الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أثر عرابي ثمين
في مبحث الصوت ، وأسباب حدوث الحروف
ممَّا يقولُهُ بعضُهم في الموازنة بين علم الشرق في الزمن الغابر ، وعلم الغرب في الوقت الحاضر ، أنَّ تقدُّم العلم الغربيّ مسيَّرٌ في الغالب بيد الصناعة ، وأن للغاية الاقتصادية تأثيراً على مبدئه. فهو مثلُ الحضارة الغربية عمليٌّ أكثر منهُ نظريّ ، وإلى الماديّ أقربُ منهُ إلى الأدبيّ. أمَّا العلم الشرقيّ فإنّ مدينة الشرق لم تنحُ بهِ نحواً خاصاً. ولذلك كان ينمو مع المدارك البشرية على قدرها. ولو أتي له الاستمرار في طريقهِ حتى يُدرك عصرَ الطباعة فالبخارِ والكهرباءِ ، لكان لهُ في المستقبل شأنٌ غيرُ شأنهِ في الماضي. هذا ما يقولُهُ بعضهم في الموازنة بين العلمين؛ ويقولون زيادة على ذلك إنَّ العلمَ النظريَّ لم يبلغْ في أوربا اليومَ المنزلة التي بلغها في آسيا من قبل. ولعلّ الخاطرَ الأوّل الذي خطر لي عند إطّلاعي على رسالةِ الرئيس أبي عليّ الحسين بن سينا في أسباب حدوث الصوت والحروف كان من هذا القبيل ، فقد قلتُ في نفسي ساعتئذٍ: لماذا تفيضُ الفلسفةُ الطبيعية الحديثة في بيان أشكالِ النور وألوانهِ وتحلُّله وتركّبهِ عند في بيان أشكال الصوتِ وأوصافهِ عند مرورهِ بالحنجرة وعبث اللسان بهِ في أطراف الفم ، كما فعل ابن سينا قبل تسعمائة سنة في الكتاب الذي هو موضوعُ بحثنا الآن؟ نبهّني إلى كتاب ابن سينا عالمٌ جليلٌ محقّق ، فرأينهُ من أنفس مدّخرات خزانة العالِم الفاضلِ أحمد تيمور بك ، ولكنهُ واأسفاه! قد تناولتهُ يدُ التحريف والتصحيف حتى لا يكاد الإنسانُ يثقُ ببقاء جملةٍ منهُ على أصلها. فزادني هذا الأمرُ شوقاً إلى نشره وإحيائهِ تعريفاً للخلفِ بمآثر السلَف ، وإعلاماً بما للعرب
من فضيلة السبق في تحقيق أسباب حدوث الصوت ، وخدمةً للّغة بلفْت الأنظار إلى مبحثٍ آخر من مباحثها ، وهو أسباب حدوث الحروف وكيفية حدوثها. واصلنا البحث عن نسخة ثانية من هذا الأثر العربيّ الثمين ، واستعنا بكثير من الإخوان ، إلى أن عثر صديقي المسيو ماسينيون أستاذ تاريخ مذاهب الفلسفة العربية في الجامعة المصرية على اسم هذا الكتاب في فهرس المكتبة البريطانية في لوندرة ثمَّ أراد أن يكون عملهُ أكملَ فكتب إلى من أخذ لنا نسخةً فطوغرافية منهُ؛ فإذا هي لا تقلُّ عن النسخة الأولى تحريفاً ، إلا أنَّ معارضة النسختين ومراجعة الكتب التي نقل أصحابها عن رسالة الحروف لابن سينا مثل كتابي
المواقف والمقاصد ، وكتاب التفسير الكبير للفخر الرازي ، ومبحث تشريح الحنجرة واللسان من قانون ابن سينا ، قد صححت لنا الأغلاط التي يظهر أنها هي التي حالت دون عناية المستشرقين بنشر الكتاب: فظهرت لنا من كليهما نسخة تغلب الصحة عليها ، ويطمئنُّ القلب إليها.
