الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث السادس
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ. فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَاّ بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ"؟. فَقَالَ وَاللَّهِ لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا. قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَاّ أَنْ قَدْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ.
قوله: "لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر" كان هنا تامة، بمعنى حصل، والمراد به قام مقامه، وفي رواية "واستخلف أبو بكر" وقوله: إن أبا هريرة قال. الخ، في رواية مسلم عن أبي هريرة، وكذا رواه الأكثر، على أنه من رواية أبي هريرة عن أبي بكر وعمر وروى الزُّهرِي عن سعيد بن المسيب أن أبا هريرة أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أُمرت أنْ أُقاتل الناس
…
" الحديث، فساقه على أنه من مسند أبي هُريرة، ولم يذكر أبا بكر ولا عمر، أخرجه مسلم، وهو محمول على أن أبا هريرة سمع الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم، وحضر مناظرة أبي بكر وعمر، فقصها كما هي، ويؤيده أنه جاء عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، بلا واسطة، في طرق، فأخرجه مسلم من طريقين عنه، وأخرجه ابن خزيمة وأحمد ومالك خارج الموطأ، وابن مَنْده في كتاب الإيمان، كلهم عن أبي هريرة.
ورواه البخاريّ في أول كتاب الإيمان عن ابن عمر، وأخرجه مسلم عن جابر وطارق الأشجعيّ، وأخرجه أبو داود والتّرمذيّ عن أنس، وأخرجه الطبرانيّ عن أنس أيضًا، وهو عند ابن خزيمة عنه، لكن قال: عن أنس عن أبي بكر، وأخرجه البَزّار عن النعمان بن بشير، والطبرانيّ عن سهل بن سعد وابن عباس وجرير البَجْلِيّ. وفي الأوسط من حديث سمرة.
وقوله: "وكَفَر مَنْ كَفَر من العرب" في حديث أنس عند ابن خُزيمة "لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ارتدت عامة العرب" قال القاضي عياض وغيره: كان أهل الردة ثلاثة أصناف: صنف عادوا إلى عبادة الأوثان، وصنف تبعوا مُسيلمة والأسود العَنْسي، وكان كل منهما ادّعى النبوءة قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم، فصدّق مسيلمةَ أهلُ اليمامة وجماعة غيرهم. وصدّق الأسودَ أهلُ صنعاء وجماعة غيرهم. فقتل الأسود قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بقليل، وبقي بعض مَنْ آمن به، فقاتلهم عمّال النبي صلى الله عليه وسلم في خلافة أبي بكر. وأما مُسليمة، فجهز إليه أبو بكر الجيش، وعليهم خالد بن الوليد، فقتلوه.
وصنف ثالث استمروا على الإِسلام، ولكن جحدوا الزكاة، وتأولوا بأنها خاصة بزمن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم الذين ناظر عمر أبا بكر في قتالهم، كما جاء في حديث الباب. وقال ابن حزم في الملل والنحل: انقسمت العرب بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم على أربعة أقسام، طائفة بقيت على ما كانت عليه في حياته، وهم الجمهور، وطائفة بقيت على الإِسلام أيضًا، إلا أنهم قالوا: نقيم الشرائع إلا الزكاة، وهم كثير، لكنهم قليل بالنسبة إلى الطائفة الأولى. والثانية أعلنت بالكفر والردة كأصحاب طُلَيحة وسِجاح، وهم قليل بالنسبة لمن قبلهم، إلا أنه كان في كل قبيلة من يقاوم من ارتد، وطائفة توقفت فلم تطع أحدا من الطوائف الثلاثة، وتربصوا لمن تكون الغلبة، فأخرج أبو بكر إليهم البعوث، وكان فيروز ومَنْ معه غلبوا على بلاد الأسود، قتلوه، وقتل مسيلمة باليمامة، وعاد طليحة وسِجاح، ورجع غالب من ارتد إلى الإِسلام، فلم يَحُلِ الحَوْل إلا والجميع قد راجعوا دين الإِسلام.
