الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تضبيبٌ على حرف "لا"، ولا أدري ما وجهه، وبإثبات النفي يتم المعنى، أي كان إذا اتفق له أن يشتري شيئًا، كان تصدق به، لا يتركه في ملكه حتى يتصدق به. وكأنه فهم أن النهي عن شراء الصدقة إنما هو لمن أراد أن يتملكها، لا لمن يردها صدقة، وتأتي بقية الكلام على الحديث إن شاء الله تعالى في الذي بعده.
رجاله ستة:
وفيه ذكر عمر، وقد مرّ الجميع، مرَّ يحيى بن بكير والليث وعقيل والزهريّ في الثالث من بدء الوحي، وعمر في الأول منه، ومرَّ سالم بن عبد الله في السابع عشر من الإيمان، وأبوه عبد الله في أوله قبل ذكر حديث منه.
وهذا الحديث أخرجه النَّسَائيّ في الزكاة أيضًا.
الحديث الثاني والتسعون
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ رضي الله عنه يَقُولُ حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَضَاعَهُ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِيَهُ، وَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَبِيعُهُ بِرُخْصٍ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: لَا تَشْتَرِي وَلَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ، وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ، فَإِنَّ الْعَائِدَ فِي صَدَقَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ.
قوله: حملت على فرس، زاد القعنبي في الموطأ "عتيق"، والعتيق الكريم الفائق من كل شيء، وهذا الفرس، أخرج ابن سعد في الطبقات عن الواقديّ، أن تميمًا الداريّ أهدى فرسًا، يقال له الورد، للنبي صلى الله عليه وسلم، فأعطاه عمر، فحمل عمر عليه في سبيل الله، فوجده عمر يباع .. الحديث، فعرف بهذا تسميته، وأصله، ولا يعارضه ما أخرجه مسلم وأبو عوانة. واللفظ للثاني عن ابن عمر، أن عمر حمل على فرس في سبيل الله، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا، لأنه يحمل على أن عمر لما أراد أن يتصدق فوّض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، اختيار من يتصدق به عليه، أو استشاره فيمن يحمله عليه، فأشار به عليه، فنسبت إليه العطية، لكونه أمره بها.
وقوله: في سبيل الله، المراد به الجهاد لا الوقف، فلا حجة لمن أجاز بيع الموقوف، إذا بلغ غاية لا يتصور الانتفاع به فيما وقف له. وظاهر أنه حمله عليه حمل تمليك، ليجاهد عليه، إذ لو كان حمل تحبيس لم يَجُزْ بيعه. والرجل المحمول لم يسمَّ، وقوله: فأضاعه الذي كان عنده، أي بترك القيام عليه بالعلف والخدمة ونحوهما. وقيل: لم يعرف مقداره، فأراد بيعه بدون قيمته، وقيل: معناه استعمله في غير ما جعل له، والأول أظهر.
ويؤيده رواية مسلم عن زيد بن أسلم "فوجده قد أضاعه، وكان قليل المال" فأشار إلى علة ذلك، وإلى العذر المذكور في إرادة بيعه. وقوله: لا تشتر ولا تعد، في رواية أحمد عن زيد بن
أسلم "لا تعودون" وسمّى شراءه برخصٍ عَوْدًا في الصدقة، من حيث إن الفرض منها ثواب الآخرة، مع أنَّ العادة تقتضي بيع مثل ذلك برخص، لغير المتصدق، فكيف بالمتصدق؟ فيصير راجعًا في ذلك المقدار الذي سومح فيه.
وقوله: وإن أعطاكه بدرهم، مبالغة في رخصه، وهو الحامل له على شرائه، ويستفاد منه أن البائع كان قد ملكه ولو كان محبسًا، كما ادعاه البعض. وقال: إنما جاز بيعه لكونه صار لا ينفع به فيما حبس له، لَما كان له أن يبيعه إلا بالقيمة الوافرة، ولا كان له أن يسامح منها بشيء، ولو كان المشتري هو المحبس، وقد استشكله الإسماعيليّ وقال: إذا كان شرط الواقف ما ذكر في وقف عمر، لا يباع أصله، ولا يوهب، فكيف يجوز أن يباع الفرس الموهوب؟ وكيف لا ينهى بائعه أو يمنع من بيعه؟ قال: فلعل معناه أن عمر جعله صدقة يعطيها رسول الله صلى الله عليه وسلم من يرى إعطاءَها له، فأعطاها عليه الصلاة والسلام الرجل المذكور، فجرى منه ما ذكر، ويستفاد من التعليل المذكور أيضًا، أنه لو وجده، مثلًا، يباع بأغلى من ثمنه، لم يتناوله النهي.
وقوله: فإن العائد في صدقته كالعائد في قيئه. وفي حديث ابن عباس في الهبة "ليس لنا مثل السّوء، الذي يعود في هبته، كالكلب يعود في قيئه" أي: لا ينبغي لنا معشر المؤمنين أن نتصف بصفة ذميمة، يشابهنا فيها أخس الحيوانات في أخس أحوالها. قال الله تعالى {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} ولعل هذا أبلغ في الزجر عن ذلك، وأدل على التحريم مما لو قال مثلًا: لا تعودوا في الهبة. وإلى القول بتحريم الرجوع في الهبة بعد أن تقبض ذهب جمهور العلماء، إلا هبة الولد لوالده جمعا بين هذا الحديث وبين حديث النعمان الآتي في الهبة.
وقال الطحاويّ: قوله "لا يحل" لا يستلزم التحريم، وهو كقوله "لا تحل الصدقة لغني" وإنما معناه لا تحل له من حيث تحل لغيره من ذوي الحاجات، وأراد بذلك التغليظ في الكراهة. قال: وقوله: كالعائد في قيئه، وإن اقتضى التحريم لكون القيء حرامًا، لكن الزيادة في الرواية الأخرى، وهي قوله "كالكلب" تدل على عدم التحريم؛ لأن الكلب غير متعبد، فالقيء ليس حرامًا عليه، والمراد التنزيه عن فعل يشبه فعل الكلب. وتعقب باستبعاد ما تأوله. ومنافرة سياق الحديث له، وبأن عرف الشرع في مثل هذه الأشياء يراد به المبالغة في الزجر، كقوله "من لعب بالنَّرْد شير، فكأنما غمس يده في لحم خنزير".
قال القرطبي: الظاهر الاستدلال بالحديث على التحريم، لأن القيء حرام، ويحتمل أن يكون التشبيه للتنفير خاصة، لكون القيء مما يستقذر، وهو قول الأكثر، ويلتحق بالصدقة الكفارة والنذر وغيرهما من القُرُبات، وأما إذا ورثه فلا كراهة، وأبعد من قال: يتصدق به، قال الطبريّ: يخص من عموم هذا الحديث من وهب بشرط الثواب، ومن كان والدًا واهبًا لولده، والهبة التي لم تقبض، والتي ردها الميراث إلى الواهب لثبوت الأخبار باستثناء كل ذلك. وأما ما عدا ذلك، كالغني يُثيب الفقير، ونحو من يصل رحمه، فلا رجوع لهؤلاء.