الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يوسف شكور باشا
أيها السادة!
عادة الاعتذار عن التقصير أصبحت من مبتذلات العادات في مستهلّ كلام الخطباء. غير أنكم تغتفرون لخطيب اليوم أن يجري عليها ، إذ لا يرى مندوحة عنها ، فيسألكم المعذرة إذا بقيَ دون المقام الذي يجب أن يكون فيهِ. كيف لا ويحقُّ لأيّ دون المقام الذي يجب أن يكون فيهِ. كيف لا ويحقُّ لأيّ خطيبٍ أن يتهيَّب هذا الموقفَ أمام مثل هذا الحفل الحافل بوجوه البلاد أدباً وعلماً ومقاماً. ويُحجمَ إزاءَ الموضوع الخطير الذي دُعيت للكلام فيهِ. بل إنني أمام
هذا الجمع الموقَّر ، وفي تكريم فقيدنا الجليل ، لا أرى أجدر من ذلك الفقيد نفسهِ بالوقوف مؤبناً وخطيبً ، يجول جولاته المعروفة ، ويتدفق بفصاحتهِ المشهورة. على أنه إذا كانت يد الموت قد عقلَتْ ذاك اللسان الزلق ، وأخمدت ذلك الصوت العالي ، وأبلت ذيّاك الصدر الرحب ، فلا أقلَّ من أن تسمعوا الهممَ صوتاً - ولو ضعيفاً - يندبُ تلك المناقبَ الغراء ، ويرثي هاتيك الهممَ الشماء ، فيترامى هذا الصوت الضئيل إلى مسامعكم ، كما يترامي الصدى محمولاً على تموجات الهواء.
أيها السادة
عقدت الجمعية الخيرية هذه الحفلة ، ودعتكم إليها ، قياماً بالواجب عليها نحو رجل تفتخرُ بأن تعدَّه من أعضائها ، وإحياءً لذكر فردٍ تعتزّ أمتهُ بأنهُ كان من أفرادها. ولستُ أدَعي الإتيان على سرد حياة فقيدنا الكبير ، وحياته كانت حياةً عمومية عرَفها القاصي والداني؛ كما أنني لا أبغي تعدادَ مناقبهِ وخلاله ، وأنتم أعرَف بها ، وما فيكم إلَاّ القريب والصديق والرفيق. ولكنَّ في إعادة ذكر السلف تنشيطاً للخلف ، وفي تمجيد فضائل السابقين إرشاداً وعظة للَاّحقين. وما أحوَجنا ، شبيبة اليوم ، إلى مثل هذه الأمثال الناجعة ، تستفزُّ هممنا ساعة الخمول ، وتبعث فينا روحَ الإِقدام وقتَ اليأس ، وتضيءُ طريقنا إبَّان الظلام ، وترفعُ رؤوسنا إلى العلى في عصر الماديات. وما أجمل المثل الذي يتجلى لنا من هذا القبيل في حياة ابن شكور ، وهي الإخلاص والنزاهة ، وعفة
النفس ورحابة الصدر ، والإِقدام والذكاء والهمة العلياء. تاللهِ! إِن من كانت هذه حياته ، يحق لأسرتهِ ، بل لأمته ، أن يعظُم في عينها مماته ، فتقدرَهُ حقَّ قدره ، وتذرف العبرات على قبره. وهذا ما تفعله اليوم أسرته ، وطائفته ، وأمته. بل يبكيه وطناه: وطن سلالته ، ووطن شأته. فيحقُّ أن
يُقال فيهِ ما قال شوقي في موت أحد نوابغ رجالنا:
حلَّ بالأميتن خطبٌ جليلُ
…
رجلٌ مات والرجالُ قليلُ
أيها السادة!
من الصفات الكثيرة التي عُرف بها فقيدنا ، يلذُّ لي أن أقف عند اثنتين وهما: نزاهتهُ وهمته اللتان لم يختلف فيهما اثنان. وقد ورث هذه المناقب عن النبعة الكريمة التي يتحدَّر منها ، وسهر على هذا الإرث الأدبي الثمين سهرَ الحريص على درهمهِ. فلم يسمح بأن تمتد إليه يدٌ ، أو أن تشوبه شائبة. فجمع بين تليد ذووه من قبله. فإن جده الأكبر ، شكور كنعان ، هاجر من جبل لبنان - وكم أنبت هذا الجبل الأشم من الفروع الكريمة! - وجاء مصر مع أخيه يوسف كنعان شكور. فدخل هذا في خدمةِ الطبيب الذكر الخالدِ الأثرِ ، محمد علي باشا الكبير. فعرف ذلك النابغة قدر ابن شكور اللبناني - ومن أعظم مزايا كبار الرجال معرفة قدر الرجال - فدرَّ عليه نعماءه ، وولَاّة إدارة دار الضرب ، ثم
