الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثالث عشر
حَدَّثَنَا عَيَّاشٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى حَدَّثَنَا الْجُرَيْرِيُّ عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ عَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: جَلَسْتُ. وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنَا الْجُرَيْرِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَلَاءِ بْنُ الشِّخِّيرِ أَنَّ الأَحْنَفَ بْنَ قَيْسٍ حَدَّثَهُمْ قَالَ: "جَلَسْتُ إِلَى مَلإٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَجَاءَ رَجُلٌ خَشِنُ الشَّعَرِ وَالثِّيَابِ وَالْهَيْئَةِ حَتَّى قَامَ عَلَيْهِمْ فَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: بَشِّرِ الْكَانِزِينَ بِرَضْفٍ يُحْمَى عَلَيْهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، ثُمَّ يُوضَعُ عَلَى حَلَمَةِ ثَدْيِ أَحَدِهِمْ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ نُفْضِ كَتِفِهِ، وَيُوضَعُ عَلَى نُفْضِ كَتِفِهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ حَلَمَةِ ثَدْيِهِ يَتَزَلْزَلُ، ثُمَّ وَلَّى فَجَلَسَ إِلَى سَارِيَةٍ، وَتَبِعْتُهُ وَجَلَسْتُ إِلَيْهِ، وَأَنَا لَا أَدْرِي مَنْ هُوَ فَقُلْتُ لَهُ: لَا أُرَى الْقَوْمَ إِلَاّ قَدْ كَرِهُوا الَّذِي قُلْتَ؟ قَالَ: إِنَّهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا. قَالَ لِي خَلِيلِي: قَالَ: قُلْتُ: مَنْ خَلِيلُكَ؟ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَا أَبَا ذَرٍّ أَتُبْصِرُ أُحُدًا؟. قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَى الشَّمْسِ مَا بَقِيَ مِنَ النَّهَارِ وَأَنَا أُرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُرْسِلُنِي فِي حَاجَةٍ لَهُ، قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا أُنْفِقُهُ كُلَّهُ إِلَاّ ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ. وَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَعْقِلُونَ، إِنَّمَا يَجْمَعُونَ الدُّنْيَا. لَا وَاللَّهِ لَا أَسْأَلُهُمْ دُنْيَا، وَلَا أَسْتَفْتِيهِمْ عَنْ دِينٍ حَتَّى أَلْقَى اللَّهَ".
قوله: "وحدثني إسحاق بن منصور" أردف المصنف هذا الإسناد بالذي قبله، لتصريح عبد الصمد فيه بتحديث أبي العلاء للجريريّ، والأحنف لأبي العلاء. وقد روى الأسود بن شيبان عن أبي العلاء المذكور عن أخيه مُطْرِف عن أبي ذَرٍّ طرفًا من آخر هذا الحديث أيضًا. وأخرجه أحمد، وليس ذلك بعلة لحديث الأحنف؛ لأن حديث الأحنف أتَمّ سياقًا، وأكثر فوائد، ولا مانع أن يكون لأبي العلاء شَيخان.
وقوله: "جلست إلى ملأ" في رواية مسلم والإسماعيليّ عن إسماعيل بن علية عن الجَريريّ "قدمت المدينة، فبينما أنا في حلقة من قريش". وقوله: "خشن الشعر" كذا للأكثر، بمعجمتين، من الخشونة. وللقابسيّ بمهملتين، من الحسن، والأول أصح. وفي رواية مسلم "أخشن الثياب، أخشن الجسد، أخشن الوجه، فقام عليهم" وليعقوب بن سُفيان عن حميد بن هلال عن الأحنف "قدمت المدينة، فدخلت مسجدها، إذ دخل رجل آدَمُ طُوالٌ أبيضُ الرأس واللحية، يشبه بعضه بعضًا، فقالوا: هذا أبو ذَرٍّ".
