الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالصلاة والزكاة والصلة والعَفاف" أورده هنا مختصرًا جدًا، وقد جاء مطولًا آخر بدء الوحي، واقتصر هنا على قوله: "يأمرنا بالصلاة والزكاة والصلة والعَفاف" ودلالته على الوجوب ظاهرة، وهذا التعليق ذكره موصولًا مراتٍ أولها في آخر بدء الوحي، وقد مرَّ ابن عباس في الخامس من بدء الوحي، ومرَّ أبو سفيان في السابع منه.
الحديث الأول
حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ عَنْ زَكَرِيَّاءَ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِيٍّ عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مُعَاذًا رضي الله عنه إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: "ادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدِ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ، تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ".
هذا الحديث دلالته على وجوب الزكاة أوضح من الذي قبله. قوله: ادعُهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وفي رواية التوحيد "إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إلى أن توحدوا الله تعالى" وأهل الكتاب هم اليهود، وكان ابتداء دخول اليهودية في اليمن زمن أسعد ذي كرب، وهو تُبَّع الأصغر، كما ذكره ابن إسحاق في السير، فقام الإِسلام وبعض أهل اليمن على اليهودية.
ودخل دين النصرانية على اليمن بعد ذلك، لما غلبت الحبشة على اليمن. وكان منهم أبرهة صاحب الفيل الذي غزا مكة، وأراد هدم الكعبة حتى أجلاهم عنه سيف بن ذي يَزَن، فلم يبق بعد ذلك باليمن أحدٌ من النصارى أصلًا إلا بنجران، وهي بين مكة واليمن، وبقي ببعض بلاده قليل من اليهود، وكان بَعْثُه عليه الصلاة والسلام معاذاً إلى اليمن عند انصرافه من تبوك، سنة تسع. وزعم ابن الحذّاء أن ذلك كان في شهر ربيع الآخر سنة عشر، وقدم في خلافة أبي بكر، رضي الله عنه، في الحجة التي حج عمر عنه فيها، وفي الطبقات في شهر ربيع الآخر سنة تسع، وفي "كتاب الصحابة" للعسكريّ: بعثه عليه الصلاة والسلام واليًا على اليمن، وفي الاستيعاب "لما خلع من ماله لغرمائه بعثه صلى الله عليه وسلم وقال: لعل الله أن يَجْبُرَك، وبعثه أيضًا قاضيًا، وجعل إليه قبض الصدقات من العمال الذين باليمن.
وقوله في رواية التوحيد: "فإذا عرفوا الله" قال على أن أهل الكتاب لا يعرفون الله؛ لأن من شبهه وجسمه من اليهود أو أضاف إليه الولد أو الصاحبة أو أجاز الحلول والانتقال عليه والامتزاج، من النصارى، أو وصفه بما لا يليق به أو أضاف إليه الشريك، لم يعرفه، فمعبودهم الذي يعبدونه
ليس هو الله تعالى، وإن سموه به، إذ ليس موصوفًا بصفات الله الواجبة، فأذَنْ ما عرفوا الله سبحانه وتعالى.
وأمُرهم بالشهادتين؛ لأن ذلك أصل الدين الذي لا يصح شيء من فروعه إلا به، فمن كان منهم غير موحد على التحقيق، كالنصرانيّ، فالمطالبة موجهة إليه بكل واحدة من الشهادتين، ومَنْ كان موحدًا كاليهود، فالمطالبة له بالجمع بين ما أقربه من التوحيد، وبين الإقرار بالرسالة. وقوله:"فإنْ هم أطاعوا لذلك" أي: للإتيان بالشهادتين.
وقوله: "فأَعلمهم" بفتح الهمزة من الِإعلام، وقوله:"أن الله قد افترض" بفتح همزة أن؛ لأنها في محل النصب على أنها مفعول ثانٍ للإعلام، وطاعتهم بالصلاة يحتمل وجهين: أحدهما أن يريد إقرارهم بها، أي بوجوبها، والثاني أن يريد الطاعة بفعلها. ويرجح الأول أن المذكور في لفظ الحديث هو الإخبار بالفريضة، فتعود الإشارة بذلك إليها، ويرجح الثاني أنهم لو أخبروا بالوجوب فبادروا بالامتثال بالفعل، لكفى، ولم يشترط تلقيهم بالإقرار بالوجوب، وكذا الزكاة، لو امتثلوا بأدائها من غير تلفظ بالإقرار لكفى، فالشرط عدم الإنكار والإذعان بالوجوب لا باللفظ.
وقوله: "تؤخذ من أغنيائهم" على صيغة المجهول في محل النصب على أنه صفة، لقوله: صدقة، وكذلك قوله: وترد، على صيغة المجهول، عطف على قوله:"تؤخذ"، وأُخذ من هذا وجوب أَخْذ الزكاة ممن وجبت عليه، وقهر الممتنع على بذلها، ولو لم يكن جاحدًا، فلو كان مع امتناعه ذا شوكة قوتل، وإلا فإن أمكن تعزيره على الامتناع عُزّر بما يليق به.
