الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحقد القديم في صدور أهل ذاك الجبل أيضاً وهو: إذا نشبت الحرب بيننا وبين الأتراك فلا يجوز لأحد من أل الجبل أن يترك ساحة القتال إلا بأمر رئيسه. وكلّ من يفرّ أمام الترك يفقد شرفه إلى الأبد ويُصبح محتقراً منبوذاً من آلهِ ، ثمَّ يُلبس ثوب امرأة ويُعطى مغزلاً ليشتغل بهِ مع النساء ، وتعمد النسوة أنفسهنَّ إلى طرده كما يطرد الجبان الذي يخون وطنه وهنا ندع القارئ يفكر في الحالة النفسية التي كان فيها أعداء تركيا يوم ساروا إلى الحرب وهم يؤملون النصر.
يوسف البستاني
سفراء الدول
يلعب السفراء في الآونة الحاضرة دوراً خطيراً في الحوادث التي تشغل الآن العالم قاطبة. وبهذه المناسبة ننشر للقراء المقالة الآتية التي كتبها خصيصاً للزهور حضرة الكاتب المجيد اسكندر أفندي شاهين صاحب الرأي العام ورئيس تحرير الوطن قال: إذا كان لك على الزمان قضية وفي صدرك الكريم من أهل الزمان غلة لأنهم لم ينصفوك أو لأن عامتهم نسبت فضلك إلى سواك فاعلم أن لك في هذا الظلم شركاءَ يقومون بكبير الأعمال ويُمدح غيرهم من سراة الرجال. هم السفراءُ ينوبون عن ملوك الأرض وشعوبها وينجزون المهام العسيرة على نعهلٍ ، ويحلّون المعضلات من وراءِ الحجاب فلا يدري الجمهور بما فعلوا ويزعم الأفراد أن الفضل في الحل لمعاشر الملوك والوزراءِ. ولطالما تغنَّت الأقوام بمدح ملك وردّدت ذكر ذكائهِ الشديد ورأيهِ السديد مع أن الملك لم يكن إلَاّ عاملاً برأي سفيرهِ ، ولو ترك الأمر لهُ لبقيت الحالة كما كانت أو ساءَت وتغيَّر تاريخ بني الإنسان. وربما وقع الوزير في
خطأِ يحمله على الخروج من منصبهِ وتحمُّل مرارة وسخط المواطنين ، أو رأي الناس يكتبون التاريخ مقلوباً على عادتهم من قدم ، وينسبون إليهِ الغلط في السياسة والتدبير وهو مع ذلك بلا ذنب يوجب الملام غير أنهُ وثق بأحد السفراءِ ، وعمل برأيهِ أو تحمَّل تبعة غلطهِ الكبير. فالسفير في هذه الممالك هو القوَّة الكامنة وراءَ العرش وهو المحرّك خفيَ عن الأبصار يدير المسائل ، ويقضي في الأُمور بالنيابة عن الملوك والوزراء ولكن عامة الخلق لا تفطن إلى وجودهِ في كثير من الأَحوال ولا تنصفه حين توزّع مدائحها على جليل الأَعمال. ما سمعت بسفير نال حقّه ثناءِ الجمهور إلَاّ حين عُقد مؤتمر السفراءِ في لندن وعهدت الدول إلى أعضائهِ الحاليين تسوية المشاكل والبتّ في معظم ما يتعلق بحرب البلقان ومستقبل الشرق القريب. قلت أن السفير نائب للملك أو للدولة في البلد التي يندب لأنتيابها فهو أكبر من الوزير مقاماً يتقدَّمهُ في المحافل الرسمية وقد يتقدَّم بعضَ الأُمراءِ أيضاً فما يعلوهُ في موضع عمله غير ملك البلاد أو الرئيس. وراتب الوزير على الجملة أقل من راتب السفير لأَن وزراءَ الغرب يقتضون حوالي خمسة آلاف جنيه في السنة وأما السفراءُ فرواتبهم من ستة آلاف إلى عشرة في العام. وربما كان سفير الجمهورية الفرنسية في لندن أعظم الأقران راتباً لأنهُ ينال من مال بلادهِ 260 ألف فرنك أو أكثر من عشرة آلاف جنيه؛ ولهُ في عاصمة الانكليز قصر منيف ومقام عظيم.