وقوله: "قال عمرَ: يا أبا بكر، كيف تقاتل الناس؟ " في حديث أنس أتريد "أن تقاتل العرب" وقوله: "أُمرت أن أُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" كذا ساقه الأكثر، وفي رواية طارق عند مسلم "مَنْ وحد الله وكفر بما يعبد من دونه، حرم دمه وماله" وأخرجه الطبرانيّ من حديثه كرواية الجمهور، وفي حديث ابن عمر في كتاب الإيمان "حتى يُشْهَد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة" ونحوه في حديث أبي العنبس، وفي حديثٍ عند أبي داود "حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسله، وأن يستقبلوا قبلتنا، ويأكلوا ذبيحتنا، ويصلوا صلاتنا".
وفي رواية العَلاء بن عبد الرحمن "حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، ويؤمنوا بي، وبما جئت به" وقد مرَّ كثير من مباحث هذا الحديث عند حديث ابن عمر في باب "فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة" من كتاب الإيمان. قال الخطّابيّ: زعم الروافض أن حديث الباب متناقض لأن في أوله أنهم كفروا، وفي آخره أنهم ثبتوا على الإِسلام، إلا أنهم منعوا الزكاة، فإن كانوا مسلمين، فكيف إستحل قتالهم وسبي ذراريهم؟ وإن كانوا كفارًا فكيف احتج على عمر بالتفرقة بين الصلاة والزكاة؛ فإنّ في جوابه إشارة إلى أنهم كانوا مقرين بالصلاة.
قال: والجواب عن ذلك أن الذين نسبوا إلى الردة كانوا صنفين، صنف رجعوا إلى عبادة الأوثان، وصنف منعوا الزكاة. وتأولوا قوله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} فزعموا أن دفع الزكاة خاص به صلى الله عليه وسلم؛ لأن غيره لا يطهرهم ولا يصلي عليهم، فكيف تكون صلاته سكنًا لهم؟ وإنما أراد عمر بقوله:"تقاتل الناس" الصنفَ الثاني؛ لأنه لا يتردد في جواز قتل الصنف الأول، كما أنه لا يتردد في قتال غيرهم من عُبّاد الأوثان والنيران واليهود والنصارى.
قال: وكأنَّه لم يستحضر من الحديث إلا القدر الذي استحضره، وقد حفظ غيره في الصلاة والزكاة معًا، وقد رواه عبد الرحمن بن يعقوب بلفظ يعم جميع الشريعة، حيث قال فيها: "ويؤمنوا بي
وبما جئت به" فإن مقتضى ذلك أن مَنْ جحد شيئًا مما جاء به صلى الله عليه وسلم، ودُعِي إليه، فامتنع ونصب القتال، أنه يجب قتاله وقتله إذا أصر. قال: وإنما عرضت الشبهة لما دخله من الاختصار، وكان راويه لم يقصد سياق الحديث على وجهه، وإنما أراد سياق مناظرة أبي بكر وعمر، واعتمد على معرفة السامعين بأصل الحديث.
قال في "الفتح": وفي هذا الجواب نظر؛ لأنه لو كان عند عمر في الحديث: "حتى يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة" ما استشكل قتالهم، للتسوية في كون غاية القتال ترك كل من التلفظ بالشهادتين وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة. قال عياض: حديث ابن عمر نصٌّ في قتال مَنْ لم يصلِّ ولم يترك، كمن لم يقر بالشهادتين، واحتجاج عمر على أبي بكر، وجواب أبي بكر، دل على أنهما لم يسمعا في الحديث الصلاة والزكاة، إذ لو سمعه عمر لم يحتج على أبي بكر، ولو سمعه أبو بكر لرد به على عمر، ولم يحتج إلى الاحتجاج بعموم قوله إلا بحقه، وقد مرَّ هذا، وزيادة، عند الحديث المذكور في الباب المار ذكره.
وأُجيب عمّا تأوّلوه في الآية بأن الخطاب في كتاب الله تعالى على ثلاثة أقسام: خطاب عام، كقوله تعالى:{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} . وخاص بالرسول، في قوله:{فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} حيث قطع التشريك بقوله: "لك". وخطاب مواجهة للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو وجميع أمته في المراد منه سواء، كقوله تعالى:{أَقِمِ الصَّلَاةَ} ، وقوله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} ، فعلى القائم بعده بأمر الأمة أن يحتذي حذوه في أخذها منهم، وأما التطهير والتزكية والدعاء من الإِمام لصاحبها، فإن الفاعل لها قد ينال ذلك كله بطاعة الله تعالى ورسوله فيها، وكل ثواب موعود على عمل كان في زمنه عليه الصلاة والسلام، فإنه باقِ غير منقطع، ويستحب للإمام أن يدعو للمتصدق، ويرجى أن يستجيب الله له، ولا يُخيِّب مسألته.
