الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الجريدة على القبر
أي وضعها أو غرزها، ثم قال: وأوصى بُريدة الأسلميُّ أن يُجعل في قبره جريدتان، وأثر بُريدة هذا مرَّ الكلام عليه في باب "من الكبائر أنْ لا يستتر من بوله" من كتاب الوضوء وهذا وصله ابن سعد من طريق مُوَرِّق العجليّ، وبُريدة قد مرَّ في الثلاثين من مواقيت الصلاة.
ثم قال: ورأى ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما، فسطاطًا على قبر عبد الرحمن، فقال: انزعه يا غلام، فإنما يُظله عمله. الفُسطاط، بضم الفاء وسكون المهملة وبطاءين مهملتين، هو البيت من الشعر، وقد يطلق على غير الشعر، وفيه لغات أخرى: تثليث الفاء، وبالمثناتين بدل الطاءين، وإبدال الطاء الأولى مثناة، وإدغامها في السن، وكسر أوله في الثلاثة. ولفظ الأثر كما عند ابن سعد موصولًا "مرَّ عبد الله بن عمر على قبر عبد الرحمن بن أبي بكر، أخي عائشة، وعليه فُسطاط مضروبٌ فقال: يا غلام، انزعه، فإنما يظله عمله. قال: تضربني مولاتي، قال: كلا، فنزعه.
ومن طريق ابن عون عن رجل قال: قدمتْ عائشةُ ذا طُوَيّ، حين رَفَعوا أيديهم عن عبد الرحمن بن أبي بكر، فأمرتْ بفُسطاط ضرب على قبره، وكَّلَت به إنسانًا، وارتحلت، فقدم ابن عمر فذكر نحو الحديث. وقد مرَّ الكلام مستوفى على ضرب الفسطاط على القبر، في باب "ما يكره من اتخاذ القبر على المساجد".
ووجه إدخال أثر ابن عمر في هذه الترجمة من حيث، إنه يرى أن وضع النبي صلى الله عليه وسلم الجريدتين على القبرين، خاص بهما، وأن بُريدة حَمَله على العموم، فلذلك عقب أثر بُريدة بأثر عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، وهذا التعليق وصله أيضًا ابن سعد من طريق أيوب بن عبد الله بن يسار. وابن عمر مرَّ في أول الإِيمان قبل ذكر حديث منه، وعبد الرحمن المراد به عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، وقد مرَّ في الرابع من الغسل.
ثم قال: وقال خارجة بن زيد: رأيْتُني ونحن شُبَّان في زمن عثمان، رضي الله تعالى عنه، وأن أشدنا وَثْبَةً الذي يشب قبر عثمان بن مظعون حتى يجاوزه. قوله: رأيتُني، بضم المثناة، والفاعل والمفعول ضميران لشيء واحد، وهو من خصائص أفعال القلوب، وفيه جواز تعلية القبر ورفعه، عن وجه الأرض، ومناسبته من جهة أن وضع الجريد على القبر يرشد إلى جواز وضع ما يرتفع به ظهر القبر عن الأرض، وسيأتي الكلام عليه في أواخر الجنائز.
وقال ابن المنير في الحاشية: أراد البخاري أن الذي ينفع أصحاب القبور هي الأعمال الصالحة، وأن عُلُو البناء والجلوس عليه، وغير ذلك، لا يضر بصورته، وإنما يضر بمعناه، إذا تكلم القاعدون عليه مثلًا بما يضر، ويمكن أن يقال: هذه الآثار المذكورة في هذا الباب يحتاج إلى بيان مناسبتها للترجمة، وإلى مناسبة بعضها لبعض، وذلك أنه لم يذكر حكم وضع الجريدة، وذكر أثر بُريدة، وهو يؤذن بمشروعيتها، ثم أثر ابن عمر المُشْعِر بأنه لا تأثير لما يوضع على القبر، بل التأثير للعمل الصالح، وظاهرهما التعارض، فلذلك أبهم حكم وضع الجريدة، قاله الزين بن المنير.
والذي يظهر من تصرفه ترجيح الوضع، ويجاب عن أثر ابن عمر بأن ضرب الفسطاط على القبر لم يرد فيه ما ينتفع به الميت، بخلاف وضع الجريدة، لأن مشروعيتها ثبتت بفعله صلى الله عليه وسلم، وإن كان بعض العلماء قال إنها واقعة عين، يحتمل أن تكون مخصوصة بمن أطلعه الله تعالى على حال الميت، كما مرَّ في الباب المذكور آنفًا من الوضوء.
وأما الآثار الواردة في الجلوس على القبر، فإن عموم قول ابن عمر "إنما يظله عمله" يدخل فيه أنه كما لا ينتفع بتظليله، ولو كان تعظيمًا له، لا يتضرر بالجلوس عليه، وان كان تحقيرًا له. الظاهر أن في هذا الأثر الإشارة إلى أن ضرب الفسطاط إن كان لغرض صحيح، كالستر من الشمس مثلًا للحي، لا لإظلال الميت فقط، جاز، وكأنه يقول: إذا أعلى القبر لغرض صحيح، لا لقصد المباهاة، جاز، كما يجوز القعود عليه لغرض صحيح، لا لمن أحدث عليه.