ولا يقلّ السفراءُ في العواصم الكبرى مقاماً عمن ذكرت ولو أن الراتب
أقل ألفاً أو ألفين فإن السفير واحد في الكرامة سواء كان في لندن أو في غيرها من العواصم التي يُعرف فيها وكلاءُ الدول العظمى باسم السفراءِ وهي باريز وبطرسبرج وبرلين وفينا ورومية والأستانة وواشنطون وتوكيو وبكين. وأما الدول الثانية مثل اسبانيا والبلجيك وبقية هذه الممالك والجمهوريات فإن مندوبي الدول فيها يعدّون وكلاءَ سياسيين ورواتبهم تختلف ما بين ألف جنيه في السنة وسبعة آلاف وهو راتب وكيل الدولة الانكليزية في مصر ودريد وريودي جانيرو عاصمة جمهورية البرازيل. وليس يعدّ هذا الراتب كبيراً على السفير أو وكيل الدولة لأنهُ ينبغي لهُ أن يعيش عيشة الملوك وأن يحيي الليالي الراقصة ويؤلم الولائم ويكون في مقدمة أهل البذل والعطاء. وقد كان السفراء قبل هذه الأيام يأخذون معهم من بلادهم جيشاً جرَّاراً من العمَّال والصنَّاع والخدَمة والأطباء وسواهم حتى يكون كل ذي علاقة بقصر السفير من أهل بلادهِ وتعد سفارتهُ مملكة ثانية لملكهِ في عاصمة الدولة الأخرى ولكنهم قللوا من هذا الإسراف في الزمان الأخير. وما زالت السفارة في كل بلاد تعدّ جزءاً من أرض المملكة التي جاء منها السفير: فسفارة الروس في باريز قطعة من أرض روسيا تسري فيها الأحكام الروسية ولا سلطة لفرنسا وقانونها على من دخل أرض هذه السفارة وقس على هذا ما جرى مجراه. يذكرني ذلك بما كان من أمر ملك الانكليز وإمبراطور النمسا في إحدى السنين الماضية فإن الإمبراطور كان قد وعد بزيارة الملك في لندن قم رأى أنَّ الكبر أقعد همتهُ وصيَّر
السفر خطراً عليهِ فعدل عن تلك الزيارة ولما ذهب ملك الانكليز بعد ذلك إلى فينا قام الإمبراطور لاستقباله للسلام عليهِ في السفارة الانكليزية وتعشى فيها ليقال أنهُ زار قرينهُ في أرض انكليزية وهي سفارة انكلترا في عاصمة النمسا. ويذكر من هذا القبيل أيضاً أن رئيس جمهورية الولايات المتحدة لا يدخل سفارة أجنبية لأن قانون الجمهورية يحظر عليهِ السياحة في الأقطار الخارجية مدة الرئاسة ، والسفارة عندهم أرض أجنبية كما تقدم البيان فمقام السفير مقام ملك ولهذا تراهم يهتمون غاية الاهتمام لانتقاء السفراء وقد يتنازل رئيس الوزارة عن كرسيه حتى يذهب سفيراً إلى عاصمة من العواصم الكبيرة وتعرض الوزارة من حين إلى حين على بعض السفراء فيأبونها مثل المسيو وادنتون سفير فرنسا السابق في لندن كان رئيس الوزارة الفرنسية ومثل اللورد
دفرن سفير انكلترا السابق في باريز عرضت عليهِ الوزارة مراراً فلم يقبلها ولقد قال اللورد بامرستون يوماً وهو أحد وزراء الانكليز المشهورين أنه ليس في كل عشرة ملايين رجل أكثر من واحد يصلح للسفارة. وقوله صحيح لما أن السفير يدير سياسة الدولة التي ترسله والدولة التي تقبله على السواء فهو في يده السلم والحرب إذا كان قليل الميل إلى السلام كان إضرام الحرب على يده من أسهل الأمور. ولما كان هذا المقام السفير وهذا شأنه فهم قد خصُّوه بامتيازات شتى حتى جعلوه مساوياً لملك البلاد التي يقيم فيها وإذا شاء السفير أن يخاطب القيصر أو الملك رأساً في كل أمر فلا سبيل إلى إرجاعهِ عما يريد. ولكن