وقوله: "بشر الكانزين" في رواية الإسماعيليّ "بشر الكَنّازين". وقوله: "برَضْف" بفتح الراء وسكون المعجمة بعدها فاء، هي الحجارة المُحماة، واحدتها رَضَفَة. وقوله:"على حَلَمة ثَدْي" الحَلَمة بالتحريك، هو ما نشر من الثدي وطال ويقال لها قُراد الصدر، وللأصمعيّ: هو رأس الثدي
من الرجل والمرأة. وفي هذا الحديث جواز استعمال الثدي للرجل والمرأة. وهو الصحيح، وقال العسكري: لا يقال ثدي إلا في المرأة. ويقال في الرجل ثُنْدُؤة. والثديّ يذكر ويؤنث.
وقوله: "من مُفْضِ" بضم النون وسكون المعجمة بعدها ضاد معجمة، العظم الدقيق الذي على طرف الكتف، أو على أعلى الكتف. قال الخطابيّ: هو الشاخص منه، وأصل النَّفْض الحركة، فسمى ذلك الموضع نفضًا؛ لأنه يتحرك بحركة الإنسان. وقوله:"يتزلزل" أي: يضطرب ويتحرك، وفي رواية الإسماعيليّ: فيتجلجل، بجيمين. وزاد إسماعيل في هذه الرواية: "فوضع القوم رُؤوسهم، فما رأيت أحدًا منهم رجع إليه شيئًا، قال: فأدبر فاتَّبَعْتُه حتى جلس إلى سارية.
وقوله: "وأنا لا أدري مَنْ هو، زاد مسلم فقلت: مَنْ هذا؟ قالوا: أبو ذَرٍّ، فقمت إليه. فقلت: ما شيء سمعتك تقوله؟ قال: ما قلت إلا شيئًا سمعته من نبيهم صلى الله عليه وسلم. وفي هذه الزيادة رد لقول منْ قال إنه موقوف على أبي ذرٍّ، فلا يكون حجة على غيره، ولأحمد عن يزيد الباهليّ عن الأحنف "كنت بالمدينة، فإذا رجل يفر منه الناس حين يرونه، قلت: منْ أنت؟ قال: أبو ذَرٍّ، قلت: ما تَفرَّ الناس منك؟ قال: إني أنهاهم عن الكنوز التي كان ينهاهم عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وقوله: "إنهم لا يعقلون شيئًا" بيّن وجه ذلك في آخر الحديث حيث قال: إنما يجمعون الدنيا. وقوله: "لا أسألهم دنيا" وفي رواية إسماعيل "فقلت: مالك ولإِخوانك من قريش لا تعتريهم ولا تصيب منهم؟ قال: وربك لا أسالهم دنيا الخ". قوله: "ومَنْ خَليلك؟ قال: النبي صلى الله عليه وسلم، فأعلى" قال: هو أبو ذَرٍّ والنبي صلى الله عليه وسلم خبر لمبتدأ، كأنّه قال: خليلي النبي صلى الله عليه وسلم، وسقط بعد ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذَرٍّ" أو سقط "قال" فقط، وكأن بعض الرواة ظنها مكررة فحذفها ولابد من إثباتها.
وقوله: "يا أبا ذر، أتبصر أحدًا؟ " هذا طرف من حديث مستقل، أخرجه المصنف في كتاب الرقاق، وسأتكلم عليه قريبًا إن شاء الله تعالى. وإنما أورده أبو ذر للأحنف، لتقوية ما ذهب إليه من ذم اكتناز المال. وهو ظاهر في ذلك، إلا أنه ليس على الوجوب، ومن ثَمَّ عقبه المصنف بالترجمة التي تليه، فقال: باب إنفاق المال في حقه، وأورد فيه الحديث الدال على الترغيب في ذلك، وهو من أدل دليل على أن أحاديث الوعيد محمولة على مَنْ لا يؤدي الزكاة، وأما حديث "ما أحب أنّ لي أحُدًا ذهبًا" فمحمول على الأولوية؛ لأن جمع المال، وإن كان مباحًا، لكن الجامع مسؤول. وفي المحاسبة خطر وإن كان الترك أسلم. وما ورد من الترغيب في تحصيله وإنفاقه في حقه فمحمول على مَنْ وثق بأنه يجمعه من الحلال الذي يأمن خطر المحاسبة عليه، فإنه إذا أنفقه، حصل له ثواب ذلك النفع المتعدي، ولا يتأتى ذلك لمن لم يحصل شيئًا، وقد مرَّ عند حديث ابن عمر السابق "طهرًا للأموال" الجمع بينه وبين هذا الحديث.