الرسالة اسمها أسباب حدوث الحروف وهي في ستة فصول هذا بيانها:
الفصل الأول - في سبب حدوث الصوت ،
الفصل الثاني - في سبب حدوث الحروف ،
الفصل الثالث - في تشريح الحنجرة واللسان ،
افصل الرابع - في الأسباب الجرئية لحرفٍ حرفٍ من حروف العرب ،
الفصل الخامس - في الحروف الشبيهة بهذه الحروف وليست في لغة العرب ،
الفصل السادس - في أن هذه الحروف من أي الحركات غير النطقية قد تُسع
يقول ابن سينا في سبب حدوث الصوت:
أظنُّ أنَّ الصوتَ سببهُ القريب تموُّجُ الهواءِ دفعة وبقوة وبسرعة من أيّ
سبب كان. ثم ذلك الموج يتأدّى إلى الهواء الراكد في الصماخ فيموّجه فتحسّ به العصبة لمفروشة في سطحه. والذي يُشترط فيهِ من أمر القرع عساه أن لا يكون سبباً كليّاً للصوت ، بل كأنهُ سببٌ أكثريّ؛ ثم إن كان سبباً كليّاً فهو سبب بعيدٌ ، ليس السببَ الملاحق لوجود الصوت ، والدليل على أن القرع ليس سبباً كليّاً للصوت أن الصوت قد يحث أيضاً عن مقابل القرع وهو القلع.
فإذن العلة القريبة - كما أظن - هو التموّج
فالتموّج نفسهُ - كما يقول ابن سينا - هو الذي يفعل الصوت
وأما حال التموّج من جهة الهيئات التي تستفيدها من المخارج والمحابس في مسلكه فتفعل الحروف.
وتعريف الحرف في كتاب ابن سينا هو هيئة للصوت عارضة لهُ يتميز بها عن صوت آخر مثله في الحدّة والثقل تميزاً في المسموع
والحروف بعضها - من حيث الصوت - مفردة؛ وبعضها مركبة. فالمفردة تحدث عن
حبسات تامة للصوت - أو للهواء الفاعل للصوت - تثبعها أطلاقات دفعة ، والمركبة تحدث عن حبسات غير تامة لكن تتبعها أطلاقات. والمفردة تشترك في أن وجودها وحدوثها في الآن الفاصل بين زمان الحبس وزمان الإطلاق ، وذلك أن زمان الحبس التام لا يمكن أن يحس فيه بصوتٍ حادث عن الهواء وهو مستكن بالحبس ، وزمان الإطلاق لا يحس فيه بشيء من هذه الحروف لأنها لا تمتد في الزمان الذي لا يجتمع فيه الحبس مع الإطلاق.
ويقول ابن سينا في تشريح الحنجرة أنها مركبة من غضاريف ثلاثة:
1 -
الغضروف الدرقي ، وهو موضوع إلى قدّام ويناله الحبس في المهازيل
عند أعلى العنق تحت الذقن. وشكله شكل القصة ، حدبته إلى خارج وإلى قدام وتقيعره إلى الداخل وإلى خلف
2 -
عديم الاسم ، وهو خلف الدرقي مقابل سطحه ،
3 -
الغضروف الطهر جاري ، وهو كقصعة مكبوبة على الغضروفين السابقين ويقول في تشريح اللسان أنه مركب من ثماني عضل: اثنتان تأتيان من الزوائد السهمية التي عند الأذن يمنةً ، ويسرة ، وتتصلان بجانبي اللسان ، فإذا تشنجتا جذبتا جملة اللسان إلى قدام فتبعها جزء منه وامتد وطال. واثنتان من العضلين السالفين من أضلاع هذا العظم تنفذان بين المعرضين والمطولين ويحدث عنهما توريب اللسان. واثنتان موضوعتان تحت هاتين وإذا تشنجتا بطحتا اللسان.