السفراء وهم دهاة الأمم وجبابرة العقول يؤثرون الوصول إلى غايتهم بطرق اللطف والمجاملة فلا يصرّون على حق لهم يولد الجفاء أو يدعو إلى النفور. وقد بدأوا بإعطاء لسفير حقوق الملك من نحو 185سنة. وكان منشأ هذا الامتياز في لندن إذ حدث فيها أن بعض المتآمرين وأصحاب الدسائس قبضوا على سفير روسيا في لندن وخطفوهُ من وسط المدينة ، وأودوا به لأسباب تتعلق بسياسته في داخلية روسيا. فكبر الأمر على حكومة الانكليز وأصدرت أمراً باعتبار سفراء الدول الكبيرة مثل ملك انكلترا في الامتيازات والحقوق حتى لا يبقى سبيل إلى الاعتداء عليهم كما حدث لسفير الروس. واجتمع بعد ذلك مؤتمر للدول في باريز رأى أعضاؤه أن انكلترا أصابت في منح هذه الامتيازات للسفراء ، فأجمعوا على تعميم هذا المبدأ في جميع العواصم على السواء. وعلى هذا فإن السفير مثل الملك فوق القانون يمكنهُ أن يأتي ما شاءَ من المنكرات ولا حرج عليهِ ولا سلطة تقوى على رده؛ فكل ما يمكن فعله في هذه الحالة أن الدولة ترجو دولة السفير المذكور إقالته أو نقله من بلادها. ولكن هذا لا يحدث من السفراء وهم رجال الأدب الباهر واللطف المشهور والعقول الكبرى في كل زمان. كذلك عمَّال السفارات وأقاربهم يعدون من أصحاب الامتيازات لا سلطة للحكومة المحلية عليهم بقوة هذا الامتياز وقد تجري محاكمته داخل السفارة حسب قانون بلاده الأصلية. ولكن هذا لا يحدث أيضاً إلا فيما قلّ. وأكثر السفراء يتنازلون عن حق
سفارتهم فيما لو حدث أمر يخالف قانون لبلاد من أحد عمَّالهم ويسلمون ذلك العامل للحكومة المحلية احتراماً لها ولقانونها. حدث مثل هذا من عهدٍ غير بعيد في لندن إذ اعتدى روسي على أحد الأهالي وصفعه على وجهه في قارعة الطريق فلما علم السفير الروسي بما جرى أمر
عامله في خدمة السفارة فأثر الرجل عدل انكلترا على ضياع المركز وحكم عليهِ بغرامة مع أنه كان يمكن إنقاذه من العقاب. ومن هذا القبيل أن سفير الأمير كان في باريز صدمت عربته عاجلة صغيرة لأحد الأهالي فحطمتها ولما رأى السفير ذلك عرض على الرجل أن يعوض عليهِ ما فقد في الحال ولكن الرجل كان ذا نزق فلم يكلم السفير وأقام عليهِ قضية وكان كاتب المحكمة جاهاً مثل صاحب القضية فقبلها وأرسل إنذاراً إلى السفير كأنما السفير تحت سلطة القانون. فأعرض السفير الأميركي عن الإنذار وأرسله إلى وزارة الخارجية وكانت النتيجة أن الإنذار الغي في الحال والكاتب عزل وحقوق الرجل ضاعت بقوة الامتياز الذي خصَّ بمعاشر السفراء ويحق لنساء السفراء ما يحق للملكات لأن السفير يتقدم وزراء الأمة التي يقيم في أرضها ولزوجته حق التقدم أيضاً على كل نساء المملكة ما خلا الأميرات. وقد حدث أشكال بسبب امتياز النساء هذا في روميه من بضعة أعوام لأن إحدى الأميرات دعت عليَّة القوم إلى ليلة راقصة فلما انتهى الرقص دعت الأميرة بعض صاحباتها وقريباتها للطعام ولم تدعُ زوجة السفير الفرنسي ولا زوجة السفير الانكليزي إلى المائدة فخرجت
