الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثاني عشر والمئة
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَقُولُ: كُنْتُ أَنَا وَأُمِّي مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ أَنَا مِنَ الْوِلْدَانِ، وَأُمِّي مِنَ النِّسَاءِ.
مرَّ هذا في الترجمة، وهذا مبنيٌّ على أنّ إسلام العباس كان بعد وقعة بدر، وقد اختلف في ذلك، فقيل: أسلم قبل الهجرة، وأقام بأمر النبي صلى الله عليه وسلم له في ذلك، لمصلحة المسلمين. روى ذلك ابن سعد عن ابن عباس، وفي إسناده الكلبيّ، وهو متروك، ويرد، أن العباس أُسر ببدر، وقد فدى نفسه كما يأتي في المغازي، ويرده أن الآية التي في قصة المستضعفين نزلت بعد بدر بلا خلاف، فالمشهور أنه أسلم قبل فتح خيبر، ويدل عليه حديث أنس في قصة الحجّاج بن عُلابِط، كما أخرجه أحمد والنَّسائي.
وروى ابن سعد عن ابن عباس أنه هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بخيبر، ورده بقصة الحجاج المذكور، والصحيح أنه هاجر عام الفتح في أول السنة، وقدم مع النبي صلى الله عليه وسلم فشهد الفتح.
رجاله أربعة:
وفيه ذكر أم ابن العباس، مرَّ عليّ بن المَدِينيّ في الرابع عشر من العلم، ومرَّ سفيان بن عُيينة في الأول من بدء الوحي، وابن عباس في الخامس منه، ومرَّ عبيد الله بن أبي يزيد في التاسع من الوضوء. وأمه أم الفضل، وقد مرت في الثالث والثلاثين من صفة الصلاة.
الحديث الثالث عشر والمئة
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ يُصَلَّى عَلَى كُلِّ مَوْلُودٍ مُتَوَفًّى وَإِنْ كَانَ لِغَيَّةٍ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِطْرَةِ الإِسْلَامِ، يَدَّعِي أَبَوَاهُ الإِسْلَامَ أَوْ أَبُوهُ خَاصَّةً، وَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ عَلَى غَيْرِ الإِسْلَامِ، إِذَا اسْتَهَلَّ صَارِخًا صُلِّىَ عَلَيْهِ، وَلَا يُصَلَّى عَلَى مَنْ لَا يَسْتَهِلُّ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ سِقْطٌ، فَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه كَانَ يُحَدِّثُ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَاّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ. ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} الآيَةَ.
أورد هذا الحديث من طريق ابن شهاب عن أبي هريرة منقطعًا، ومن طريق آخر عنه عن أبي هُريرة، فالاعتماد في المرفوع على الطريق الموصولة، وإنما أورد المنقطعة لقول ابن شهاب الذي استنبطه من الحديث، وهو قوله "إنْ كان لِغيْةِ" وقوله "مُتَوفّى" بضم الميم وفتح التاء والواو والفاء المشددة، صفة لمولود. وقوله "وإن كان لِغَيْة"، بكسر لام الجر وفتح الغين المعجمة، وقد تكسر، وتشديد المثناة التحتية، أي: لأجل غية، مفرد الغي ضد الرشد، وهو أعم من الكفر وغيره. يقال لولد الزنى ولد الغِيَّة، يعني وإن كان الولد لكافرة أو زانية، ويسمى الولد من الحلال ولد رِشْدة بكسر الراء وفتحها. قال أحد أصدقائنا: من انتمى لرِشدة فوجدا الغِية تخيير زوجه بدا:
والأول النكاح والثاني السفاح
…
والفاء فيهما بكسر وانفتاح
ومراده أنه يصلى على ولد الزنى، ولا يمنع ذلك من الصلاة عليه، لأنه محكوم بإسلامه تبعًا لأمه، وكذلك من كان أبوه دون أمه.
وقال ابن عبد البر: لم يقل أحد أنه لا يصلى على ولد الزنى إلا قتادة وحده، واختلف في الصلاة على الصبي، فقال سعيد بن جُبير: لا يصلى عليه حتى يبلغ، وقيل حتى يصلي. وقال الجمهور: يصلى عليه حتى السَّقْط إذا استهل، وهذا مصير من الزهريّ إلى تسمية الزاني أبًا لمن زنى بأمه، وأنه يتبعه في الإِسلام، وهو قول مالك.