هذا ملخص الفصول الثلاثة الأولى؛ وكلها مقدمات لبيان كيفية حدوث كل حرف من الحروف العربية والحروف الأخرى التي توجد فيما عرفه ابن سينا من لغات آسيا المنتشرة يومئذٍ في فارس وما يليها. وهو يقول مئلاً في بيان كيفية لفظ حرف الخاء أنهُ يحدث من ضغط الهواء إلى الحدّ المشترك بين اللهاة والحنك ضغطاً قويّاً مع إطلاق ، تهتزّ فما بين ذلك رطوبات يعنف عليها التحريك إلى قدَّام ، فكلما كادت تحبس الهواء زوحمت ، وقسرت إلى خارج في ذلك الموضع بقوَّةٍ. والقاف يحدث حيث تحدث الخاء ولكن بحبس تامّ. وأما الهواء فمقداره ومواضعه فذلك بعينه. ويقول في كيفية لفظ الجيم أنهُ يحدث من حبس تام بطرف اللسان وبتقريب للجزء القدّم من اللسان من سطح الحنك المختلف الأجزاءِ
في النتوءِ والانخفاض مع سَعة من ذات اليمين واليسار وإعداد الرطوبة ، حتى إذا أطاق نفذ الهواءُ في ذلك المضيق نفوذاً يصفر لضيق المسلك ، إلا أنهُ يتشذب لاستعراضهِ ويتمم صفيرهُ خللُ
الأسنان وتنقص من صفيره وترده إلى الفرقعة الرطوبةُ المندفعة فيما بين ذلك متفقعة ، ثم تتفقأ ، إلا أنها لا يمتد بها التفقُّع إلى بعيد ولا تتسع ، بل تفوقها في المكان الذي يطلق فيه الحبس. والشين تحدث كما يحدث الجيم بعينه ولكن بلا حبس البتة ، فكأنما الشين جيم لم يحبس وكأن الجيم شين ابتدأت بحبس ثم أطلقت. ويقول في كيفية لفظ الصاد أن الذي يفعله هو حبس غير تامّ أضيق من حبس السين وأيبس وأكثر أجزاء حابس طولاً إلى داخل مخرج السين وإلى خارجه حتى يطبق اللسان أو يكاد يطبق على ثلثي السطح المفروش تحت الحنك والمنخر ويتسرَّب الهواء عن ذلك المضيق بعد حضر شيء فيه من وراء ويخرج من خلل الأسنان ، وأما السين فتحدث عن مثل حدوث الصاد إلَاّ أن الحابس من اللسان فيه أقلّ طولاً وعرضاً فكأنها تحبس العضلات التي في طرف اللسان ، لا بكليتها بل بأطرافها. ويقول في وصف الفاء التي تكاد تشبه الباء ف - أنها تقع في غلة الفرس عند قولهم فرندي9) تفارق الباء لأنهُ ليس فيها حبس تام. وتفارق الفاء بأن تضييق مخرج الصوت من الشفة فيها أكثر وضغط الهواء أشد حتى يكاد يحدث بسببه في السطح الذي في باطن الشفة اهتزاز. ومن ذلك الباء المشدّدة ب - الواقعة في لغة الفرس عند قولهم ببروزي وتحدث بشد قوي للشفتين عند الحبس وقلع بعنف وضغط الهواء بعنف.
وأما الفصل الأخير فهو من أغرب المباحث وألطفها وأكثرها حاجة إلى الدرس
والبحث والتدقيق لأن ابن سينا حاول أن يأني فيها لكل واحد من الحروف العربية بما يشبهه من الحركات الغير النطقية ، مثل صدور صوت يشبه حرف القاف عن شق الأجسام وقلعها. والغين عن غليان الرطوبة في أجزاء كبار تندفع إلى جهة واحدة. والكاف عن قرع كل جسم صلب كبير على بسيط آخر صلب مثله. والشين عن نشيش الرطوبات وعن نفوذها في خلل أجسام يابسة نفوذاً بقوة. والطاء عن تصفيق اليدين بحيث لا تنطبق الراحتان بل ينحصر هنالك هواءٌ له دويٌّ. والتاء عن قرع الكف بأصبع قرعاً بقوة. والفاء عن حفيف الأشجار.
وبعد فإن الذي يطالع الرسالة كلها يظهر له أن ابن سينا كان جديراً بأن يقول في آخرها:
إني قد بلغت الكفاية ، وعبّرت عن المقداد الذي تبلغه مني المعرفة. وقد أهداها إلى الأستاذ أبي منصور محمد بن علي بن عمر الخيَّام وهو الذي اقترح عليه تصنيفها ، ولا يقل أن يكون أبو منصور هذا حفيد الخيام الخراساني صاحب الرباعيات لأن الخراساني كان معاصراً للرئيس ابن سينا وتلميذاً له. وعلى كل حال فهذا الكتاب الصغير نموذج للعلم الشرقي الذي لو أتيح له الاستمرار في طريقه حتى يدرك عصر الطباعة فالبخار والكهرباء لكان له شأن غير شأنهِ.
القاهرة
محب الدين الخطيب
لا يتعادل الحبُّ بين اثنين؛ بل يكون قويّأً في إحداهما ، وهذا الذي يتألَّم ، وضعيفاً في الآخر ، وهو الذي يضجر.
إرباً بنفسك أن تكون الحبيبَ الذي يلي حبيباً جار أو ظلم؛ لأن الثأر يؤخذ منكَ وأنت يرىٌ من الذنب