وما قيل من أن منكر وجوب الزكاة كافر بالإجماع، وإن تأوَّلَ بكل تأويل فكيف يقال إن هذا الصنف غير كفار، فالجواب أنهم عذروا فيما جرى منهم لقرب العهد بالإسلام الذي كان يقع فيه تبديل الأحكام، ولوقوع الفترة بموت النبي صلى الله عليه وسلم، وكان القوم جهالًا بأمور الدين، قد أضلتهم الشبهة، أما اليوم فقد شاع أمر الدين، واستفاض العلم بوجوب الزكاة، حتى عرفه الخاص والعام، فلا يعذر أحد بتأويله، وكان سبيلها سبيل الصلوات الخمس ونحوها.
وقوله: "إلَاّ بحقه" الضمير فيه للإسلام فمهما ثبت أنه من حق الإِسلام تناوله، ولذلك اتفق الصحابة على قتال مَنْ جحد الزكاة، وقوله:"لأقاتلنَّ مَنْ فرَّق بين الصلاة والزكاة" يجوز بتشديد فرق وتخفيفه، والمراد بالفرق مَنْ أقر بالصلاة وأنكر الزكاة جاحدًا أو مانعًا مع الاعتراف، وإنما أطلق في أول القصة الكفر ليشمل الصفين، فهو في حق مَنْ جحد حقيقة، وفي حق الآخرين مجاز تغليبًا، وإنما قاتلهم الصديق ولم يعذرهم بالجهل؛ لأنهم نصبوا القتال، فجهز إليهم مَنْ دعاهم إلى الرجوع، فلما أصروا قاتلهم.
قال المازريّ: ظاهر السياق أن عمر كان موافقًا على قتال مَنْ جحد الصلاة، فألزمه الصديق بمثله في الزكاة، لورودهما في الكتاب والسنة مورداً واحدًا. وقوله:"فإن الزكاة حق المال" يشير إلى دليل منع التفرقة التي ذكرها، أن حق النفس الصلاة، وحق المال الزكاة، فمن صلّى عصم نفسه، ومَنْ زكّى عصم ماله، فمَنْ لم يصل قوتل على ترك الصلاة، ومَنْ لم يزكِ أُخذت الزكاة من ماله قهرًا، وإنْ نصَبَ الحرب لذلك قوتل. وهذا يوضح أنه لو كان سمع في الحديث "ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة" لما احتاج إلى هذا الاستنباط، لكنه يحتمل أن يكون سمعه، واستظهر بهذا الدليل النظري.
وما صدر من عمر كان تعلقًا منه بظاهر الكلام قبل أن ينظر إلى آخره، ويتأمل شرائطه، فقال له أبو بكر: إن الزكاة حق المال، يريد أن القضية قد تضمنت عصمة دم ومال، معلقة بإيفاء شرائطها، والحكم المعلق بشرطين لا يحصل بأحدهما، والآخر معدوم، ثم قايَسَه بالصلاة وَرَدَّ الزكاة إليها، فكان في ذلك دليلٌ على أن قتال الممتنع من الصلاة كان إجماعًا من رأي الصحابة، ولذلك رد المختلف فيه إلى المتفق عليه، فاجتمع في هذه القضية الاحتجاج من عمر بالعموم، ومن أبي بكر بالقياس.
وقوله: "لو منعوني عَنَاقًا" بفتح العين والنون الأنثى، من ولد المعز، وفي رواية ذكرها أبو عبيدة "جديًا أَذوطَ" والأذوط الصغير الفك والذقن، وفي رواية الليث عند مسلم "عِقالًا" واختلف في هذه اللفظة، فقيل هي وهم، وأشار إلى ذلك البخاريّ بقوله في كتاب الاعتصام: وعن الليث عَناقًا، وهو أصح، قال عياض: احتج برواية العَناق من يجيز أخذ العَناق في زكاة الغنم، إذا كانت كلها سِخالًا؛ لأن الصغار تزكي على حول أُمهاتها إن كانت نصاباً وماتت الأمهات كلها، أو مكملة له بأن مات بعض الأمهات وبقي منها مع النتاج نصاب، أو ملك دون النصاب فولدت ما تم به النصاب. هذا مذهب المالكية.
