الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أساء، ولا يضمن إنْ لم يقطع عن نفسه إنفاقه عليه، فإن قطع الإنفاق عن نفسه بذلك لم يُجْزِه. وقال ابن المنذر: أجمعوا على أن الرجل لا يعطي زوجته من الزكاة؛ لأن نففتها واجبة عليه، فتستغني بها عن الزكاة.
الحديث الخامس والستون
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه يَقُولُ: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالاً مِنْ نَخْلٍ، وَكَانَ أَحَبَّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ قَالَ أَنَسٌ: فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. إِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى يَقُولُ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "بَخْ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ". فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ.
قوله: "أكثر الأنصار" في رواية الكشميهنيّ أكثر أنصاري، أي: أكثر كل واحد من الأنصار، والإضافة إلى المفرد النكرة عند إرادة التفضيل سائغٌ، وقوله:"مالًا من نخل، وكان أحب أمواله إليه بَيْرَحاء" وهي بفتح الموحدة وسكون التحتانية وفتح الراء وبالمهملة والمد، وجاء في ضبطه أوجه كثيرة، جمعها ابن الأثير في النهاية فقال: يروى بفتح الباء وبكسرها، وبفتح الراء وضمها، وبالمد والقصر، فهذه ثمان لغات، وفي رواية حمّاد بن سَلَمة بَريحاء، بفتح أوله وكسر الراء وتقديمها على التحتانية، وفي سنن أبي داود بأريحاء مثله، لكن بزيادة ألف. وقال الباجيّ: أفصحها بفتح الموحدة وسكون الياء وفتح الراء مقصور، وكذا جزم به الصَّغَاني، ورجح صاحب الفائق رواية بَرِيحاء، وقال: هي وزن فَعيِلاء من البرَاح، وهي الأرض الظاهرة المنكشفة.
وروي عن أبي ذَرٍّ الهَرويّ أنه جزم بأنها مركبة من كلمتين؛ بير كلمة، وحاء كلمة، ثم صارت كلمة واحدة. واختلف في حاء هل هو اسم رجل أو امرأة أو مكان أُضيفت إليه البعير، أو هي كلمة زَجْر للإبل؟ وكأنَّ الإبل كانت ترعى هناك وتزجر بهذه اللفظة، فأضيفت البعير إلى اللفظة المذكورة. قال الصَّغَانيَّ: ومن ذكره بكسر الموحدة، وظن أنها بير من آبار المدينة، فقد صحف، ووهم من ضبطه بكسر الموحدة وفتح الهمزة، فإن أَريحاء من الأرض المقدسة، وتحتمل إن كان محفوظًا أن تكون سميت باسمها. قال عياض: رواية المغاربة إعراب الراء والقصر في حاء. وخطَّأ هذا
الصُّورِيُّ. وقال الباجيّ: أدركت أهل العلم، ومنهم أبو ذَرٍّ بفتحون الراء في كل حال. زاد الصُّوريّ: وكذلك الباء أوله.
وقوله: "وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخلها" زاد في رواية عبد العزيز "ويستظل بها". وقوله: "لما نزلت {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} " قام أبو طلحة. زاد ابن عبد البر: "ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر". قال: وكانت دار أبي جعفر والدار التي تليها إلى قصر بني حُدَيلة حوائطَ لأبي طلحة، وكان قصر بني حُديلة حائطًا له يقال له بَيْرَحاء، فذكر الحديث.
ومراده بدار أبي جعفر التي صارت إليه بعد ذلك، وعرفت به، وهو أبو جعفر المنصور، المشهور، الخليفة العباسيّ، وأما قصر بني حُديلة، وهو بالمهملة مصغر، ووهم من قاله بالجيم، فنسب إليهم القصر بسبب المجاورة، وإلا فالذي بناه هو معاوية بن أبي سفيان. وبنو حُدَيلة بطن من الأنصار، وهم بنو معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار، وكانوا بتلك البقعة، فعرفت بهم، فلما اشترى معاوية حصة حسَّان، كما يأتي، بني فيها هذا القصر، فعرف بقصر بني حُديلة. وبَنَى معاوية القصر المذكور ليكون له حِصناً، لما كانوا يتحدثون به بينهم لما يقع لبني أمية من قيام أهل المدينة عليهم.
قال أبو غسان المدنيّ: وكان لذلك القصر بابان، أحدهما شارع على خط بني حُديلة، والآخر في الزاوية الشرقية. وكان الذي ولي بناءَه لمعاوية الطُّفيلُ بن أُبيّ بن كعب، وأغرب الكرمانيّ فزعم أن الذي بنى القصر المذكور معاويةُ بن عمرو بن مالك بن النجار، أحد أجداد أبي طلحة، وما ذكرته عمن صنف في أخبار المدينة كعمرو بن شَبّة وغيره، يرد عليه، وهم أعلم بذلك من غيرهم.
