الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لطائف إسناده:
فيه التحديث بالجمع والإِفراد والعنعنة والقول، ورواته مصريان ومدنيان، وفيه رواية التابعيّ عن التابعيّ. أخرجه البخاريّ أيضًا في الجنائز والمغازي، وأبو داود في الجنائز، وكذلك التِّرمذيّ والنّسائيّ وابن ماجه.
الحديث المائة
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: خَرَجَ يَوْمًا فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلَاتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ إِنِّي فَرَطٌ لَكُمْ، وَأَنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ، وَإِنِّي وَاللَّهِ لأَنْظُرُ إِلَى حَوْضِي الآنَ، وَإِنِّي أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الأَرْضِ أَوْ مَفَاتِيحَ الأَرْضِ وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي، وَلَكِنْ أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا.
قوله: صلاتَه، بالنصب أي مثل صلاته، زاد في غزوة أحد عن حَيْوة بن شُريح عن يزيد "بعد ثمان سنين، كالمودع للأحياء والأموات" وزاد فيه "فكانت آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" وقد كانت أُحُدٌ بشوال سنة ثلاث. ومات النبي صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول سنة إحدى عشرة، فعلى هذا ففي قوله "بعد ثمان سنين" تجوز على طريق جبر الكسر، وإلا فهي سبع سنين ودون النصف.
وقال النووي: المراد بالصلاة هنا الدعاء، وأما كونه مثل الذي على الميت، فمعناه أنه دعا لهم بمثل الدعاء الذي كانت عادته أن يدعو به للموتى. ومعنى قوله: كالمودع للأحياء والأموات، أما توديعه للأحياء فظاهر، لأنه يشعر بأن ذلك كان في آخر حياته عليه الصلاة والسلام، وأما توديع الأموات فيحتمل أن يكون الصحابيّ أراد بذلك انقطاع زيارته الأموات بجسده الشريف، لأنه بعد موته، وإن كان حيًا فهي حياة أخروية لا تشبه الحياة الدنيوية.
ويحتمل أن يكون المراد بتوديع الأموات ما أشار إليه في حديث عائشة من الاستغفار لأهل البقيع. وقوله: ثُم انصرف إلى المنبر، وفي رواية مسلم كالمؤلف في المغازي "ثم صعد المنبر كالمودع للأحياء والأموات" وعند ابن أبي شيبة من مرسل أيوب بن بشير "خرج عاصبًا رأسه حتى جلس على المنبر، ثم كان أول ما تكلم به أن صلى على أصحاب أُحد، واستغفر لهم، وأكثر
الصلاة عليهم". وهذا يحمل على أن المراد أول ما تكلم به، أي: عند خروجه قبل أن يصعد المنبر. وقوله: فقال إني فَرَطَ لكم، بفتح الفاء والراء، وهو الذي يتقدم الواردة ليصلح لهم الحياض والدلاء ونحوهما، أي: أنا سابقكم إلى الحوض كالمهيىء له لأجلكم.
وفيه إشارة إلى قرب موته صلى الله عليه وسلم، وتقدمه على أصحابه، ولذا قال كالمودع للأحياء والأموات. وقوله: وأنا شهيد عليكم، أي: أشهد عليكم بأعمالكم، فكأنه باق معهم لم يتقدمهم، بل يبقى بعدهم حتى يشهد بأعمال آخرهم، فهو عليه الصلاة والسلام قائم بأمرهم في الدارين في حياته وموته.
وعن ابن مسعود عند البزّار بإسناد جيد رفعه، "حياتي خير لكم، ووفاتي خير لكم، تعرض عليّ أعمالكم، فما رأيت من خير حمدت الله عليه، وما رأيت من شر استغفرت الله لكم". وقوله: وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن، أي: نظرًا حقيقيًا بطريق الكشف، والحلف لتأكيد الخبر وتعظيمه.
وقوله: أو مفاتيح الأرض، شك من الراوي، فيه إشارة ما فتح على أمته من الملك والخزائن، والحوض يأتي الكلام عليه في محله في آخر كتاب الرقاق. وقوله: ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي أي: ما أخاف على جميعكم الإشراك، بل على مجموعكم، لأن ذلك قد وقع من البعض أعاذنا الله تعالى من ذلك.
وقوله: ولكن أخشى أن تنافسوا فيها، بإسقاط إحدى التاءين، وفي رواية عمرو بن عوف في الرقاق "ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تُبْسَط عليكم الدنيا كما بُسِطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتلهيكم كما ألهتهم" والضمير في ضمها لخزائن الأرض المذكورة في حديث الباب، أو للدنيا المصرح بها في حديث الرقاق هذا، وحديث مسلم.