قال النوويّ: المراد أنها كانت صغارًا، فماتت أمهاتها في بعض الحول، فيزكين بحول الأمهات، ولو لم يبق من الأمهات شيء على الصحيح، ويتصور فيما إذا مات معظم الكبار، وحدثت الصغار، فحال الحول على بقية الكبار وعلى الصغار. وقال أبو القاسم الأنماطيّ: لا تزكي الأولاد بحول الأمهات، إلا أن يبقى من الأمهات نصاب. قال العينيّ: وقال أصحابنا: إلا أن يبقى من الأمهات شيء، ويتصور ذلك أيضًا فيما إذا مات معظم الكبار، وحدثت صغارٌ، فحال حول الكبار على بقيتها وعلى الصغار، قال: وهو الصحيح المشهور، وهو قول أبي يوسف من أصحابنا. وعند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى: لا تجب الزكاة في المسألة المذكورة، وحملا الحديث على صيغة المبالغة أو على الفرض والتقدير. وقيل: إنما ذكر العَناق مبالغةً في التقليل، لا العناق نفسها. ورواية "لو منعوني عِقالًا" قال النوويّ: محمولة على أنه قالها مرتين، مرة عَناقًا، ومرة عِقالًا. قال في "الفتح": هذا بعيد مع اتحاد المخرج والقصة، واختلف في المراد به، فقيل:
العِقال يطلق على صدقة العام، يعني صدقته، حكاه المازريّ عن الكسائيّ، واستشهد بقول الشاعر:
سعى عِقالًا فلم يترك لنا سندًا
…
فكيف لو قد سعى عمرو عقالين
وعمرو المشار إليه وابن عُتبة بن أبي سفيان، وكان عمه معاوية يبعثه ساعيًا على الصدقات، فقيل فيه ذلك، ونقل عياض عن ابن وهب أنه الفريضة من الإبل، ونحوه عن النضر بن شُميل. وعن أبي سعيد الضّرير العقال: ما يؤخذ في الزكاة من نِعَم وثمار؛ لأنه عَقَلَ عنه به طلب السلطان، وعقَلَ عنه به الإثم.
وقال المبرد: العِقال ما أخذه العامل من صدقة بعينها، فإن تعوّض عن شيء منها قيل: أخذ نقدًا، وعلى هذا فلا إشكال فيه. وذهب الأكثر إلى حمل العِقال على حقيقته، وأن المراد به الحبل الذي يعقل به البعير، نقله عياض عن مالك وابن أبي ذيب، قالا: العقال عِقال الناقة. وقال أبو عُبيد: العقال اسم لما يُعْقَل به البعير، وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم محمد بن مَسْلمة على الصدقة، فكان يأخذ من كل فريضة عقالًا.
وقال النوويّ: ذهب إلى هذا كثير من المحققين، وقال ابن التيمي في التحرير: قول مَنْ فسرا العقال بفريضة العام تعسُّف، وهو نحو تأويل من حمل البيضة والحبل في حديث "لعن السارق" على بيضة الحديد، وحبل السفينة. قال: وكلما كان في هذا السياق أحقر كان أبلغ. قال: والصحيح أن المراد بالعقال ما يعقل به البعير. قال: والدليل على أن المراد به المبالغة قولُه في الرواية الأخرى: "عنَاقًا" وفي الأخرى: "جديًا" قال: فعلى هذا فالمراد بالعقال قدر قيمته. قال النوويّ: وهذا هو الصحيح الذي لا ينبغي غيره.
وفي المحكم، العقال: القَلُوص، وروى ابن القاسم وابن وهب عن مالك العقال: القلوص، وقال عياض: احتج به بعضهم على جواز أخذ الزكاة في عروض التجارة، وفيه بعد، والراجح أن العقال لا يؤخذ في الزكاة لوجوبه بعينه، وإنما يؤخذ تبعًا للفريضة التي تعقل به، أو أنه قال ذلك مبالغةً، على تقدير أنْ لو كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال النوويّ: يصح قدر قيمة العِقال في زكاة النقد والمعدن والركاز والمُعَشّرات وزكاة الفطر، وفيما لو وجبت سِنّ فأخذ الساعي دونه، وفيما إذا كانت الغنم سِخالًا، فأخذ واحدة وقيمتها عقال. قال: وقد رأيت كثيرًا ممن يتعاطى الفقه يظنُّ أنه لا يتصور، وإنما هو للمبالغة، وهو غلط منه.