وقال الزين بن المنير: في هذا الحديث حجة على جواز إنفاق جميع المال، وبذله في الصحة، والخروج عنه بالكلية في وجوه البر، ما لم يؤد إلى حرمان الوارث، ونحو ذلك مما منع منه
الشرع. وقوله: "يا أبا ذَرٍّ، أتبصر أُحدًا" وفي رواية الرِّقاق: "فاستقبلَنا أُحُد" بفتح اللام وأُحد بالرفع على الفاعلية، وفي رواية حفص بن غياث "فاستقبلْنا أحدًا" بسكون اللام، وأحدًا بالنصب على المفعولية. وفيها زيادة " فقال يا أبا ذر: فقلت: لبيك يا رسول الله" وعند أحمد زيادة "يا أبا ذَرٍّ، أي جبل هذا؟ قلت: أُحُد". وقوله: "ما أحب أنّ لي مثل أُحد ذهبًا أُنفقه كُلَّه إلا ثلاثة دنانير".
وفي رواية الرِّقاق "ما يسرني أنّ عندي مثل أُحُدٌ هذا ذهبًا، تمضي عليَّ ثالثةٌ، وعندي منه دينار" وفي رواية حفص بن غياث "ما أحب أن لي أُحدًا ذهبًا، يأتي عليّ يوم وليلة أو ثلاث، عندي منه دينار" وفي رواية أبي معاوية عند أحمد "ما أحب أنّ لي أُحدًا ذاك ذهبًا" وفي رواية أبي شهاب عن الأعمش في الاستئذان "فلما أبصر أُحدًا قال: ما أحب أنه تَحَوَّل لي ذهبًا يمكث عندي منه دينار فوق ثلاث". قال ابن مالك: تضمن هذا الحديث استعمال "حول" بمعنى "صير" وإعمالها عملها، وهو استعمال صحيح خَفِي على أكثر النحاة.
وقد جاءت هذه الرواية مبنية لما لم يسم فاعله، فرفعت أول المفعولين، وهو ضمير عائد على أحد، ونصبت ثانيهما، وهو قوله:"ذهباً" فصارت، ببنائها لما لم بسم فاعله، جاريةً مجرى "صار" في رفع المبتدأ ونصب الخبر. وقد اختلفت ألفاظ هذا الحديث، وهو متحد المخرج، فهو من تصرف الرواة، فلا يكون حجة في اللغة، ويمكن الجمع بين قوله:"مثل أُحد" وقوله: "تحول لي أُحد" يحمل المثلية على شيء يكون وزنه من الذهب وزن أحد، والتحويل على أنه إذا انقلب ذهبًا كان قدر وزنه أيضًا.
وقد اختلفت رواة ألفاظه عن أبي ذَرٍّ أيضًا. ففي رواية سالم ومنصور، عن زيد بن وهب بعد قوله:"قلت: أُحد، قال: والذي نفسي بيده ما يسرّني أنه ذهبٌ قطعًا، أنفقه في سبيل الله، أدع منه قيراطًا" وفي رواية سُويد بن الحارث عن أبي ذَرّ "ما يسرني أن لي أُحدًا ذهبًا، أموت يوم أموت، وعندي منه دينار أو نصف دينار".
وقوله: "تمضي عليّ ثالثةٌ" أي: ليلة ثالثة. قيل: إنما قيّد بالثلاث لأنه لا يتهيأ تفريق قدر أُحد من الذهب في أقل منها غالبًا، ويعكر عليه رواية يوم وليلة، فالأَوْلى أن يقال الثلاثة أقصى ما يحتاج إليه في تفرقة مثل ذلك، والواحدة أقل ما يمكن. وقوله في رواية الرِّقاق:"إلا شَيئًا أرصده في دَين" أي: أعده أو أحفظه، وهذا الإرصاد أعم من أن يكون لصاحب دَين غائب حتى يحضر فيأخذه، أو لأجل وفاء دين مؤجل حتى يحل فيوفى.
