبض الخليفة وهو عنك راض، ثم وُلِّيتَ بخير ما ولي الناس، مَصَرَّ الله بك الأمصار، وجبا بك الأموال، ونقى بك العدو، وأدخل بك على أهل كل بيت ما يوسعهم في دينهم وأرزاقهم، ثم ختم لك بالشهادة، فهنيئًا لك. فقال: إن المغرور والله من تغرونه، ثم قال: أتشهد لي يا عبد الله عند الله يوم القيامة؟ فقال: نعم فقال: اللهم لك الحمد.
وفي رواية مبارك بن فَضالة أيضًا قال الحسن البصري؛ وذكر له فعل عمر عند موته، وخشيته من ربه، فقال: هكذا المؤمن، جمع إحسانًا وشفقة، والمنافق جمع إساءة وعزة، والله ما وجدت إنسانًا ازداد إحسانًا إلا ازداد مخافة وشفقة، ولا ازداد إساءة إلا ازداد عزة. وقوله:"لا أعلم أحدًا أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ"، وفي رواية "المناقب" فقالوا: أوصي يا أمير المؤمنين، استخلف وسيأتي في الأحكام ما يدل على أن الذي قال له ذلك هو عبد الله بن عمر.
وروى عمر بن مَشيّة بإسناد فيه انقطاع أن أسْلَمَ مولى عمر، قال لعمر حين وقف لم يُوَلِّ أحدًا
بعده: يا أمير المؤمنين ما يمنعك أن تصنع كما صنع أبو بكر؟ ويحتمل أن يكون ذلك قبل أن يطعنه أبو لؤلؤة. فقد روى مسلم عن مَعدان بن أبي طلحة أن عمر قال في خطبته قبل أن يُطعن: إن أقوامًا يأمرونني أن أَستخلف.
وقوله: "فسمَّى عثمان وعليًا
…
إلخ"، وعند ابن سعد من رواية ابن عمر أنه ذكر عبد الرحمن بن عوف وعثمان وعليًا، وفيه قلت لسالم: أبدأ بعبد الرحمن بن عوف قبلهما، قال: نعم، فدل هذا على أن الرواة تصرفوا؛ لأن الواو لا ترتب، واقتصار عمر على الستة من العشرة لا إشكال فيه؛ لأنه منهم، وكذلك أبو بكر، ومنهم أبو عبيدة وقد مات قبل ذلك، وأما سعيد بن زيد فهو ابن عم عمر، فلم يسمه عمر فيهم مبالغة في التبري من الأمر، وقد صرح في رواية المدائنيّ بأسانيده أنَّ عمر عد سعيد بن زيد فيمن توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ، إلا أنه استثناه من أهل الشورى لقرابته منه، وقد صرّح بذلك المدائنيّ بأسانيده قال: فقال عمر: لا أرب لي في أموركم فارغب فيها لأحدٍ من أهلي.
وفي رواية "المناقب" زيادة "يُشَهدُكم عبد الله بن عمر، وليس له من الأمر شيء، كهيئة التعزية له" في رواية الطبري عن المدائنيّ بأسانيده قال: فقال له رجل: استخلف عبد الله بن عمر، قال: والله ما أردتَ الله بهذا، وأخرج ابن سعد بسند صحيح من مرسل إبراهيم النخعي نحوه، قال: فقال عمر: قاتلك الله، والله ما أردت الله بهذا، أأستخلف مَنْ لم يحسن أن يطلق امرأته؟
وقوله: "كهيئة التعزية له"، أي: لابن عمر؛ لأنه لما أخرجه من أهل الشورى في الخلافة، أراد جبر خاطره بأن جعله من أهل المُشاورة في ذلك، وزعم الكرمانيّ أن قوله:"كهيئة التعزية له" من كلام الراوي، ولم أعرف من أين تهيأ له الجزم بذلك مع الاحتمال، وذكر المدائنيّ أن عمر قال لهم: إذا اجتمع ثلاثة على رأي، وثلاثة على رأي، فحكموا عبد الله بن عمر، فإن لم ترضوا بحكمه، فقدموا مَنْ معه عبد الرحمن بن عوف. وفي رواية "المناقب" زيادة "فإن أصابت الإمرة سعدًا فهو ذلك، وإلا فليستعن به أيكم ما أمر، فإني لم أعزله من عجز ولا خيانة" والإِمِرة بكسر الميم، وللكشميهنيّ "الإِمارة"، وزاد المدائنيّ "وما أظن أن يلي هذا الأمر إلا عثمان أو علي، فإن ولي عثمان فرجل فيه لين، وإن ولي عليّ فستختلف عليه الناس، وإن ولي سعد، وإلا فليستعن به الوالي، ثم قال لأبي طلحة: إن الله نصر بكم الإِسلام، فاختر خمسين رجلًا من الأنصار، واستحث هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلًا منهم".
