الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأخرجه مسلم وأحمد من هذا الوجه بدونها، وفي الحديث أن المسكنة إنما تحمد مع العفة عن السؤال والصبر على الحاجة، وفيه استحباب الحياء في كل الأحوال، وحسن الإرشاد لوضع الصدقة، وأن يتحرى وضعها فيمن صفته التعفف دون الإلحاح. وفيه دلالة لمن يقول إن الفقير أسوأ حالًا من المسكين، وأن المسكين الذي له شيء، لكنه لا يكفيه، والفقير الذي لا شيء له، كما تقدم توجيهه. ويؤيده قوله تعالى {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} فسماهم مساكين مع أن لهم سفينة يعملون فيها، وهذا قول الشافعيّ وجمهور أهل الحديث والفقه. وعكس آخرون فقالوا: المسكين أسوأ حالًا من الفقير، وقال آخرون: هما سواء، وهذا قول ابن القاسم وأصحاب مالك، وقيل: الفقير الذي يسأل، المسكين الذي لا يسأل حكاه ابن بطال، وظاهره أيضًا أن المسكين من اتصف بالتعفف وعدم الإلحاف في السؤال، لكن قال ابن بطال: معناه المسكين الكامل، وليس المراد نفي أصل المسكنة عن الطواف، بل هي مثل قوله "أتدرون ما المفلس؟ " الحديث، وقوله تعالى {لَيْسَ الْبِرَّ
…
} الآية. وكذا قرره القرطبيّ وغير واحد.
رجاله أربعة:
قد مرّوا، مرّ حجّاج بنُ منهال في الثامن والأربعين من الإيمان ومرّ شعبة في الثالث منه، وأبو هريرة في الثاني منه، ومرّ محمد بن زياد في الثلاثين من الوضوء.
وهذا الحديث من الرباعيات.
الحديث الثمانون
حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنِ ابْنِ أَشْوَعَ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي كَاتِبُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنِ اكْتُبْ إِلَيَّ بِشَيْءٍ سَمِعْتَهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. فَكَتَبَ إِلَيْهِ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ.
ذكره هنا مختصرًا، وذكره في كتاب الأدب والرِّقاق تامًا، فزاد فيه "عقوق الأمهات، ومنعًا وهات ووأد البنات" قوله: كره لكم ثلاثًا، قيل: وقال في رواية الشعبي: كان ينهى عن قيل وقال، وكذا للأكثر في جميع المواضع بغير تنوين، وفي رواية الكشميهنيّ: قيلًا وقال، والأول أشهر، وفيه تعقب على من زعم أنه جائز، ولم تقع به الرواية. قال الجوهريّ: قيل وقال اسمان، يقال: كثيرُ القيلِ والقالِ، فاستدل على أنهم اسمان بدخول الألف واللام. وفي حرف ابن مسعود {ذلك عيسى بن مريم قالُ الحق} بضم اللام، وقال ابن دقيق العبد: الأشهر فتح اللام فيهما، على سبيل الحكاية، وهو الذي يقتضيه المعنى لأن القيل والقال لو كانا اسمين بمعنى واحد، كالقول، لم يكن لعطف أحدهما على الآخر فائدة، بخلاف ما إذا كانا فعلين. وقال المحب الطبري: إذا كانا
اسمين، يكون الثاني تأكيدًا، والحكمة في النهي عن ذلك أن الكثرة من ذلك لا يؤمن معها وقوع الخطأ.
وقال المحب الطبريّ: في قيلَ وقال ثلاثة أوجه:
أحدها أنهما مصدران للقول، تقول: قلت قولًا وقيلًا وقالًا، والمراد في الأحاديث الإشارة إلى كراهة كثرة الكلام، لأنها تؤول إلى الخطأ. قال: وإنما كرره للمبالغة في الزجر عنه.
ثانيها: إرادة حكاية أقاويل الناس، والبحث عنها ليخبر عنها، فيقول: قال فلان كذا، وقيل كذا، والنهي عنه إما للزجر عن الاستكثار منه، وإما لشيء مخصوص منه. وهو ما يكرهه المحكيُّ عنه.
ثالثها: أن ذلك في حكاية الاختلاف في أمور الدين، كقوله: قال فلان كذا، وقال فلان كذا، ومحل كراهة ذلك أن يكثر من ذلك بحيث لا يؤمن مع الإكثار من الزلل، وهو مخصوص بمن ينقل ذلك من غير تثبت، ولكن يقلد من سمعه، ولا يحتاط لبيان الراجح. ويؤيد ذلك الحديث الصحيح "كفى بالمرء إثمًا أن يحدث بكل ما سمع" أخرجه مسلم. وفي شرح المِشكاة، قوله: قيل وقال، من قولهم: قيل كذا، وقال كذا، وبناؤهما على كونهما فعلين محكيين متضمنين للضمير، والإعراب على إجرائهما مجرى الأسماء خلوين من الضمير، ومنه قوله "إنما الدنيا قيل وقال" وإدخال حرف التعريف عليهما في قوله "ما يعرف القال القيل" لذلك.
