الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الصدقة من كسب طيب
وهذه الترجمة وقعت في رواية المستملي والكشميهنيّ وابن شَبّويه، وعلى هذا فتخلو الترجمة التي قبل هذا من الحديث، وتكون هذه كالتي قبلها في الاقتصار على الآية، لكن تزيد عليها بالإشارة إلى لفظ الحديث الذي في الترجمة، والترجمة ان كان "باب" بغير تنوين، فالجملة خبر المبتدأ، والتقدير هذا بابُ فضلِ الصدقة من كَسْبٍ طيب، وإن كان منونًا فما بعده مبتدأ، والخبر محذوف تقديره الصدقةُ من كسب طيب مقبولةٌ، أو يكثر الله ثوابها.
الحديث الخامس عشر
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ سَمِعَ أَبَا النَّضْرِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَاّ الطَّيِّبَ وَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ".
ومناسبة هذا الحديث لهذه الترجمة ظاهرة، ومناسبته للتي قبلها من جهة مفهوم المخالفة؛ لأنه دل بمنطوقه على أن الله تعالى لا يقبل إلا ما كان من كسب طيب، فمفهومه أن ما ليس بطيب لا يُقبل؟ والغُلول فرد من أفراد غير الطيب. فلا يقبل، ومعنى الكسب المكسوب. والمراد به ما هو أعم من تعاطي التكسب، أو حصول المكسوب بغير تعاطٍ، كالميراث، وكأنه ذكر الكسب لكونه الغالب في تحصيل المال، والمراد بالطيب الحلال؛ لأنه صفة الكسب.
قال القرطبيّ: أصل الطيب المستلَذّ بالطبع، ثم أطلق على المُطْلَق بالشرع، وهو الحلال وأما قول المصنف: لقوله: {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} بعد الصدقة من كسب طيب، فقد اعترضه ابن التين وغيره، بأن تكثير أجر الصدقة ليس علة لكون الصدقة من كسب طيب، بل الأمر على عكس ذلك، فإن الصدقة من الكسب الطيب سبب لتكثير الأجر.
قال ابن التين: وكان الأبين أن يَستدل بقوله تعالى: {نْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} وقال ابن بطال: لما كانت الآية مشتملة على أن الربى يمحقه الله؛ لأنه حرام، دل ذلك على أن الصدقة التي
تقبل لا تكون من جنس الممحوق. وقال الكرمانيّ: لفظ الصدقات، وإن كان أعم من أن يكون من الكسب الطيب ومن غيره، لكنه مقيّد بالصدقات التي من الكسب الطيب، بقرينة السياق، نحو {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} .
وقوله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} أي: يذهبه، إما أن يذهب بالكلية من يد صاحبه، أو يحرمه بركة ماله فلا ينتفع به، بل يعذبه به في الدنيا، ويعاقبه عليه في الآخرة. فقد روى أحمد في مسنده عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الربى، وإن كثر، فإن عاقبته تصير إلى قُلّ". وهذا من باب المعاملة بنقيض القصد.
ثم إن الله تعالى لما أخبر بأنه يمحق الربى؛ لأنه من حرام، أخبر بأنه يُربي الصدقات كما في الآية. وفي حديث الباب: ثم قال: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} أي: كفور القلب، أثيم القول والفعل، ولابد من مناسبة في ختم الآية بهذه الصفة، وهي أن المرابي لا يرضى بما قسم الله له من الحلال، ولا يكتفي بما شرع له من التكسب المباح، فهو يسعى في أكل أموال الناس بالباطل بأنواع المكاسب الخبيثة، فهو جَحُود لما عليه من النعمة، ظلوم آثم بأكل أموال الناس بالباطل.
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} أي: لا خوف عليهم عند الموت، ولا هم يحزنون يوم القيامة، ذكر الله تعالى هذه الآية مادحًا للمطيعين لربهم، المؤدين شكره، المحسنين إلى خلقه، في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، مخبرًا عمّا أعَدَّ لهم من الكرامة، وأنهم يوم القيامة آمنون من التُّبِعات.
وقوله: بِعَدْل تمرة، أي: قيمتها؛ لأنه بالفتح المثل، وبالكسر الحِمْل بكسر المهملة، هذا قول الجمهور. وقال الفراء: بالفتح من غير جنسه، وبالكسر من جنسه. وقيل: بالفتح مثله في القيمة، وبالكسر مثله في النظر. وأنكر البصريون هذه التفرقة، وقال الكِسائيّ: هما بمعنى كما في لفظ المِثل لا يختلف، وضبط في هذه الرواية بالفتح للأكثر.