وقد قال الخطابيّ: حمله بعضهم على زكاة العِقال إذا كان من عروض التجارة، وعلى الحبل نفسه عند مَنْ يجيز أخذ القيم. وللشافعيُّ قول أنه يتخير بين العرض والنقد. قال: وأظهر من ذلك كله قول مَنْ قال: إنه يجب أخذ العِقال مع الفريضة، كما جاء عن عائشة "كان من عادة المتصدق أن يعمد إلى قَرَنٍ، بالتحريك، وهو الحبل، فيقرن به بين بعيرين لئلا تشرد الإبل"، وهكذا جاء عن
الزهري. وقال غيره في قول أبي بكر: "لو منعوني عِقالًا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم غِنْيةٌ عن حمله على المبالغة، وحاصله أنهم متى منعوا شيئًا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو قلّ، فقد منعوا شيئًا واجبًا، إذ لا فرق في منع الواجب وجحده بين القليل والكثير.
قال: وهذا يغني عن جميع التقادير والتأويلات التي لا يسبق اللهم إليها، ولا يظن بالصديق أنه يقصد إلى مثلها، والحامل لمن حمله على المبالغة، أن الذي تمثل به في هذا المقام لابد وأن يكون من جنس ما يدخل في الحكم المذكور، فلذلك حملوه على المبالغة. وقوله:"فوالله ما هو إلا أن قد رأيت أن الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعلمت أنه الحق" أي: ظهر له من صحة احتجاجه، لا أنه قدّره في ذلك.
وقد قيل: إن أبا بكر رضي الله تعالى عنه استند في قتالهم إلى النص الصريح، مع ما احتج به على عمر. فقد روى الحاكم في الإكليل عن عبد الرحمن الظُّفْريّ:"بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل من أشجع لتؤخذ صدقته، فرده، فرجع فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ارجع فأخبره أنك رسول رسول الله، فجاء إلى الأشجعيّ فرده، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اذهب إليه الثالثة، فإن لم يعطِ صدقته فاضرب عنقه" قال عبد الرحمن بن عبد العزيز، أحد رواة الحديث، لحكيم بن عباد بن حُنيف، أحد رواته أيضًا: ما أرى أبا بكر قاتلهم مُتأَوّلًا، إنما قاتلهم بالنص.
وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم في كتاب الإيمان: الاجتهادُ في النوازل، وردها إلى الأصول، والمناظرة على ذلك، والرجوع إلى الراجح، والأدب في المناظرة، فيترك التصريح بالتخطئة، والعدول إلى التلطف، والأخذ في إقامة الحجة إلى أن يظهر للمناظرة، فلو عاند بعد ظهورها، فحينئذ يستحق الإغلاظ بحسب حاله، وفيه الحلف على الشيء لتأكيده.
وفيه منع قتل مَنْ قال لا إله إلا الله ولو لم يزد عليها، وهو كذلك، لكن هل يصير بمجرد ذلك مسلمًا؟ الراجح لا، بل يجب الكف عن قتله حتى يختبر، فإن شهد بالرسالة والتزم أحكام الإِسلام حُكِم بإسلامه، وإلى ذلك الإشارة بقوله:"إلا بحق الإِسلام". قال البَغَويّ: الكافر إذا كان وثنيًا أو ثنويًا لا يقر بالوحدانية، فإذا قال لا إله إلا الله، حُكِم بإسلامه، ثم يجبر على قبول جميع أحكام الإِسلام، ويبرأ من كل دين خالف دين الإِسلام، وأما مَنْ كان مقرًا بالوحدانية منكرًا للنبوءة، فإنه لا يحكم بإسلامه حتى يقول "محمد رسول الله" فإن كان يعتقد أن الرسالة المحمدية إلى العرب خاصة، فلابد أن يقول إلى جميع الخلق، فإن كان كفر بجحودُ واجبٍ أو استباحةِ محرم فيحتاجُ أن يَرجع عمّا اعتقده.