وقوله: وإضاعة الأموال، وفي رواية الكشميهنيّ "وإضاعة المال" وقد مرّ استيفاء الكلام غاية على هذه الكلمة، عند ذكرها تعليقًا في باب "لا صدقة إلا عن ظهر غِنى". وقوله: وكثرة السؤال، هو موضع الترجمة من الحديث، قال ابن التين: فهم منه البخاري سؤال الناس، ويحتمل أن يكون المراد السؤال عن المشكلات، أو ما لا حاجة للسائل به، ولذا قال عليه الصلاة والسلام:"ذروني ما تركتكم" وحمله على المعنى الأعم أولَى، ويستقيم مراد البخاري مع ذلك، وقد ذهب بعض العلماء إلى أن المراد به كثرة السؤال عن أخبار الناس، وأحداث الزمان، أو كثرة سؤال إنسان بعينه عن تفاصيل حاله، فإن ذلك مما يكرهه المسؤول غالبًا: وقد ثبت النهي عن الأُغلوطات. أخرجه أبو داود عن معاوية.
وثبت عن جمع من السلف كراهةُ تكلفِ المسائل التي يستحيل وقوعها عادةً، أو يندر جدًا، وإنما كرهوا ذلك لما فيه من التَّنطُّع والقول بالظن، إذ لا يخلو صاحبه من الخطأ. وقد قال مالك: والله لأخشى أن يكون هذا الذي أنتم فيه من تفريع المسائل مما نهى عنه، وأما ذكر في اللعان فكره النبي صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها، وكذا في التفسير في قوله تعالى:{لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} فذلك خاص بزمان نزول الوحي، ويشير إليه حديث "أعظم الناس جرمًا عند الله من سأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته". وقد ثبت أيضًا ذم السؤال للمال، ومدح من لا يلحف
فيه، كقوله تعالى {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} .
وفي صحيح مسلم أن المسألة لا تحل إلا لثلاثة، لذي فقر مُدقع، أو غُرم مفظع، أو جائحة، وفي السنن قوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس؛ "إذا سألت فاسأل الله" وفي سنن أبي الـ "إن كنت لابد سائلًا فاسأل الصالحين"، وقد اختلف العلماء في ذلك، والمعروف عند الشافعية أنه جائز؛ لأنه طلب مباح، فأشبه العارِيّة، وحملوا الأحاديث الواردة على من سأل من الزكاة الواجبة ممن ليس من أهلها، لكن قال النووي: اتفاق العلماء على النهي عن السؤال من غير ضرورة، قال: واختلف أصحابنا في سؤال القادر على الكسب على وجهين: أصحهما التحريم، لظاهر الأحاديث، والثاني يجوز مع الكراهة، بشروط ثلاثة: أنْ لا يلح، ولا يذل نفسه، زيادة على ذل نفس السؤال، ولا يؤذي المسؤول، فإنْ فُقِد شرطٌ من ذلك حَرُم. وقال الفاكهانيّ: يتعجب ممن قال بكراهة السؤال في عصره صلى الله عليه وسلم، ثم السلف الصالح من غير تكبر، فالشارع لا يقر على مكروه، فلعل من كره مطلقًا، أراد أنه خلاف الأوْلى، ولا يلزم من وقوعه أن تتغير صفته، ولا من تقريره أيضًا. وينبغي حمل حال أولئك على السداد، وأن السائل منهم غالبًا ما كان يسأل إلا عند الحاجة الشديدة.
وفي قوله: من غير نكير، نظرٌ، ففي الأحاديث الكثيرة الواردة في ذم السؤال كفاية في إنكار ذلك، وجميع ما تقدم فيمن سأل لنفسه، وأما السائل لغيره فالذي يظهر أيضًا أنه يختلف باختلاف الأحوال. وقوله: وعقوق الأمهات، قيل: خص الأمهات بالذكر لأن العقوق إليهن أسرع من الآباء، لضعف النساء، ولينبه على أن برّ الأم مقدم على برّ الأب، في التلطف والحنو ونحو ذلك. وهذا من تخصيص الشيء بالذكر، إظهارًا لعظم موقعه. والأمهات جمع أُمَّهةٍ، وهي لمن يعقل، بخلاف الأُم فإنه أعم.
وقوله: ومنعًا وهات، بالتنوين، وفي رواية "ومنع وهات" بغير تنوين، وهي في الموضعين بسكون النون، مصدر منع يمنع، وأما هات، فبكسر المثناة، فعل أمر من الإيتاء. قال الخليل: أصل هات آت، فقلبت الهمزة هاء، والحاصل من النهي منع ما أمر بإعطائه، وطلب ما لا يستحق أخذه، ويحتمل أن يكون النهي عن السؤال مطلقًا، كما مرَّ بسطه قريبًا. ويكون ذكره هنا مع ضده، ثم هو محتمل أن يدخل في النهي ما يكون خطابًا بالاثنين، كما ينهى الطالب عن طلب ما لا يستحقه، وينهى المطلوب عن إعطاء ما لا يستحقه الطالب، لئلا يعينه على الإثم.
وقوله: ووأد البنات، بسكون الهمزة، وهو دفن البنات في الحياة، وكان أهل الجاهلية يفعلون ذلك كراهةً فيهن. ويقال: إن أول من فعل ذلك قيسُ بن عاصم التميميّ، وكان بعض أعدائه أغار عليه، فأخذ بنته فأتخذها لنفسه، ثم وقع بينهم صلح بعد ذلك، فخَيَّر ابنته فاختارت زوجها، فآلى قيس على نفسه أن لا تولد له بنت إلا دفنها حية، فتبعه العرب في ذلك. وكان من العرب فريق ثانٍ يقتلون أولادهم مطلقًا، إما نفاسة منه على ما ينقصه من ماله، وإما من عدم ما ينفقه عليه. وقد ذكر الله أمرهم في القرآن في عدة آيات، وكان صعصعة بن ناجية التميمي أيضًا جَدّ الفرزدق همام