وفي رواية حفص وأبي شهاب عن الأعمش "إلا دينارٌ" بالرفع، والنصب والرفع جائزان؛ لأن المستثنى منه مطلق عام، والمستثنى مقيد خاص، فاتجه النصب. وتوجيه الرفع أن المستثنى منه في سياق النفي، وجواب "لو" هنا في تقدير النفي، ويجوز أن يحمل النفي الصريح في أن لا يمر عليّ حمل إلا على الصفة، وقد فسر شيء في هذه الرواية بالدينار. وفي رواية سُويد بن الحارث
"وعندي منه دينار أو نصف دينار". وفي رواية سالم ومنصور "أَدَع منه قيراطًا، قال: قلت: قنطارًا؟ قال: قيراطًا". وفيه قال: يا أبا ذر، إنما أقول الذي هو أقل.
وفي رواية الأحنف الماضية "أنفقه كله إلا ثلاثة دنانير" فظاهره نفي محبة حصول المال، ولو مع الانفاق، وليس مرادًا، وإنما المعنى نفي إنفاق البعض مقتصرًا عليه، فهو يحب إنفاق الكل إلا ما استثنى، وسائر الطرق تدل على ذلك، ويؤيده أن في رواية سليمان بن يسار عن أبي هُريرة عند أحمد "ما يسرني أن أُحُدَ كم هذا ذهبًا، أنفق منه كلَّ يوم في سبيل الله، فيمر بي ثلاثة أيام وعندي منه شيء إلا شيء أرصده لدَيْن" ويحتمل أن يكون على ظاهره، والمراد بالكراهة الإنفاق في خاصة نفسه، لا في سبيل الله فمحبوب. وفي الرقاق زيادة "إلا أن أقول به في عباد الله هكذا، وهكذا وهكذا، عن يمينه، وعن شماله، ومن خلفه".
وقوله: "إلا أن أقول به" استثناء بعد استثناء، فيغير الإثبات، فيؤخذ منه أنّ نفي محبة المال مقيدة بعدم الإنفاق، فيلزم محبة وجوده مع الإنفاق، فما دام الإنفاق مستمرًا لا يكره وُجود المال، وإذا انتفى الانفاق ثبتت كراهية وجود المال، ولا يلزم من ذلك كراهية حصول شيء آخر، ولو كان قدر أحدٍ أو أكثر، مع استمرار الإنفاق.
وقوله: "هكذا وهكذا وهكذا .. إلخ" هكذا اقتصر على ثلاث، وحمل على المبالغة؛ لأن العطية لمن بين يديه هي الأصل، والذي يظهر أن ذلك من تصرفات الرواة، وأن الحديث مشتمل على الجهات الأربع، ونص عليه في البُشْرانيات عن حفص بن غياث بلفظ "إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا وهكذا" وأرانا بيده. كذا فيه بإثبات الأربع، وأخرجه المصنف في الاستئذان عن حفص بن غياث، لكن اقتصر على ثلاث من الأربع، وأخرجه أبو نعيم عنه، واقتصر على اثنين، وفي الحديث زيادة كثيرة لم أتكلم عليها، يأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى في محلها في كتاب الرِّقاق.
وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم، الحثُّ على الإنفاق في وجوه الخير، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان في أعلى درجات الزهد في الدنيا، بحيث إنه لا يحب أن يبقى بيده شيءٌ من الدنيا إلا لإنفاقه فيمن يستحقه، وإما لإرصاده لمن له حق، وإما لتعذر من يقبل ذلك منه، لتقييده في رواية همّام عن أبي هُريرة الآتية في كتاب التمنّي بقوله:"أجد من يقبله"، ومن هذا يؤخذ جواز تأخير الزكاة الواجبة عن الإعطاء إذا لم يوجد مَنْ يستحق أخذها، وينبغي لمن وقع له ذلك أن يعزل القدر الواجب من ماله، ويجتهد في حصول مَنْ يأخذه، فإن لم يجد، فلا حرج عليه، ولا ينسب إلى تقصير في حبسه، ولا ضمان عليه إن ضاع، وإن ضاع الأصل لزمه إخراجه.
وفيه تقدم وفاء الدين على صدقة التطوع. وفيه جواز الاستقراض، وقيده ابن بطال باليسير، أخذًا من قوله صلى الله عليه وسلم:"إلا دينارًا" قال: ولو كان عليه أكثر من ذلك لم يرصد لأدائه دينارًا واحدًا؛ لأنه