وقوله: إذا استهل صارخًا، قَيْدٌ في السَّقط الداخل في قوله "كل مولود" أي: صاح عند الولادة، حال كونه صارخًا. فقوله "صارخًا" حال مؤكدة من فاعل استهل، والمراد العلم بحياته بصياح أو غيره، كاختلاجه بعد انفصاله. وقوله: صُلِّي عليه، بضم الصاد وكسر اللام، لظهور أمارة الحياة عليه. وقوله: من أجل أنه سَقِط، بكسر السين وضمها قد تفتح، أي: جنين سَقَط قبل تمامه.
وقد قال القسطلانيّ: إن بلغ مئة وعشرين يومًا: حد نفخ الروح فيه، وجب غسله وتكفينه ودفنه، ولا تجب الصلاة عليه، بل لا تجوز، لعدم ظهور حياته، وإن سقط لدون أربعة أشهر، ووُري بخرقة ودفن فقط. وعند المالكية السقط الذي لم يستهل صارخًا، أي: تحقق حياته، يكره غسله، وتحنيطه، وتسميته، والصلاة عليه، سواء ولد بعد تمام العمل أو قبله، ويغسل ما فيه من الدم استحبابًا، ويلف بخرقة ويدفن وجوبًا.
والحركة اليسيرة والرضاع اليسير والعُطاس والبول لا دلالة فيها فطعية على الحياة، وعند الليث وابن وهب وأبي حَنيفة والشافعيّ أنّ الحركة والرضاع والعطاس استهلال، عند الحنفية إذا لم يستهل لا يغسل، ولايورث، ولا يرث، ولا يصلى عليه، ولا يسمى.
وعند الطحاويّ أن الجنين الميت يغسل، ولم يَحْكِ فيه خلافًا، وعند محمد في سقطٍ استبانَ خلقُه: يغسَل ويكفن ولا يصلى عليه. وقال أبو حنيفة إذا خرج أكثر المولود وهو يتحرك، صلى عليه، وإن خرج أقله لم يصل عليه.
وقال ابن قُدامة: السِّقط الولد تضعه المرأة ميتًا أو لغير تمام، فأما إن خرج حيًا واستهل، فإنه يصلى عليه بعد غسله بلا خلاف، وصلى ابن عمر على ابن ابنه، ولد ميتًا. وقوله: فإن أبا هريرة، رضي الله تعالى عنه، الفاء للتعليل، وهذا منقطع كما مرَّ، لأن ابن شهاب لم يسمع من أبي هُريرة، بل لم يدركه، ولم يذكره المصنف للاحتجاج به، بل للاستنباط المار منه.
وقوله: ما من مولود إلا يولد على الفطرة، مِنْ زائدة، ومولود مبتدأ، ويولد خبره، أي ما مولود يوجد على أمر من الأمور إلا على الفطرة. وفي الرواية الآتية في باب "ما قيل في أولاد المشركين": كل مولود يولد على الفطرة، والمراد به المولود من بني آدم، وصرح بذلك جعفر بن ربيعة عن الأعرج عن أبي هريرة بلفظ "كل بني آدم يولد على الفطرة".
واستشكل هذا التركيب بأن ظاهره يقتضي أنّ كل مولود يقع له التهويد وغيره مما ذكر، والغرض أن بعضهم يستمر مسلمًا ولا يقع له شيء، والجواب أن المراد من التركيب أن الكفر ليس من ذات المولود، ومقتضى طبعه، بل إنما حصل بسبب خارجي، فإنْ سلم من ذلك السبب استمر على الحق، وهذا يقوي المذهب الصحيح في تأويل الفطرة، كما سيأتي.
وقوله: يولد على الفطرة، ظاهره تعميم الوصف المذكور في عموم المولودين، ولمسلم عن أبي صالح عن أبي هُريرة "ليس من مولود يولد إلا على هذه الفِطرة، حتى يعبِّر عنه لسانه". وفي رواية له من هذا الوجه "ما من مولود إلا وهو على المِلة".