وقوله: "بَخْ" بفتح الموحدة وسكون المعجمة، وقد تنون، مع التثقيل والتخفيف، بالكسر والرفع، ولو كررت فالاختيار أن تنون الأُولى وتسكن الثانية، وقد يسكنان جميعًا كما قال الشاعر:
بخٍ بخْ لوالده وللمولود
ومعناها تفخيم الأمر والإعجاب به. وقوله: "ذلك مال رابح" وفي رواية يحيى الآتية: رايح، بالتحتانية. والرواية الأولى واضحة من الربح، أي ذو ربح، وقيل هو فاعل بمعنى مفعول، أي: مال مربوح به، وأما الثانية فمعناها رائح عليه أجره. وقال ابن بطال: المعنى أن مسافته قريبة، وذلك أنفس الأموال، وقيل: معناه يروح بالأجر ويغدو به، واكتفى بالرواح عن الغدو، وادعى الإسماعيليّ أن من رواها بالتحتانية فقد صحف، وقول أفعل بضم اللام، على أنه قول أبي طلحة، وقوله:"فقسمها أبو طلحة" فيه تعيين أحد الاحتمالين في غير هذه الرواية، حيث وقع فيه "أفعل فقسمها" فإنه احتمل الأول، واحتمل أن يكون أفعل صيغة أمر. وفاعلُ قَسَمَها النبيُ صلى الله عليه وسلم. وانتفى هذا الاحتمال الثاني بهذه الرواية.
وذكر ابن عبد البَرّ أن إسماعيل القاضي رواه عن القعنبي عن مالك فقال في روايته: فقسمها
رسول الله صلى الله عليه وسلم في أقاربه، وبني عمه. قال: وقوله: في أقاربه، أي أقارب أبي طلحة. قال ابن عبد البر: إضافة القَسْم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان سائعًا شائعًا في لسان العرب، على معنى أنه الأمر به، لكن أكثر الرواة لم يقولوا ذلك، والصواب رواية من قال: فقسمها أبو طلحة.
وقوله: "في أقاربه وبني عمه" في رواية ثابت: فجعلها لحسّان وأُبَيَّ، وكذا في رواية همام عن إسحاق. وفي رواية الأنصاريّ عن أبيه عن ثُمامة، وقد تمسك به من قال: أقل مَنْ يعطى من الأقارب إذا لم يكونوا منحصرين اثنان. وفيه نظر. لأنه وقع في رواية ابن الماجشون عن إسحاق، فجعلها أبو طلحة في ذي رحمه، وكان منهم حسّان وأُبَيّ بن كَعْب، فدل على أنه أعطى غيرها معهما، وفي مرسل أبي بكر بن حزم: فرده على أقاربه: أُبَيِّ بن كعب وحسّان بن ثابت وأخيه أو ابن أخيه شداد بن أوس ونُبَيط بن جابر، فتقاوموه، فباع حسّان حصته من معاوية بمئة ألف درهم.
وفي رواية عبد العزيز في الوقف "فباع حسّان حصته من معاوية، فقيل له: أتبيع صدقة أبي طلحة؟ فقال: ألا أبيع صاعًا من تمر بصاع من دراهم؟ " وهذا يدل على أن أبا طلحة ملكهم الحديقة المذكورة، ولم يقفها عليهم، إذ لو وقفها عليهم ما ساغ لحسّان أنْ يبيعها، فيعكر على مَنْ استدل بشيء من قصة أبي طلحة في مسائل الوقف، إلا فيما لا تخالف فيه الصدقة الوقف. ويحتمل أن يقال: شَرَط أبو طلحة عليهم لمّا وَقَفها عليهم أن من احتاج إلى بيع حصته منهم جاز له بيعها. وقد قال بجواز هذا الشرط على رضي الله تعالى عنه، ومالك وغيرهما.
وقد اختلف العلماء في الأقارب، فقال أبو حنيفة: القرابة كل ذي رَحِم مُحَرَّم من قبل الأب أو الأم، ولكن يبدأ بقرابة الأب قبل الأم، وقال أبو يوسف ومحمد: من جمعهم أب منذ الهجرة من قبل أب أو أُم من غير تفصيل، زاد زفر: ويقدم من قرب منهم، وهي رواية عن أبي حنيفة أيضًا. وأقل من يدفع إليه ثلاثة، وعند محمد اثنان، وعند أبي يوسف واحد، ولا يصرف للأغنياء عندهم إلا أن يشترط ذلك.