السيدتان من قصر الأميرة مغتصبتين. وأنكر السفيران فعل الأميرة وطلبا من حكومة إيطاليا أن تحملها على الاعتذار وكانت حكومة الطليان في أو الأمر مستخفة بالحكاية فلما كثرت عليها المسائل والرسائل من لندن وباريز اضطرت على العدول عن رأيها وأرضت السفيرين. ويعفي السفراء من الضرائب المحلية والعوائد ورسوم الجمارك حتى أن الأشياء الواردة باسم السفير أو أحد عماله من الخارج ترسل بلا تفتيش ولا تنقيب. وربما ذكر القراء ما حدث في الإسكندرية من زمان قريب بشأن هذا الامتياز فإن قنصل روسيا وقع في مشكلة ورأى عمال الجمرك أن الصناديق التي ترد باسمهِ أو بأسماء مختلفة لترسل على يده إلى من يشاء كثرت فيها المهربات فأفضى الأمر إلى أن الحكومة الروسية عزلت قنصلها أو نقلتهُ من الإسكندرية ولكن حكومة مصر لم يكن لها سلطة عليه مع أنهُ أهانها وهرَّب الممنوع إلى بلادها على طريقة كان لها دوي كبير. على أن السفير لا يجوز له شيء واحد لقاء كل هذه الامتيازات هو التدخل في السياسة الداخلية المتعلقة بالبلاد التي يقيم فيها فإذا عرف عنبهُ تداخل من هذا القبيل ولو كان صغيراً سقط من مقامهِ العالي واضطرّ إلى الرحيل. وقد يحدث من هذا القبيل ما يوقع السفير في حيرة وعقدة لا حلَّ لها
مثل أن يكون حزب الأحرار في انكلترا مخالفاً لحزب المحافظين في عقد المخالفة مع روسيا فإذا سئل سفير الروس رأيهُ يوماً وهو يعلم أن عقد المحالفة يفيد بلاده لم يجز له أن يمدح حزباً ويذم حزباً
في البلاد ولا أن يعضد فريقاً بقول له أو رأي لأن أقل إشارة بهذا المعنى تعدّ تدخلاً في السياسية الداخلية لا يجوز. وهذا أيضاً قليل حدوثه. اعلمُ من قبيله حادثة واحدة قديمة جرت في لندن حين تدخل سفير النمسا في سياسة الأحزاب الداخلية تدخلاً لو تمَّ المراد منهُ لأدى إلى سقوط وزارة الانكليز. وقد كان صنيع هذا السفير يومئذٍ شاذاً إلى الغاية القصوى وموجباً للغضب حتى أن حكومة الانكليز أعرضت عن المجاملة وامتياز السفراء وقبضت على هذا السفير وأمرت بمحاكمته فحكم عليهِ القاضي بالحبس. ولما علمت النمسا ببيان ما فعل سفيرها في لندن تبرأت منهُ ورضيت بمحاكمتهِ ومعاقبته فلم ينشأ أشكال ولا حرب. واذكر حادثة أخرى قريبة العهد من هذا النوع هي أن رجلاً من الأميركيين أرسل إلى سفير انكلترا في واشنطون كتباً يسأله فيهِ رأيه عن أي الرجال أصلحهم لرئاسة الجمهورية الأميركية وكان الرئيس يومئذٍ المستر كليفلاند وهم يسعون في إعادة انتخابه فكتب السفير - واسمه اللورد ساكفيل - رداً إلى صاحبه الأميركي يقول أن كل أميركي يحب الخير لبلاده يجب أن يسعى في بقاء المستر كليفلاند رئيساً لجمهوريتها. ونشرت بعض الصحف الأميركية هذا الكتاب فهاج الجمهور ولاسيما الحزب المخالف لكليفلاند وعدوا تدخل السفير الانكليزي في أمورهم الداخلية إثماً لا يغتفر حتى أن المستر كليفلاند اضطر إلى طلب إقالته وأعاد إليهِ أوراق تعيينه فكان لتلك الحادثة صدى ودوي من نحو عشرين سنة وكادت تؤدي إلى وقوع الحرب بين الانكليز والاميركان