وحكى ابن عبد البَرَّ عن قوم أنه لا يقتضي العموم، وإنما المراد أن كل من ولد على الفطرة، وكان له أبوان على غير الإِسلام نقلاه إلى دينهما، فتقدير الخبر على هذا: كل مولود يولد على الفطرة، وأبواه يهوديان مثلًا، فإنهما يهودانه، ثم يصير عند بلوغه إلى ما يحكم به عليه. واحتجوا بحديث أُبَي بن كعب، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"الغلام الذي قتله الخِضر طبعه الله يوم طبعه كافرًا"، وبما رواه سعيد بن منصور، يرفعه "أن بني آدم خلقوا طبقات، فمنهم من يولد مؤمنًا، ويحيا مؤمنًا، ويموت مؤمنًا، ومنهم من يولد كافرًا، ويحيا كافرًا ويموت كافرًا، ومنهم من يولد مؤمنًا، ويحيا مؤمنًا ويموت كافرًا. ومنهم من يولد كافرًا ويحيا كافرًا ويموت مؤمنًا. قالوا: ففي هذا الحديث، وفي غلام الخضر، ما يدل على أن الحديث ليس على عمومه، وأجيب بأن حديث سعيد بن منصور فيه ابن جدعان، وهو ضعيف، ويكفي في الرد عليهم رواية أبي صالح المتقدمة. ورواية جعفر بن ربيعة
المتقدمة أيضًا، واختلف السلف في المراد بالفطرة في هذا الحديث على أقوال كثيرة.
وحكى أبو عبيد أنه سأل محمد بن الحسن، صاحب أبي حنيفة عن ذلك، فقال: كان هذا في أول الإِسلام قبل أن تنتزل الفرائض، وقبل الأمر بالجهاد. قال أبو عُبَيد: كأنّه عني أنه لو كان يولد على الإِسلام فمات قبل أن يهوَّدَه أبواه مثلًا لم يَرثاه، والواقع في الحكم أنهما يرثانه، فدل على تغير الحكم، وقد تعقبه ابن عبد البر وغيره، وسبب الاشتباه أنه حمله على أحكام الدنيا، فلذلك ادَّعى فيه النسخ. والحق أنه إخبار من النبي صلى الله عليه وسلم بما وقع في نفس الأمر، ولم يرد به إثبات أحكام الدنيا.
وأشهر الأقوال أن المراد بالفطرة الإِسلام. قال ابن عبد البَر: هو المعروف عند عامة السلف، وأجمع أهل العلم بالتأويل على أن المراد بقوله تعالى {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} الإِسلام، وبحديث عياض بن حِمار عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه "أني خلقتُ عبادي حُنفاء كلهم، فاجتالتهم الشياطين عن دينهم .. " الحديث. وقد رواه غيره فزاد "حنفاء مسلمين"، ورجحه بعض المتأخرين بقوله تعالى {فِطْرَتَ اللَّهِ} لأنها إضافة مدح، وقد أمر نبيه بلزومها، فعلم أنها الإِسلام.
وقال ابن جرير: قوله تعالى {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ} أي: سدد لطاعته حنيفًا أي: مستقيمًا. فطرة أي: صبغة الله، وهو منصوب على المصدر الذي دل عليه الفعل الأول، أو منصوب بفعل مقدَّر: أي: الزم. وقد مرَّ قول الزهريّ في الصلاة على المولود من أجل أنه ولد على فطرة الإِسلام، ويأتي في تفسير سورة الروم جزم المصنف بأن الفطرة الإِسلامُ، وقد قال أحمد: من مات أبواه وهما كافران حكم بإسلامه. واستدل بحديث الباب، فدل على أنه فسر الفطرة بالإِسلام، وتعقبه بعضهم بأنه كان يلزم أن الأصح استرقاقه، ولا يحكم بإسلامه، إذا أسلم أحد أبويه، والحق أن الحديث سِيق لبيان ما هو في نفس الأمر، لا لبيان الأحكام في الدنيا. وحكى محمد بن نصر أن آخر قوْليْ أحمد أن المراد بالفطرة الإِسلام، وقال ابن القَيِّم: قد جاء عن أحمد أجوبة كثيرة يحتج فيها بهذا الحديث، على أن الطفل إنما يحكم بكفره بأبويه، فإذا لم يكن بين أبوين كافرين فهو مسلم.