وقالت الشافعية والمالكية: القريب من اجتمع في النسب سواء قَرُب أو بعد، مسلمًا كان أو كافرًا، غنيًا كان أو فقيرًا، ذكرًا كان أو أُنثى، وارثًا أو غير وارث، محرمًا أو غير محرم. وقالوا: إن وجد جَمْعٌ محصورون أكثر من ثلاثة استوعبوا، وقيل: يقتصر على ثلاثة، وإن كانوا غير محصورين، ونقل الطحاويّ الاتفاق على البُطلان، وفيه نظر، لأن عند الشافعية وجهًا بالجواز، ويصرف لثلاثة منهم، ولا تشترط التسوية. وقال أحمد في القرابة مثلهما، إلا أنه أخرج الكافر. وفي رواية عنه: القرابة كل من جمعه مع الموصي الأب الرابع إلى ما هو أسفل منه.
وعند المالكية يبدأ بفقرائهم حتى يغنوا، ثم يعطي الأغنياء. وفي قصة أبي طلحة أن الوقف لا يحتاج في انعقاده إلى قبول الموقوف عليه، وقيدت المالكية ذلك بأن لا يكون معينًا أهلًا للقبول
والرد، وإلا فلابد من قبوله. واستدل به على صحة الصدقة المطلقة، ثم يعينها المتصدق لمن يريد.
قال ابن بطال: ذهب مالك إلى صحة الوقف، وإن لم يعين مصرفه، ووافقه أبو يوسف ومحمد والشافعيّ في قول. قال ابن القصار: وجهه أنه إذا قال: وقف أو صدقة، فإنما أراد به البر والقرابة، وأولى الناس ببره أقاربه، ولاسيما إذا كانوا فقراء، وهو كمن أوصى بثلث ماله، ولم يعين مصرفه، فإنه يصح ويصرف في الفقراء. والقول الآخر للشافعيّ إن الوقف لا يصح حتى يعين جهة مصرفه، وإلا فهو باقٍ على ملكه. وقال بعض الشافعية: إن قال: وقفته، وأطلق، فهو محل الخلاف، وإن قال: وقفته لله، خرج عن ملكه جزمًا. ودليله قصة أبي طلحة هذه.
واستدل به للجمهور في أن مَنْ أوصى أن يفرق ثلث ماله حيث أرى الله الوصي صحت وصيته، ويفرقه الوصي في سبل الخير، ولا يأكل منه شيئًا ولا يعطي منه وارثًا للميت، وخالف في ذلك أبو ثور وفاقًا للحنفية في الأول دون الثاني.
وفيه جواز تصدق الحي في غير مرض بأكثر من ثلث ماله، لأنه عليه الصلاة والسلام لم يستفصل أبا طلحة عن قدر ما تصدق به، وقال لسعد بن أبي وقاص: الثلث كثير، وفيه تقديم الأقرب من الأقارب على غيرهم. وفيه جواز إضافة حب المال إلى الرجل الفاضل العالم، ولا نقص عليه في ذلك. وقد أخبر الله تعالى عن الإنسان أنه لحب الخير لشديد، والخير هنا المال اتفاقًا، وفيه اتخاذ الحوائط والبساتين، ودخول أهل العلم والفضل فيها، والاستظلال بظلها، والأكل من ثمرها، والراحة والتنزه فيها. وقد يكون ذلك مستحبًا يترتب عليه الأجر، إذا قصد به إجمام النفس من تعب العبادة، وتنشيطها للطاعة. وفيه كسب العقار وإباحة الشرب من دار الصديق، ولو لم يكن حاضرًا، إذا علم طيب نفسه.
وفيه إباحة استعذاب الماء، وتفضيل بعضه على بعض، وفيه التمسك بالعموم، لأن أبا طلحة فهم من قوله تعالى:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} تتناول ذلك بجميع أفراده، فلم يقف حتى يرد عليه البيان عن شيء بعينه، بل بدر إلى إنفاق ما يحبه، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، واستدل به لما ذهب إليه مالك من أن الصدقة تصح بالقول من قبل القبض، فإن كانت لمعيَّن استحق المطالبة بقبضها، وإن كانت لجهة عامة خرجت عن مالك القائل، وكان للإمام صدقة في سبيل الصدقة، وكل هذا ما إذا لم يظهر مراد المتصدق، فإن ظهر اتبع.
وفيه جواز تولي المتصدق قَسْم صدقته، وفيه جواز أخذ الغني من صدقة التطوع إذا حصل له بغير مسألة، واستدل به على مشروعية الحَبْس والوَقْف، خِلافًا لمن منع ذلك وأبطله، ولا حجة فيه، لاحتمال أن تكون صدقة أبي طلحة تمليكًا، وهو ظاهر سياق الماجشون عن إسحاق. وفيه زيادة الصدقة في التطوع على قدر نصاب الزكاة، لأن هذا الحائط مشهور أنّ رَبْعه يحصل للواحد