عهد إليهِ تنظيم جمارك دمياط ، ولا تزال آثار همته ونزاهته مدوَّنة في تاريخ مصر. وقد توارث أبناؤه تلك الهمة والنزاهة؛ وياما أجملَ ما تجلتا بهِ في شخص حفيدهِ - فقيدنا ، منذ درج من مهده ، حتى أُدرج في لحده. فكان هماماً نزيهاً ، وهو يوسف شكور التلميذ؛ وكان هماماً نزيهاً ، وهو يوسف أفندي شكور الموظف بالمالية؛ وكان هماماً نزيهاً ، وهو يوسف بك شكور المراقب في الأموال غير المقرّرة؛ كما عرفه الجميع هماماً نزيهاً وهو يوسف بشا شكور مدير بلدية الإسكندرية؛ كما ظلَّ هماماً نزيهاً في خطبه وكتاباته: خلتان عرف بهما يافعاً وشاباً وكهلاً وشيخاً. وغنيٌّ عن البيان أنّ هاتين الخلتين لا تنتجان إلَاّ عن فضائل جمة مستكنة في الصدر؛ كما أنهما تُنتجان فضائل جمة تتجلى بها النفس: فالنزاهة تفرض الإخلاص وسلامة النية وطهارة الطوية؛ والهمة تفرض الذكاء وعزة النفس والميل الغريزي إلى الأمور السامية. ومن هذه وتلك يتولد شرف المبدأ والترّفعُ عن الدنايا والرمي إلى عظائم المقاصد. وقد برهن فقيدنا الكريم على ذلك في كل طورٍ من أطوار حياته وشهد له بذلك كلُّ من عرفه من رئيس ومرؤوس. ففي مدرسة ليون الكبرى ، حيث تلقي دروسه ، كان آيةً في الذكاء والاجتهاد ، حتى بزَّ أقرانه ، ونال قصبات السبق في لغة الأجانب على أبناءِ تلك اللغة ، فعاد مكللاً بأكاليل الغار ، حاملاً شهادة البكالوريا العلمية. وفي نظارة
المالية ، أظهر من المقدرة على العمل والدراية في الأمور ما لفت غليهِ نظر رؤسائهِ ، ففتحوا له باب التقدم سريعاً. فولجه ، وهو
على تمام الاستعداد ، وأخذ يصعد في درجات الترقي قفزاً ، حتى صار مراقباً في الأموال غير المقررة. وعرف رياض باشا ونوبار باشا الطيبا الذكر قدر ذلك الموظف النزيه النشيط ، فولّياه أمور مالية صعيد مصر. ولما صحت العزيمة على إنشاءِ بلدية الإسكندرية المختلطة سنة 1890 ، رأت الحكومة أن تعهد بهذه المهمة إلى رجل كفوءٍ للقيام بها ، فوقع اختيارها على يوسف شكور بك. فنظّم تلك البلدية أحسن تنظيم ، واشتهرت مقدرته ودرايته بين الوطنيين والأجانب ، حتى رأت الحكومة أن تعين مديراً لأول بلدية مصرية دولية ذاك الذي أنشأها ورتب شؤونها. فذلل ما كان هناك من الصعاب ، وأزال ما كان من العقبات. وظلّ في تلك الوظيفة عاملاً مجتهداً ، مدة اثنتي عشرة سنة. وخرج منها طاهرَ الذيل ، ناصع الجبهة ، مخلّفاً في تلك المدينة - وهي مسقط رأسه - مآثر غير دوائر تنطق إلى الأبد بجليل عمله وعظيم نزاهته وإخلاصه. وقد يطولُ بي تعداد ما أتاه هناك من الأعمال الخطيرة والإصلاحات الجليلة ، حتى بات لا يذكر اسم الإسكندرية والإصلاح فيها إلا ويُقرن باسم شكور باشا. وقد رأت تلك البلدية بعد موتهِ أن تُطلق على أحد شوارع المدينة اسم رجلها الكبير ومصلحها العظيم. ويا نعم ما فعلت! وفي سنة 1903 غادر خدمة الحكومة نهائيّاً. على أن تلك النفس الكبيرة الناهضة أبت التمتع بالراحة التي استحقتها بعد جهادٍ طويل؛ فتولى شكور باشا إدارة شركات مالية مختلفة. أزهرت على يده وأثمرت؛ وكانت برهاناً جديداً على علوّ همة الرجل ، ومضاءِ عزمه ، وثاقب فكره.
ورأى من الواجب عليهِ أن يخدم مصر ، حتى آخر رمق من حياتهِ؛ فعكف على خدمتها بقلمه ولسانه. فكان ذلك لا يباري. فشغل ساعات فراغهِ بتحبير تلك المقالات الشائقة في مواضيع اقتصادية وعمرانية ومالية. وكم كان له في هذا الميدان من الجولات الصادقة ، والآراء الصائبة ، التي تناقلتها صحف البلاد. وكم سمعناه في المحافل العمومية قارعاً أعواد المنابر يتدفق كالسيل الجارف ، بفصاحته السلاّبة ، وبلاغتهِ الخلاّبة. فكانت شباة قلمه كنصل الرمح أو أقوى ، وحدُّ لسانهِ كحدِّ السيف أو أمضى. وقد أخلص في خدمته سموّ أميرنا العباس ، كما أخلص جدُّه من قبل في خدمة جد الأسرة الخديوية الكريمة. شهد له بما سردتُ وعددت من جليل الأعمال وباهر الصفات كل من عرفه - وما
هم بالنزر اليسير من وطنيين وأجانب. وقد ذكره الورد كرومر في تقاريره الرسمية أكثر من مرة بالخير والثناء. ومما قاله فيه - ومثل هذه الشهادة لا يستهان بها: إن مدير عموم بلدية الإسكندرية ، يوسف شكور باشا ، رجلٌ سوري ذو نشاط كبير ودراية عظيمة. ولا شك في أن إصلاحات خطيرة قد تمت على عهده في مدينة الإسكندرية ، ويجب عليّ أن أجاهر بأن تحريات لجنة التحقيق لم تتمكن من وجود ما يشين نزاهة شكور باشا. على أن تلك النزاهة لم تكن قط موضوع الريب هذا قليلٌ من كثير ، أيها السادة ، مما عرف به فقيدنا الكريم.