وروى أبو داود عن حمّاد بن سَلَمة أنه قال: المراد أن ذلك حيث أخذ الله عليهم العهد، حيث قال:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} ونقله ابن عبد البَرّ عن الأوزاعيّ وسَحْنون. ونقله أبو يعلي بن الغراء عن أحد الروايتين، عند أحمد، وهو ما حكاه الميمونيّ عنه، وذكره ابن بَطّة، وسيأتي في آخر الحديث، ثم يقول أبو هريرة: فطرة الله التي فطر الناس عليها إلى قوله القيم، وظاهره أنه من بقية الحديث المرفوع، وليس كذلك، بل هو من كلام أبي هريرة أُدرج في الخبر. بينه مسلم عن الزّبيديّ عن الزُّهْريّ، ولفظه "ثم يقول أبو هريرة اقرؤا أن شئتم" قلت: البيان الذي في مسلم هو الذي عند المصنف كل منهما عزا القول لأبي هريرة إلا أن مسلمًا قال إنه يقول "اقرؤا إن شئتم"، وهذا ليس فيه زيادة بيان بعد عزو القول له.
قال الطيبيّ: ذكر هذه الآية عقب هذا الحديث يقويّ ما أوّله حماد بن سلمة من أوجه.
أحدها أن التعريف في قوله "على الفطرة" إشارة إلى معهود، وهو قول الله تعالى:{فِطْرَتَ اللَّهِ} ومعنى المأمور في قوله {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} أي أثبت على العهد القديم.
ثانيها ورود الرواية بلفظ "الملة" بدل "الفطرة والدين" في قوله {لِلدِّينِ حَنِيفًا} هو عين الملة. قال الله تعالى: {دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} ويؤيده حديث عِياض المتقدم.
ثالثها التشبيه بالمحسوس المُعَاين، ليدل على أن ظهوره يقع في البيان مبلغ هذا المحسوس، والمراد تمكن الناس من الهدى، في أصل الجِبلَّة، والتهيؤ لقبول الدِّين، فلو ترك المرء عليها، لاستمر على لزومها، ولم يفارقها إلى غيرها، لأن حسن هذا الدين ثابتٌ في النفوس، وإنما يعدل عنه لآفة من الآفات البشرية كالتقليد.
وإلى هذا مال القرطبيّ في المفهم، فقال: المعنى أن الله خلق قلوب بني آدم مؤهلة لقبول الحق، كما خلق أعينهم وأسماعهم قابلة للمرئيات والمسموعات، فما دامت باقية على ذلك القبول، وعلى تلك الأهلية أدركت الحق، ودين الإِسلام وهو الدين الحق.
وقد دل على هذا المعنى بقية الحديث، حيث قال: كما تَنْتُج البهيمةُ، يعني أن البهيمة تنتج الولد سالمًا، كامل الخلقة، فلو ترك كذلك كان بريئًا من العيب، لكنهم تصرفوا فيه بقطع أذنه مثلًا، فخرج عن الأصل، وهو تشبيه واقع، ووجهه واضح.
وقال ابن القَيِّم: ليس المراد بقوله "يولد على الفطرة" أنه خرج من بطن أمه يعلم الدين، لأن الله يقول {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} ولكن المراد أن فطرته مقتضية لمعرفة دين الإِسلام، فنفس الفطرة تستلزم الإقرار والمحبة، وليس المراد مجرد قبول الفطرة لذلك، لأنه لا يتغير بتهويد الأبوين مثلًا، بحيث يخرجان الفطرة عن القبول، وإنما المراد أن كل مولود يولد على إقراره بالربوبية، فلو خُلِّي وعُدِم المعارض لم يعدل عن ذلك إلى غيره، كما أنه يولد على محبة ما يلائم بدنه، من ارتضاع اللبن حتى يصرفه عنه الصارف، ومن ثم شبهت الفطرة باللبن، بل كانت إياه في تأويل الرؤيا. وفي المسألة أقوال أُخر، منها قول ابن المبارك: إن المراد أنه يولد على ما يصير إليه من شقاوة أو سعادة، فمن علم الله أنه يصير مسلمًا ولد على الإِسلام، ومن علم أنه يصير كافرًا ولد على الكفر، فكأنَّه أوَّل الفطرة بالعلم.