والتنافس من المنافسة، وهي الرغبة في الشيء منافسةً ونَفَاسة ونِفاسًا، ونَفُس الشيءُ بالضم، نفاسةً صار مرغوبًا فيه. ونَفِسْتُ به بالكسر بخلت، ونَفَسْت عليه لم أره أهلًا لذلك.
وقوله: فتلهيكم، وفي رواية "فتهلككم" أي: لأن المال مرغوبٌ فيه، فترتاح النفس لطلبه، فتمتنع منه، فتقع العداوة المقتضية للمقاتلة المفضية إلى الهلاك. وقوله في هذا الحديث، ما الفقر أخشاه عليكم. والأول هو الراجح. وخص بعضهم جواز ذلك بالشعر.
وهذه الخشية يحتمل أن يكون سببها علمه أن الدنيا ستفتح عليهم ويحصل لهم الغنى بالمال، وقد أخبر بوقوع ذلك قبل أن يقع، ووقع. وقال الطيبيّ: فائدة تقديم المفعول هنا الاهتمام بشأن
الفقر، فإن الوالد المشفِق إذا حضره الموت كان اهتمامه بحال ولده في المال، فأعلم صلى الله عليه وسلم أصحابه أنه، وإن كان لهم في الشفقة عليهم كالأب، لكن حاله في المال يخالف حال الوالد، وأنه لا يخشى عليهم الفقر كما يخشاه الوالد، ولكن يخشى عليهم من الغنى الذي هو مطلوب الوالد لولده.
والمراد بالفقر العهديُّ، وهو ما كان عليه الصحابة من قلة الشيء، ويحتمل الجنس، والأول أولى، ويحتمل أن يكون أشار بذلك إلى أن مضرة الفقر دون مضرة الغنى، لأن مضرة الفقر دنيوية غالبًا، ومضرة الغنى دينية غالبًا.
قلت: إنما لم يخش عليهم الفقر كخشية الوالد، لأنه علم أن الأموال تفيض عليهم، ولا يفتقرون، فلذا خاف عليهم عاقبة الغنى الذي علم أنهم يصيرون إليه، فلينظر ما قاله الطيبيّ. وقال ابن بطال فيه: إن زَهرة الدنيا، ينبغي لمن فتحت عليه، أن يحذر من سوء عاقبتها وشر فتنتها، فلا يطمئن إلى زُخرفها، ولا ينافس غيره فيها.
ويستدل به على أن الفقر أفضل من الغنى، لأن فتنة الدنيا مقرونة بالغنى، والغنى مظنة الوقوع في الفتنة التي قد تجر إلى هلاك النفس غالبًا، والفقير آمن من ذلك. وفيه إنذار بما سيقع فوقع، كما قال صلى الله عليه وسلم، وقد فتحت عليهم الفتوح بعده، وآل الأمر إلى أن تحاسدوا وتقاتلوا، ووقع ما هو المشاهد المحسوس لكل أحد، مما يشهد بمصداق خبره عليه الصلاة والسلام.
ووقع من ذلك في هذا الحديث أخباره بأنه فَرَطُهم، أي: سابقهم، وكان كذلك، وأنّ أصحابه لا يشركون بعده، فكان كذلك، ووقع ما أنذر به من التنافس في الدنيا، ومرَّ في ذلك حديث عمرو بن عوف قريبًا، وحديث أبي سعيد في معناه، فوقع كما أخبر، وفتحت عليهم الفتوح الكثيرة، وصبت عليهم الدنيا صبًا.
واستدل به على مشروعية الصلاة على الشهداء، وقد تقدم جواب الشافعيّ عنه بما لا مزيد عليه، فإن قلت: حديثُ جابرٍ لا يحتج به، لأنه نفي، وشهادة النفي مردودة مع عارضها في خبر الإِثبات أُجيب بأن شهادة النفي إنما تردُّ إذا لم يحط بها علم الشاهد، ولم تكن محصورة، وإلا فتقبل بالاتفاق، وهذه قضية معينة أحاط بها جابر وغيره علمًا. وحديث الإثبات تقدم الجواب عنه.
وأجاب الحنفية بأنه تجوز الصلاة على القبر ما لم يتفسخ الميت، والشهداء لا يتفسخون، ولا يحصل لهم تغير، فالصلاة عليهم لا تمتنع أي وقت كان، وأوَّلَ أبو حنيفة الحديث في ترك الصلاة عليهم يومَ أُحُد على معنى اشتغاله عنهم، وقلة فراغه لذلك. وكان صعبًا على المسلمين، فغذوا بترك الصلاة عليهم يومئذ.