وقوله: "وأوصى الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين" في رواية أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون "فقال ادعو لي عليًا وعثمان وعبد الرحمن وسعدًا والزبير" وكان طلحة غائبًا، قال: فلم يكلم أحدًا منهم غير عثمان وعلي، فقال: يا عليّ لعل هؤلاء القوم يعلمون لك حقك، وقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم وصهرك، وما آتاك الله من الفقه والعلم، فإنْ وُلِّيت هذا الأمر فاتق الله فيه، ثم دعا عثمان فقال: يا عثمان، فذكر له نحو ذلك".
وفي رواية إسرائيل عن أبي إسحاق في قصة عثمان: فإن وَلَّوْك هذا الأمر فاتق الله فيه، ولا تحملن بني أبي مُعَيط على رقاب الناس. ثم قال: ادعوا لي صُهيبًا، فدعى له ثم قال: صل بالناس ثلاثًا، وليحل هؤلاء القوم في بيت، فإذا اجتمعوا على رجل، فمن خالف فاضربوا عنقه. فلما خرجوا من عنده قال: إنْ تولوها الأَجلح يأخذ بهم الطريق، فقال له ابنه: ما يمنعك يا أمير المؤمنين؟ قال: أكره أن أتحملها حيًا وميتًا.
وقد اشتمل هذا الفصل على فوائد عديدة، وله شاهد من حديث ابن عمر، أخرجه ابن سعد بإسناد صحيح، قال: دخل الرهط على عمر، فنظر إليهم فقال: إني قد نظرت في أمر الناس، فلم أجد عند الناس شقاقًا، فإن كان فهو فيكم، وإنما الأمر إليكم، وكان طلحة يومئذ غائبًا في أمواله، قلت: يأتي في المتن ما يدل على حضوره، قال: فإن كان قومكم لا يؤمرون إلا لأحد الثلاثة عبد الرحمن بن عوف وعثمان وعليّ، فمن ولي منكم فلا يحمل قرابته على رقاب الناس، قوموا فتشاوروا، ثم قال عمر: أمهلوا فإنْ حدث لي حدث، فليصل لكم صهيب ثلاثًا، فمن تَأمَّر منكم على غير مشورة من المسلمين فاضربوا عنقه. والمهاجرون الأولون هم مَنْ صلّى إلى القبلتين، وقيل مَنْ شهد بيعة الرضوان.
وقوله: "الذين تبوؤا الدار"، أي: سكنوا المدينة قبل الهجرة، وقوله:"والإيمان" ادّعى بعضهم أنه من أسماء المدينة، وهو بعيد، والراجح أنه ممن تبوؤا معنى لزم، وعامل نصبه محذوف تقديره واعتقدوا، أو أن الإِيمان لشدة ثبوته في قلوبهم كأنه أحاط بهم، وكأنهم نزلوه، والله تعالى أعلم.
وقوله: "وأوصيه بذمة الله وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوفي لهم بعدهم، وأن يقاتل من ورائهم، ولا يكلَّفوا إلا طاقتهم"، والمراد بذمة الله أهل الذمة، والمراد بالقتال من ورائهم أي: إذا قصدهم عدولهم، والوراء الخلف، ويطلق على المقدام، فهو من الأضداد. وفي رواية "المناقب":"ووأصيه بأهل الأمصار خيرًا فإنهم رِدء الإِسلام، وجُباة المال، وغَيْظ العدو، وأنْ لا يؤخذ منهم إلا فَضْلُهم عن رضاهم".
وقوله: "ردء الإِسلام"، أي: عون الإِسلام الذي يدفع عنه، وغيظ العدو، أي: يغيظون العدو بكثرتهم وقوتهم. وقوله: "إلا فَضْلهم"، أي: إلَاّ ما فضل عنهم، وفيها: وأوصيه بالأعراب خيرًا، فإنهم أصل العرب ومادة الإِسلام، أنْ يوخذ من حواشي أموالهم، وترد على فقرائهم، وحواشي أموالهم التي ليست بخيار.