وقد ورد في تعزيره بالمال حديث بَهْز بن حكيم، عن أبيه عن جده، مرفوعًا ولفظه "ومَنْ منعها، يعني الزكاة، فأنا آخذِها وشطر ماله عَزْمة من عزَمَات ربنا" أخرجه أبو داود والنسائي، وصححه ابن خُزيمة والحاكم. وأما ابن حِبّان فقالَ في ترجمة بَهْز بن حيكم: لولا هذا الحديث لأدخلته في كتاب "الثقات"، وأجاب من صححه، ولم يعمل به، بأن الحكم الذي دل عليه منسوخ، وأن الأمر كان أولًا كذلك، ثم نسخ.
وضعّف النوويّ هذا الجواب من جهة أن العقوبة بالمال لا تعرف أولًا، حتى يتم دعوى النسخ، ولأن النسخ لا يثبت إلا بشرطه، كمعرفة التاريخ" ولا يعرف ذلك، واعتمد النوويّ ما أشار إليه ابن حِبّان من تضعيف بَهْز، وليس بجيد؛ لأنه موثق عند الجمهور، ولكن إطباق علماء الأمصار على عدم العمل به، يدل على أن له معارضًا راجحًا، وقول مَنْ قال بمقتضاه يعد في ندرة المخالف، ودل الحديث على أن الذي يقبض الزكاة الإِمام أو مَنْ أقامه لذلك، وقد أطبق الفقهاء بعد ذلك على أنَّ لأرباب الأموال الباطنة مباشرةَ الإخراج، وشذ مَنْ قال بوجوب الدفع إلى الإِمام، وهو رواية عن مالك، وفي القديم للشافعي نحوه، على تفصيل عنهما فيه، والحق أن الأمير إذا كان لا يضع الزكاة في مواضعها لا يجوز دفعها له طوعًا، وإن دفعها له طوعًا لم تجز، وإن أخذها من
صاحبها كرهًا أجزأته.
واستدل بقوله: "ترد على فقرائهم" مَنْ قال بعدم وجوب تعميم الأصناف كالمالكية، وأجاب عنه القائلون بتعميم الأصناف بأن الاقتصار على الفقراء وقع لمقاتلة الأغنياء؛ لأن الفقراء هم الأغلب. وقوله: في فقرائهم، يفيد منع صرف الزكاة للكافر، ومنع نقل الزكاة من بلد المال؛ لأن الضمير في قوله:"فقرائهم" يعود على أهل اليمن، وعورض بأن الضمير إنما يرجح إلى فقراء المسلمين، وهو أعم من أن يكونوا فقراء أهل تلك البلد أو غيرهم.
وأجيب بأن المراد فقراء أهل اليمن بقرينة السياق، فلو نقلها عند وجوبها إلى بلد آخر، مع وجود الأصناف أو بعضهم، لا يُسْقِط الفرض عند المالكية النقلُ المضر ما كان على مسافة القصر لا أقل منها، فهو في حكم البلد الذي وجبت فيه، وإذا نقلت لدونهم في الاحتياج لم تجز، ولمثلهم أجزأت، ولأعدم منهم كان الأفضل نقل أكثرها إليهم.
وقال الطيبي: اتفقوا على أنها إذا نقلت وأديت يسقط الفرض عنه، إلا عمر بن عبد العزيز، فإنه رد صدقة نقلت من خراسان إلى الشام إلى مكانها من خراسان. وفي قوله:"تؤخذ من أغنيائهم" دلالة على أن الطفل تلزمه الزكاة لعموم اللفظ، وتناوله له، واختلف أهل العلم، فذهب كثير من الصحابة إلى وجوب الزكاة في مال اليتيم، منهم عمرو وابنه وعلي وعائشة، وبه قال مالك والشافعيّ وأحمد وإسحاق.
وقالت طائفة: ليس في مال اليتيم زكاة، وهو قول سفيان الثَّوريّ وابن المبارك وأبي حنيفة وأصحابه وسعيد بن جبير والحسن البصري والنخعيّ، وحجة الأولين ما رواه التِّرمْذِي عن عمرو بن شُعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب فقال:"ألا مَنْ وَلي يتميًا له مالٌ فليتجر في ماله، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة" ورواه الدارقطني بلفظ: "احفظوا اليتامى في أموالهم لا تأكلها الزكاة" ورواه البَيْهقي والدارقطني أيضًا، عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قال:"ابتغوا بأموال اليتامى لا تأكلها الصدقة" وسعيد بن المسيب سمع من عمر على الصحيح، وحديث الباب كافٍ من الدليل.