وأثر خارجة هذا، وصله البخاري في التاريخ الصغير من طريق ابن إسحاق، وخارجة قد مرَّ هو وعثمان بن مظعون في السادس من الجنائز، ومرَّ عثمان بن عفان بعد الخامس من العلم. ثم قال: وقال عثمان بن حكيم: أخذ بيدي خارجه فأجلسني على قبر، وأخبرني عن عمه يزيد بن ثابت، قال: إنما كره ذلك لمن أحدث عليه، وسبب إخبار خارجة لعثمان بن حكيم بذلك، هو ما أخرجه مسدد في مسنده: أن عثمان بن حكيم حدّثه أبو سلمة بن عبد الرحمن، وعبد الله بن سرجس أنهما سمعا أبا هريرة يقول: لأنْ أجلس على جمرة فتحرق ما دون لحمي، حتى تفضي إليّ، أحَبُّ إليّ من أن أجلس على قبر" قال عثمان: فرأيت خارجه بن زيد في المقابر، فذكرت له ذلك، فأخذ بيدي .. الحديث، وإسناده صحيح.
وأخرج مسلم حديث أبي هريرة مرفوعًا، وروى الطحاويّ عن محمد بن كعب قال: إنما قال أبو هريرة، من جلس على قبر يبول عليه، أو يتغوط، فكأنما جلس على جمرة. لكنّ إسناده ضعيف. قال ابن رشيد: الظاهر أن هذا الأثر، والذي بعده، من الباب الذي بعد هذا، وهو باب موعظة المحدث عند القبر، وقعود أصحابه حوله. وكأنَّ بعض الرواة كتبه في غير موضعه.
قال: وقد يتكلف له طريق يكون به من الباب، وهو الإِشارة إلى أن ضرب الفسطاط، إلى آخر ما مرَّ في الأثر الذي قبله، وقوله: لمن أحدث عليه، المراد بالحدث هنا التغوطُ، ويحتمل أن يريد ما
هو أعم من ذلك، من إحداث ما لا يليق من الفحش، قولًا وفعلًا، لتأذّي الميت بذلك. فالمراد من النهي عن الجلوس على القبر الجلوسُ عليه للغائط أو البول، وذلك جائز في اللغة، يقال: جلس فلان للغائط، وجلس للبول، وهذا هو قول مالك وابن وهب وأبي حنيفة وصاحبيه.
قال العينيّ: فما ذكره أصحابنا في كتبهم من حرم وطء القبور، والنوم عليها، ليس على ما ينبغي، وذهب قوم إلى حمل الجلوس على ظاهره، وقالوا بكراهة الجلوس على القبر، وأبقوا أحاديث النهي على ظاهرها، والقائل بهذا الحسن وابن سيرين والشافعيّ وأحمد وإسحاق وغيرهم. وعزاه في الفتح إلى الجمهور، واحتج الأولون بأثر ابن عمر الآتي بعد هذا، وأخرج الطحاويّ عن عليّ نحوه، وأخرج عن زيد بن ثابت مرفوعًا "إنما نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الجلوس على القبور لحدث غائط أو بول". ورجال إسناده ثقات.
واحتج الآخرون بما أخرجه أحمد عن عمرو بن حزم الأنصاري مرفوعًا "لا تقعدوا على القبور" وفي رواية عنه "رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا متكىء على القبر، فقال: "لا تؤذ صاحب القبر" إسناده صحيح، وهو دال على أن المراد بالجلوس القعود على حقيقته، ورد ابن حزم التأويل المتقدم بأن لفظ حديث أبي هُريرة عند مسلم "لَأنْ يجلس أحدكم على جمرةٍ فتحرقَ ثيابه، فتخلصَ إلى جلده"، قال: وما عهدنا أحدًا يقعد على ثيابه للغائط، فدل على أن المراد القعود على حقيقته. وقال ابن بطال: التأويل المذكور بعيد، لأن الحدث على القبر أقبح من أن يكره، وإنما يكره الجلوس المتعارف.
تعليق عثمان هذا، وصله مسدد في مسنده الكبير، وفيه ثلاثة رجال، مرَّ عثمان بن حكيم في التاسع من الجمعة، ومرَّ محل خارجة في الذي قبله، وعم خارجة يزيد بن ثابت بن الضحاك الأنصاريّ أخو زيد بن ثابت الفرض، قال خليفة: شهد بدرًا، وأنكره غيره، وقالوا: إنه استشهد في اليمامة، له أحاديث، روى عنه ابن أخيه خارجة بن زيد، ذكره البخاري في هذا التعليق، وأخرج النَّسائي عن خارجة بن زيد بن ثابت عن عمه في القيام للجنازة.
ثم قال: وقال نافع: كان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، يجلس على القبور، ولا يعارض هذا ما أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عنه، قال: لَأن أطأ على رَضَف أحب إليّ من أنْ أطأ على قبر" قاله في الفتح. لا أدري وجه نفي المعارضة مع حصولها، وأخرج مسلم عن أبي مرثد الغنويّ مرفوعًا "لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها" وهذا التعليق وصله الطحاويّ ونافع، مرَّ في الأخير من العلم، ومرَّ ابن عمر في أول الإِيمان قبل ذكر حديث منه.