وقد استوفى عمر في وصيته جميع الطرائق؛ لأن الناس إما مسلم أو كافر، والكافر إما حربيّ ولا يوصى به، أو ذميٌّ وقد ذكره. والمسلم إما مُهاجريّ أو أنصاريّ أو غيرهما، وكلهم إما حضريّ أو بدوي، وقد بيّن الجميع. وفي رواية المدائنيّ من الزيادة "وأحسنوا مؤازرة مَنْ يلي أمركم، وأعينوه، وأدوا إليه الأمانة" وفي رواية "المناقب" من الزيادة: "فلما فرغ من دفنه، اجتمع هؤلاء
الرهط، فقال عبد الرحمن اجعلوا أمركم إلى ثلاثة، فجعل الزبير أمره إلى عليّ، وطلحة أمره إلى عثمان، وسعد أمره إلى عبد الرحمن".
وقوله: "اجعلوا أمركم إلى ثلاثة"، أي: في الاختيار، ليقل الاختلاف. وقول طلحة: جعلت أمري إلى عثمان فيه دلالة على أنه حضر، وقد تقدم أنه كان غائبًا عند وصية عمر، ويحتمل أنه حضر بعد أن مات، وقبل أن يتم أمر الشورى، وهذا أصح مما رواه المدائنيّ أنه لم يحضر حتى بويع عثمان. ويدل على هذا أن غيبته كانت في أمواله كما مرّ، فهي غيبة قريبة.
وقوله: "فقال عبد الرحمن: أيكم تَبَرَّأ من هذا الأمر فنجعله إليه والله عليه، وكذا الإِسلام؟ لينظرن أفضلهم في نفسه، فأُسْكِت الشيخان، فقال عبد الرحمن: أفتجعلونه إليّ، والله على أن لا آلو عن أفضلكم؟ قالا: نعم". وقوله: "والله عليه"، الخبر محذوف أي: عليه رقيب، وقوله:"فأُسْكِت"، بضم الهمزة وكسر الكاف، أي: كأنَّ مسكتاً أسكتهما، ويجوز فتح الهمزة والكاف، وهو بمعنى سكت، والمراد بالشيخين علي وعثمان.
وقوله: "فأخذ بيد أحدهما هو عليّ"، وبقية الكلام تدل عليه، ووقع مصرحًا به في رواية ابن فضيل عن حصين، وقوله:"فقال: لك قرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم"، والقِدَم في الإِسلام ما قد علمت، والقِدَم بكسر القاف وفتحها، زاد المدائنيّ أنه قال: أريت لو صرف هذا الأمر عنك فلم تحضر، مَنْ كنت ترى أحق بها من هؤلاء الرهط؟ قال: عثمان.
وقوله: "خلا بالآخر، فقال له مثل ذلك"، زاد المدائنيّ أنه قال له:"مثل ما قال لعلي" وزاد فيه أن سعدًا أشار عليه بعثمان، وأنه دار تلك الليالي كلها على الصحابة، ومَنْ وافى المدينة من أشراف الناس، لا يخلو برجل منهم، إلا أمره بعثمان. وقد أورد المصنف قصة الثورى في كتاب الأحكام عن المُسَوّر بن مَخْرمة نحو هذا، وأتم مما هنا.
وفي قصة عمر هذه من الفوائد شفقته على المسلمين، ونصيحته لهم، وإقامته السنة فيهم، وشدة خوفه من ربه، واهتمامه بأمر الدين أكثر من اهتمامه بأمر نفسه، وأن النهي عن المدح في الوجه مخصوص بما إذا كان غلوًا مفرطًا أو كذبًا ظاهرًا، ومن ثم لم ينه عمر الشاب عن مدحه له مع أنه أمره بتشمير إزاره، والوصية بأداء الدين، والاعتناء بالدفن في جوار الصالحين، طمعًا في إصابة الرحمة إذا نزلت عليهم، وفي دعاء مَنْ يزورهم من أهل الخير، وفيه أن مَنْ بَعث رسولًا في حاجة مهمة أن له أن يسأل الرسول قبل وصوله إليه، ولا يعد ذلك من قلة الصبر، بل من الحرص على الخير.
وفيه أن مَنْ وعد بعدة له الرجوع فيها، ولا يقضى عليه بالوفاء؛ لأن عمر لو علم لزوم ذلك لها لم يستأذن ثانيًا، وأجاب مَنْ قال بلزوم العدة، يحمل ذلك من عمر على الاحتياط، والمبالغة في الورع، ليتحقق طيب نفس عائشة بما أذنت فيه أولًا، ليضاجع أكمل الخلق صلى الله عليه وسلم على أكمل