وحجة الآخرين حديث رفع القلم عن ثلاث "عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق" وأجيب عن هذا بأن الزكاة حق واجب في المال، والمخاطب به ولي الصبيّ أو وصيه، واستدل به على أن الكفار غير مخاطبين بالفروع، حيث دعوا أولًا إلى الإيمان فقط، ثم دعوا إلى العمل، ورتب ذلك عليها بالفاء، وأيضًا فإن قوله: فإنْ هم أطاعوا فأخبرهم، يفهم منه أنهم لو لم يطيعوا لا تجب عليهم شيء، وفيه نظر؛ لأن مفهوم الشرط مختلف في الاحتجاج به.
وأجاب بعضهم عن الأول بأنه استدلال ضعيف؛ لأن الترتيب في الدعوة لا يستلزم الترتيب في
الوجوب. كما أن الصلاة والزكاة لا ترتيب بينهما في الوجوب، وقد قدمت إحداهما على الأخرى في هذا الحديث، ورتبت الأُخرى عليها بالفاء، ولا يلزم من عدم الإتيان بالصلاة إسقاط الزكاة.
وقيل: الحكمة في ترتيب الزكاة على الصلاة أن الذي يُقر بالتوحيد ويجحد الصلاة، يكفر بذلك، فيصير ماله فيئًا، فلا تنفعه الزكاة، وأما قول الخطابيّ: إن ذكر الصدقة أُخّر عن ذكر الصلاة لأنها إنما تجب على قوم دون قوم، وأنها لا تُكَرَّر تَكَرُّرَ الصلاة فبدأ بالأهم فالأهم، وذلك من التلطف في الخطاب؛ لأنه لو طالبهم بالجميع في أول مرة لم يأمن النَّفْرة - فهو حسن، والمختار الذي هو قول المحققين والأكثرين أنهم مخاطبون بفروع الشريعة المأمور به، والمنهي عنه. وقيل: ليسوا مخاطبين، وقيل: مخاطبون بالمنهي دون المأمور، وقال شمس الأمة: لا خلاف أنهم مخاطبون بالإيمان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بُعث إلى الناس كافةً، ليدعوهم إلى الإيمان. قال تعالى:{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} ، ولا خلاف أنهم مخاطبون بالمشروع من العقوبات، ولا خلاف أن الخطاب بالمعاملات يتناولهم، ولا خلاف أن الخطاب بالشرائع يتناولهم في حكم المؤاخذة في الآخرة، وأما في وجوب الأداء في أحكام الدنيا، فمذهب العراقيين أن الخطاب يتناولهم أيضًا، والأداء واجب عليهم، وقيل: إنهم لا يخاطبون بأداء ما يحتمل السقوط من العبادات.
وفيه أن مَنْ ملك نصابًا لا يعطي من حيث أنه جعل المأخوذ منه غنيًا، وقابله بالفقير ومن ملك النصاب، فالزكاة مأخوذة منه فهو غني، والغنى مانع من إعطاء الزكاة إلا مَنْ استثنى. قال ابن دقيق العيد: ليس هذا البحث بالشديد القوة، وهو قول الحنفية، واستدل به مَنْ لا يرى على المديون زكاة ما بيده إذا لم يفضل عن الدين الذي عليه قدر نصاب؛ لأنه ليس بغني إذا كان إخراج ماله مستحقًا لغرمائه، وهذا مذهب المالكية في زكاة العَين خاصة. وقال البَغَويّ فيه: إن المال إذا تلف قبل التمكن من الأداء سقطت الزكاة لإضافة الصدقة إلى المال، واستدل به على أنه لا يكفي في الإِسلام الاقتصار على شهادة أن لا إله إلا الله، حتى يضيف إليها الشهادة لمحمد بالرسالة، وهو قول الجمهور. وقال بعضهم: يصير بالأُولى مسلمًا، ويطالب بالثانية.
وفائدة الخلاف تَظْهر بالحكم بالردة، وقد قال ابن العربي في شرح التِّرمذيّ: تبرأت اليهود في هذه الأزمان من القول بأن العزير ابن الله، وهذا لا يمنع كونه كان موجودًا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن ذلك نزل في زمنه عليه الصلاة والسلام، واليهود معه بالمدينة وغيرها، فلم ينقل عن أحد منهم أنه رد ذلك، ولا تعقبه، والظاهر أن القائل بذلك طائفة منهم، لا جميعهم، بدليل أن القائل من النصارى:"إن المسيح ابن الله" طائفة منهم لا جميعهم. فيجوز أن تكون تلك الطائفة قد انقرضت في هذه الأزمان، كما انقلب اعتقاد معظم اليهود عن التشبيه إلى التعطيل، وتحول معتقد النصارى في الابن والأب إلى أنه من الأمور المعنوية لا الحسية. فسبحان مقلب القلوب. قاله في "الفتح".