ومقتضى قوله: "يجبر" أنه إذا لم يلتزم تجري عليه أحكام المرتد، وبه صرّح القَفّال، واستدل بحديث الباب، فادّعى أنه لم يرد في خبر من الأخبار "أمرتُ أنْ أُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله" أو "أني رسول الله" وهذه غفلة عظيمة، فالحديث في صحيحي البخاري
ومسلم، في كتاب الإيمان من كل منهما عن ابن عمر بلفظ:"حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله". ويحتمل أن يكون المراد بقول لا إله إلا الله هنا، التلفظَ بالشهادتين، لكونها صارت علمًا على ذلك، ويؤيده ورودهما صريحًا في الطرق الأخرى.
واستدل به على أن الزكاة لا تسقط عن المرتد، وتعقب بأن المرتد كافر، والكافر لا يطالب بالزكاة، وإنما يطالب بالإِيمان، وليس في فعل الصديق حجة لما ذكر، وإنما فيه قتال من منع الزكاة. والذين تمسكوا بأصل الإِسلام، ومنعوا الزكاة بالشبهة التي ذكروها ،لم يحكم عليهم بالكفر قبل إقامة الحجة، وقد اختلف الصحابة فيهم بعد الغلبة عليهم، هل تغنم أموالهم وتسبى ذراريهم، كالكفار؟ أم لا كالبغاة؟ فرأى أبو بكر الأول وعمل به، وناظره عمر في ذلك، وذهب إلى الثاني ووافقه غيره في خلافته على ذلك. واستقر الإجماع عليه في حق مَنْ جحد شيئًا من الفرائض بشبهة، فيطالب بالرجوع، فإنْ نصب القتال قوتل، وأقيمت عليه الحجة، فإن رجع وإلا عومل معاملة الكافر حينئذ.
ويقال إن أَصْبَغَ، من المالكية، استقر على القول الأول، فعد من ندرة المخالف، وقال القاضي عياض: يستفاد من هذه القصة أن الحاكم إذا أداه اجتهاده في أمر لا نص فيه، إلى شيء تجب طاعته فيه، ولو اعتقد بعض المجتهدين خلافه، فإن صار ذلك المجتهد المعتقد خلافه حاكمًا، وجب عليه العمل بما أداه إليه اجتهاده، وتسوغ له مخالفة الذي قبله في ذلك؛ لأن عمر أطاع أبا بكر فيما رأى من حق مانعي الزكاة، مع اعتقاده خلافه، ثم عمل في خلافته بما أدّاه إليه اجتهاده، ووافقه أهل عصره من الصحابة وغيرهم، وهذا مما يُنبه عليه في الاحتجاج بالإجماع السُّكوتي، فيشترط في الاحتجاج به انتفاء موانع الإنكار، وهذا منها.
وقال الخطابيّ: في الحديث أنَّ مَنْ أظهر الإِسلام، أُجريت عليه أحكامه الظاهرة، ولو أسر الكفر في نفس الأمر، ومحل الخلاف إنما هو فيمن اطلع على معتقده الفاسد، فأظهر الرجوع، هل يقبل منه أو لا؟ وأما مَنْ جهل أمره فلا خلاف في إجراء الأحكام الظاهرة عليه، وقد مرَّ عند حديث ابن عمر في كتاب الإيمان ما قيل في قبول تولة الزنديق، وهو الذي يسر الكفر ويظهر الإِسلام.
تكميل:
قصد البخاري بهذه الأحاديث الاستدلال على وجوب الزكاة، وقد اختلف في أول وقت فرض الزكاة، فذهب الأكثر إلى أنه وقع بعد الهجرة، فقيل: كان في السنة الثانية قبل فرض رمضان، أشار إليه النوويّ، وجزم ابن الأثير بأن ذلك كان في التاسعة، وفيه نظر، فقد تقدم في حديث ضِمام بن ثَعْلبة، وحديث وفد عبد القيس، وفي عدة أحاديث ذكرُ الزكاة، وكذا مخاطبة أبي سفيان مع هرقل، وكانت في أول السابعة، وقال فيها:"يأمرنا بالزكاة" لكن يمكن تأويل كل ذلك كما سيأتي في آخر الكلام، إلا حديث ضمام بن ثعلبة، فإنه صريح في أن فرضها كان قبل التاسعة؛ لأن قدومه كان