الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب على كل مسلم صدقة فمن لم يجد فليعمل بالمعروف
قال الزين بن المنير: نصب هذه الترجمة علمًا على الخبر مقتصرًا على بعض ما فيه، إيجازًا، والمعروف اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله تعالى، والتقرب إليه، والإحسان إلى الناس، وكل ما ندب إليه الشرع أو نهى عنه من المحسنات والمقبحات.
الحديث التاسع والأربعون
حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ". فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ قَالَ: "يَعْمَلُ بِيَدِهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ". قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ، قَالَ:"يُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ". قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ. قَالَ: "فَلْيَعْمَلْ بِالْمَعْرُوفِ، وَلْيُمْسِكْ عَنِ الشَّرِّ فَإِنَّهَا لَهُ صَدَقَةٌ".
قوله: "على كل مسلم صدقة" أي على سبيل الاستحباب المتأكد، أوْ على ما هو أعم من ذلك، والعبارة صالحة للإيجاب والاستحباب، كقوله عليه الصلاة والسلام:"على المسلم ستُّ خصال" فذكر منها ما هو مستحب اتفاقًا. وزاد أبو هريرة في حديثه تقييد ذلك "بكل يوم" كما يأتي في الصلح عن همّام عنه، ولمسلم عن أبي ذَرٍّ مرفوعًا "يصبح على كل سُلامى من أحدكم صدقة" والسلامى، بضم المهملة وتخفيف اللام، المفصل.
وله عن عائشة: "خلق الله كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاث مئة مفصل"، وقوله:"فقالوا: يا نبي الله، فمَنْ لم يجد" كأنهم فهموا من لفظ الصدقة العطية، فسألوا عمن ليس عنده شيء، فبين لهم أن المرّاد بالصدقة ما هو أعم من ذلك، ولو بإغاثة الملهوف، والأمر بالمعروف. وهل تلتحق هذه الصدقة بصدقة التطوع التي تحسب يوم القيامة من الغرض الذي أخل به؟ فيه نظر. والذي يظهر أنها غيرها لما تبين من حديث عائشة المذكور أنها شرعت بسبب عتق المفاصل، حيث قال في آخر هذا الحديث:"فإنه يمسي يومئذٍ وقد زَحْزَح نفسه عن النار".
وقوله: "الملهوف" أي: المستغيث، وهو أعم من أن يكون مظلومًا أو عاجزًا. وقوله:"فليعمل بالمعروف" في رواية المصنف في الأدب: فليأمر بالخير، أو بالمعروف. زاد أبو داود الطيالسيّ في مسنده "وينهى عن المنكر". وقوله:"وليمسكْ" في روايته في الأدب قالوا: فإن لم يفعل؟ قال: "فليمسك عن الشر". وكذا لمسلم، وهو أصح سياقًا، فظاهر سياق الباب أن الأمر بالمعروف
والإمساك عن الشر رتبة واحدة، وليس كذلك، بل الإمساك هو الرتبة الأخيرة.
وقوله: "فإنها له صدقة" كذا وقع هنا، بضمير المؤنث، وهو باعتبار الخصلة من الخير، وهو الإمساك. وفي رواية الأدب:"فإنه" أي: الإمساك له، أي: للمسك. قال الزين بن المنير: إنما يحصل ذلك للمسك عن الشر إذا نوى بالإمساك القربةُ بخلاف محض الترك. والإمساك أعم من أن يكون عن غيره، فكأنه تصدق عليه بالسلامة منه، فإن كان شره لا يتعدى نفسه، فقد تصدق على نفسه بأن منعها من الإثم. قال: وليس ما تضمنه الخبر من قوله: "فإن لم يجد" ترتيبًا، وإنما هو للإيضاح لما يفعله من عجز عن خصلة من الخصال المذكورة. فإنه تمكنه خصلة أخرى، فمن أمكنه أن يعمل بيده فيتصدق، وأن يغيث الملهوف، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويمسك عن الشر، فليفعل الجميع.
ومقصود هذا الباب أن أعمال الخير تنزل منزلة الصدقات في الأجر، ولاسيما في حق مَنْ لا يقدر عليها، ويفهم منه أن الصدقة في حق القادر عليها أفضل من الأعمال القاصرة، ومحصل ما ذكر في حديث الباب أنه لابد من الشفقة على خلق الله، وهي إما بالمال أو غيره. والمال إما حاصل أو مكتسب، وغير المال إما فِعل، وهو الإغاثة، وإما ترك، وهو الإمساك.
وقال أبو محمد بن أبي جمرة: ترتيب هذا الحديث أنه ندب إلى الصدقة، وعند العجز عنها ندب إلى ما يقرب منها، أو يقوم مقامها، وهو العمل والانتفاع، وعند العجز عن ذلك ندب إلى ما يقوم مقامه، وهو الإغاثة. وغند عدم ذلك ندب إلى فعل المعروف، أي من سوى ما تقدم، كإماطة الأذى. وعند عدم ذلك نَدَب إلى الصلاة، فإن لم يُطق، فَتَرْكُ الشر، وذلك آخر المراتب.
قال: ومعنى الشر ما منعه الشرع، ففيه تسلية للعاجز عن فعل المندوبات، إذا كان عجزه عن ذلك عن غير اختيار، وأشار بالصلاة إلى ما في آخر حديث أبي ذر عند مسلم، ويجزىء عن ذلك كله ركعتا الضحى، وهو يؤيد ما مرّ من أن هذه الصدقة لا يكمل منها ما يحتل من الفرض، لأن الزكاة لا تكمل الصلاة، ولا العكس. فدل على افتراق الصدقتين، واستشكل الحديث بذكر الأمر بالمعروف فيه، وهو من فروض الكفاية، فكيف تجزىء عنه صلاة الضحى وهي من التطوعات؟ وأجيب يحمل الأمر هنا على ما إذا حصل من غيره، فسقط به الفرض، وكان في كلامه هو زيادة في تأكيد ذلك، فلو تركه أجزأت عنه صلاة الضحى، كذا قيل. وفيه نظر.
والذي يظهر أن المراد أن صلاة الضحى تقوم مقام الثلاث مئة وستين حسنة، التي يستحب للمرء أن يسعى في تحصيلها كل يوم، ليعتق مفاصله التي هي بعددها، لا إن المراد أن صلاة الضحى تغني عن الأمر بالمعروف، وما ذكر معه، وإنما كان كذلك، لأن الصلاة عمل بجميع الجسد، فتتحرك المفاصل فيها كلها بالعبادة، ويحتمل أن يكون ذلك لكون الركعتين يشتملان على ثلاث مئة وستين، ما بين قول وفعل، إذا جعلت كل حرف من القراءة مثلًا صدقة. وكأنّ صلاة