وتعقب بأنه لو كان كذلك، لم يكف، لقوله "فأبواه يهوِّدانه .. " الخ معنى لأنهما فعلا به ما هو الفطرة التي ولد عليها فينافي التمثيل بحال البهيمة، ومنها أن المراد أن الله خلق فيهم المعرفة
والأفكار، فلما أخذ الميثاق من الذُّرِّيّة، قالوا جميعًا: بلى، فأما أهل السعادة: فقالوها طوعًا، وأما أهل الشقاوة فقالوها كرهًا.
وقال محمد بن نصر: سمعت إسحاق بن راهوَيه يذهب إلى هذا المعنى ويرجحه، وتعقب بأنه يحتاج إلى نقل صحيح، فإنه لا يعرف هذا التفصيل، عند أخذ الميثاق، إلا من السّدي، ولم يسنده، وكأنه أخذه من الإسرائيليات، حكاه ابن القيّم، ومنها أن المراد بالفطرة الخلقة، أي: يولد سالمًا لا يعرف كفرًا ولا إيمانًا، ثم يعتقد إذا بلغ التكليف، ورجحه ابن عبد البر، وقال: إنه يطابق التمثيل بالبهيمة، ولا يخالف حديث عياض، لأن المراد بقوله "حنيفًا" أي: على استقامة. وتعقب بأنه لو كان كذلك، لم يقتصر في أحوال التبديل على ملل الكفر، دون ملة الإِسلام، ولم يكن لاستشهاد أبي هريرة بالآية معنى.
ومنها قول بعضهم: إن اللام في "الفطرة" للعهد، أي: فطرة أبويه، وهو مُتَعقب بم ذُكر في الذي قبله، ويؤيد المذهب الصحيح أنّ قوله "فأبواه يهودانه .. " الخ، ليس فيه لوجود الفطرة شرط، بل ذكر ما يمنع موجبها، كحصول اليهودية مثلًا، متوقف على أشياء خارجة عن الفطرة، بخلاف الإِسلام.
وقال ابن القيم سبب اختلاف العلماء في معنى الفطرة في هذا الحديث أن القدرية كانوا يحتجون به على أن الكفر والمعصية ليسا بقضاء الله، بل مما ابتدأ الناسُ إحداثه، فحاول جماعة من العلماء مخالفتهم بتأويل الفطرة على غير معنى الإِسلام، ولا حاجة لذلك، لأن الآثار المنقولة عن السلف تدل على أنهم لم يفهموا من لفظ الفطرة إلا الإِسلام، ولا يلزم من حملها على ذلك موافقة مذهب القدرية، لأن قوله "فأبواه يهودانه" إلخ محمولٌ على أن ذلك يقع بتقدير الله تعالى، ومنهم ثم احتج عليهم مالك بقوله في آخر الحديث: الله أعلم بما كانوا عاملين.
وقوله: فأبواه، أي: المولود، الفاء إما للتعقيب أو للسببية أو جزاء شرط مقدّر: إذا تقرر ذلك فمن تغير كان سبب تغيره من أبويه. وهو قوله "يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه". إما بتعليمها إياه أو بترغيبهما فيه. وكونه تبعًا لهما في الدين يقتضي أن يكون حكمه حكمهما في الدنيا فإن سبقت له السعادة أسلم، وإلا مات كافرًا. وخص الأبوان بالذكر للغالب، فلا حجة فيه لمن حكم بإسلام الطفل الذي يموت أبواه كافرين، كما هو قول أحمد، فقد استمر عمل الصحابة ومن بعدهم على عدم التعرض لأطفال أهل الذمة.