وقوله: "ولا يقبل الله إلا الطيب" في رواية سليمان بن بلال الآتي ذكرها: "ولا يصعد إلى الله إلَاّ الطيب" وهذه جملة معترضة بين الشرط والجزاء، لتقرير ما قبله. زاد سهيل في روايته الآتي ذكرها:"فيضعها في حقها". قال القرطبيّ: وإنما لا يقبل الله الصدقة بالحرام؛ لأنه غير مملوك للمصدق، وهو ممنوع من التصرف فيه، والمتصدق به متصرف فيه، فلو قبل منه لزم أن يكون الشيء مأمورًا منهيًا من وجه واحد، وهو محال.
وقوله: "يتقبلها بيمينه" في رواية سهيل: "إلا أخذها بيمينه" وفي رواية مسلم بن أبي مريم الآتي ذكرها: "فيضعها" وفي حديث عائشة عند البزار: "فيتلقاها الرحمن بيده". وقوله: "فَلُوّه" بوزن عدو هو المهر؛ لأنه يغلى أي: يعظم، وقيل: هو كل فطيم من ذات حافر، والجمع أفلاء،
كعدو وأعداء. وقال أبو زيد: إذا فتحت الفاء شددت الواو، وإذا كسرتها سكنت اللام كجرو. وضربه به المثل؛ لأنه يزيد زيادة بينة، ولأن الصدقة نتاج العمل، وأحوج ما يكون النتاج إلى التربية إذا كان فطيمًا، فإذا أحسن العناية به انتهى إلى حد الكمال، وكذلك عمل ابن آدم، لاسيما الصدقة فإن العبد إذا تصدق من كسب طيب لا يزال نظر الله إليها يكسبها نعت الكمال، حتى ينتهي بالتضعيف إلى نصاب تقع بينه وبين ما قدم، نسبةُ ما بين التمرة إلى الجبل.
وفي رواية القاسم عن أبي هُريرة عند التِّرْمِذِيّ "فِلْوه أو مهره". ولعبد الرزاق عن القاسمُ "مُهره أو فصيله". وفي رواية له عند البزّار "مُهره أو ضِيعه أو فصيله". ولابن خُزيمة عن أبي هريرة "فُلوه أو قال فصيله" وهذا يشعر بأن "أو" للشك. قال المازريّ: هذا الحديث وشبهه إنما عبّر به على ما اعتادوا في خطابهم، ليفهموا عنه، فكنى عن قبول الصدقة باليمين، وعن تضعيف أجرها بالتربية. وقال عياض: لما كان الشيء الذي يرتضى يُتَلَقَّى باليمين، ويؤخذ بها استعمل في مثل هذا، واستعير للقبول، كقول الشماخ بن ضرار في عرابة الأوسي:
رأيت عرابة الأوسيُ يسمو
…
إلى الخيرات منقطع القرين
إذا مارايه رقعت لمجد
…
تلقاها عُرابة باليمين
أي هو مؤهل للمجد والشرق، وليس المراد الجارحة، وقيل: عبر باليمين عن جهة القبول، إذ الشِّمال بضده. وقيل: المراد يمين الذي تدفع إليه الصدقة، وأضافها إلى الله تعالى إضافة ملك واختصاص، لوضع هذه الصدقة في يمين الأخذ لله تعالى، وقيل: المراد سرعة القبول، وقيل حُسنه.
وقال الزين بن المنير: الكناية عن الرضى والقبول بالتلقي باليمين لتثبت المعاني المعقولة في الأذهان، وتحقيقها في النفوس تحقيق المحسوسات، أي لا يتشكك في القبول كما لا يتشكك من عاين التلقي للشيء بيمينه، لا أن التناول كالتناول المعهود، ولا أنّ المتناول به جارحةٌ. وقال التِّرمِذِيّ في جامعه: قال أهل العلم من أهل السنة والجماعة: نؤمن بهذه الأحاديث، ولا نتوهم فيها تشبيهًا، ولا نقول كيف؟ " هكذا رُوي عن مالك وابن عيينة وابن المبارك وغيرهم.
وأنكرت الجهمية هذه الروايات، وقد استوفينا الكلام في الرد عليهم في كتابنا "استحالة المعية بالذات". ويأتي إن شاء الله تعالى العودُ إلى ذلك في كتاب "التوحيد". وقوله:"حتى تكون مثل الجبل" ولمسلم: "حتى تكون أعظم من الجبل" ولابن جرير: "حتى يوافى بها يوم القيامة وهو أعظم من أُحُد" يعني التمرة، وعند التِّرمِذِيّ بلفظ:"حتى أن اللفحة لتصير مثل جبل" قال: وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} .
وفي رواية ابن جرير التصريح بأن تلاوة الآية من كلام أبي هريرة، وزاد عبد الرزاق "فتصدقوا" والظاهر أن المراد بعظمها أن عينها تعظم لتثقل في الميزان، ويحتمل أن يكون ذلك معبرًا به عن ثوابها.