وقوله: كما تُنْتج البهيمة بضم أوله وسكون النون وفتح المثناة بعدها جيم، قال أهل اللغة: نُتَجِت الناقة على صيغة ما لم يسم فاعله تُنْتج، بفتح المثناة، وأنْتَج الرجل ناقته ينتُجها إنتاجًا أي: تلد البهيمة بهيمة، بالنصب مفعول به.
قال الطيبي: قوله "كما" حال من الضمير المنصوب في يهودانه، أي: يهودان المولود بعد أن
خلق على الفطرة تشبيهًا بالبهيمة التي جُدعت بعد أن خلقت سليمة، أو هو صفة مصدر محذوف، أي يغيرانه تغييرًا مثل تغييرهم البهيمة السليمة. وقد تنازعت الأفعال الثلاثة في "كما" على التقديرين. وقوله: جمعاء، أي: لم يذهب من بدنها شيء، سميت بذلك لاجتماع أعضائها، وفي الرواية الآتية "كمثل البهيمة تُنْتَج البهيمة" أي: تلدها، فالبهيمة الثانية بالنصب على المفعولية.
وقوله: هل تُحِسّون، بضم أوله، من الإحساس، والمراد به العلم، وقوله:"فيها من جدعاء" بجيم مفتوحة ودال مهملة ساكنة ممدودًا، أي: مقطعة الأُذُن أو الأنف أو الأطراف، والجملة صفة أو حال، أي: بهيمة مقولًا فيها هذا القول، أي كل من نظر إليها قال هذا القولَ، لظهور سلامتها. وفيه إيماء إلى أن تصميمهم على الكفر كان بسبب صَمَمهم عن الحق، وفي الرواية الآتية "هل ترى فيها جدعاء" قال الطيبي: هو في موضع الحال، أي: سليمة مقولًا في حقها ذلك. وفيه نوع التأكيد.
وقوله: ثم يقول أبو هريرة إلخ، قد مرَّ أن هذا مدرج من كلام أبي هُريرة. وقوله: فطرةَ الله، أي: خِلقته، نُصِبَت على الإِغراء أو المصدر لما دل عليه ما بعدها. قال صاحب الكشَّاف: أي: الزموا فطرة الله، أو عليكم فطرة الله، أي: خلقهم قابلين للتوحيد ودين الإِسلام، لكونه على مقتضى العقل والنظر الصحيح، حتى أنهم لو تركوا طباعهم لما اختاروا عليه دينًا آخر.
قال البرماويّ: ولا يخفى ما فيه من نزعة اعتزالية، وقال أبو حيان في البحر: قوله "أو عليكم فطرة الله" لا يجوز لأن فيه حذف كلمة الإغراء، ولا يجوز حذفها، لأنه قد حذف الفعل وعوض عليك منه، فلو جاز حذفه لكان إجحافًا، إذ فيه حذف العوض والمعوض عنه. وقوله: التي فطر الناس عليها، أي خَلَقهم عليها، وهي قبول الحق، وتمكنهم من إدراكه إلى آخر ما مرَّ في تفسير الفطرة من الأقوال الكثيرة.
وقوله: لا تبديل لخلق الله، أي: دين الله، كما قال به سعيد بن جبير وقتادة وإبراهيم النخعيّ. وقيل: معناه الإِحصاء، كما قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة، واستشكل هذا مع كون الأبوين يهودانه، وأجيب بأنه مؤول، فالمراد ما ينبغي أن تُبدَّلَ تلك الفطرة، أو من شأنها أن لا تبدل، أو الخبر بمعنى النهي.
وقوله: "ذلك" إشارة إلى الدين المأمور بإقامة الوجه له في قوله {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ} أو الفطرة إنْ فُسِّرت بالملة. وقوله: الدين القيم، أي: المستوي الذي لا عوج فيه. اعلم أن ابن هشام في المغني ذكر عن ابن هشام الخَضْراويّ أنه جعل هذا الحديث شاهدًا لورود حتى للاستثناء، فذكره بلفظ "كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللّذان يهوِّدانه وينصِّرانه" قال: ولك أن تُخَرِّجه على أن فيه حذفًا، أي: يولد على الفطرة، ويستمر على ذلك حتى يكون، يعني فتكون حتى للغاية على بابها.