الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن عادة بني رومانوف أنهم يشترطون بقاء بناتهم على المذهب الأرثوذكسي إذا تزوجنَ بغير أرثوذكسي ويشترطون عند زواجهم بغير أرثوذكسية أن تدخل زوجتهم في المذهب الأرثوذكسي أولاً وهي عادة تدل - بقطع النظر عن العقيدة - على رفعة الأخلاق وكرامة النفس فإن الدين كالعرض لا يتاجر بهِ.
يوسف الخازق
المرء ودنياه
عرف القراء أننا نرمي في ما ننشره لكتاب مختلفين من أصقاع مختلفة إلى جعل هذه المجلة مرآة تتجلى فيها حالة اللغة والأفكار في جميع الأمصار العربية. وفي مقالة الآتية التي جاءتنا من دار السلام وفي نشرناه قبلها لكتاب الزهور في العراق ما يصح أن يكون نموذجاً للأسلوب الإنشائي والحركة الفكرية في تلك الربوع التي عاشت اللغة العربية فيها عصرها الذهبي:
حياة المرءِ في دنياهُ ركبٌ
…
يجوب الأرضَ في طولٍ عرضِ
فتغويرٌ لهُ في أرض قومٍ
…
وتعريسٌ له في غير أرضِ
وأيام الشهور هي المطايا
…
تحثُ السيرَ بعضٌ إثرَ بعضِ
وما عيشُ الفتى إلاّ غرورٌ
…
كظل زائلٍ أو خفق ومضِ
يعيش ابن آدم في الدنيا وهو مغرور بزهوها ، وزهرتها. مشبوب الفؤاد بحبها ، طائر القلب إليها ، مشغول الخاطر بقطعها ووصالها؛ يطلب منها الوفاء وهي تغدر بهِ ويتوسل إلى قربها بكل وسيلة وهي تخدعهُ ، وتمنّيه بالوعد. وما مواعيدها إلاّ الأباطيل! ولو علم الإنسان - أن الدنيا غادة عطبول ، وعاشق ملول. إن وصلت قطعت ، وإن أعطت منعت. نعينها بؤس ، وحلوها مرٌ ، وراحتها تعب ، وبقاؤها فناء ، وعمارها خراب ، وأهلها في خطر منها - ما ركن إليها بكله ، وما سعى لها كلَّ
السعي ، وما بات وليس له من شغل شاغل سواها ، ولا ذكر إلاّ ذكراها. . . أيها الإنسان الذي غرّه من الدنيا زخرُفها ، وأطمعته أمانيُّها ، واستغوته زينتها وطلاوتها ، وانطلى عليهِ محالها. أصخ السمع ، وعِ القلب ، إلى وصف حال الدنيا وسيرتها مع أهلها ولا أظنك بمصغٍ ولا بواع! أيها الإنسان إن الدنيا كما جاء وصفها في القرآن المجيد ولا أبلغ من ذلك الوصف شيء كما أنزلناه من السماء ، فاختلط بهِ نبات الأرض ، فأصبح هشيماً تذروه الرياح؛ وكان الله على كل شيء مقتدراً بينما تراها مقبلةً عليك بنضرتها ، وبهجتها ، ليس لها بعل غيرك ، ولا دار سوى منزلك ، ولا نظرة إلاّ إليك ، تراها بأسرع من لمح البصر قطعتك الوداد ، ومنحتك الصد والبعاد ، فانقلب سرورك حزناً ، وحلو عيشك مراً ، وصفو شرابك رنقاً كدراً ، وتركتك وحيداً فريداً ، في مفازة من ضنك العيش ، ووحشة الفقر ، لا مؤنس لك ولا متوجّع ، ولا ناصر لك ولا معين ، كمن جاءه الموج من كل مكان ، جفاك بجفائها الأصحاب ، وأنكرك
الأقارب والأباعد والأهل والجيران. وصارت كل خلة كانت لك في الغنى مدحاً ذماً. فأضحى الذي يوّد أن تكون لك حاجة عنده ، فيتقرب إليك بها وبتشرف بقضائها يتشاغل عن ردِّ سلامك إذا ما سلمتَ عليهِ لا لشيء هناك بل وفاءً منك بالودّ له! فهو يترك واجباً ويفعل محرماً ، حذراً من أن تقول له قد بتُّ البارحة أنا وزوجي لنا سوى الماءِ والهواء ، فهل لك أن تكرم عزيز قوم ذلّ ، وشريفاً حسبه الجاهلون غنياً من التعفف؟ وأمسى الذي يوسط الواسطات إلى الحضور بين يديك أكره شيء في عينه النظر إلى وجهك. ولو في ليل ادلهمَّت دياجيره ، كأنما ينظر إليك بعينين غير عينيهِ الأوليين.
وبات الذي كان يفتخر بمجالستك ، ومنادمتك في سفرك ومحاضرتك يستنكف من جلوسك إلى جنبهِ ، ولو في قفز من الأرض لا رائح فيهِ ولا غاد. وعاد الذي كان يسعى في حسن خدمتك من قبل ، أقبح شيء يراه حسن خدمتك له ، فتراه يتأمر عليك ، ويتذمر منك ، ويحكم فيك حكم السادة على العبيد ، ولا يرى حقاً لنعمتك التي أسبغتها عليهِ فيما مضى كأن لم تكن شيئاً مذكوراً! وراح الذي كان يتبرّك بلباس ثوبك الخلق ، يفرّ منك فرار السليم من الأجرب وصار الذي كان يستنجدك في الملمات ، ويلجأ إليك في المهمّات ، يتربص لك الدوائر وينصب لك المكايد ، ويؤلّب عليك إذا استنجدته في الخلاص من ورطة وقعت فيها ، فإذا الذي يستنصرك بالأمس يستصرخك. أيها الإنسان الذي غرّه من الدنيا ظواهرها ، وخفيت عليهِ بواطنها ، فقام لها على قدم وساق ، وشمّر لها عن ساعد الجد والاجتهاد ، وأحبَّها حباً أعشى بصره عن مساوئها ، وأعمه قلبه ، وخامر عقله ولّبه ، حتى استحوذ عليهِ شيطانها ، وأخذت مجامع قلبه شهواتها. ويا أيها الإنسان الذي يتفانى في حبّ الدنيا ولا يلهج إلَاّ بذكرها ، ولا ينشد إلاّ ضالتها ، ولا يعرف إلاّ إياها ، ولا ينظر إلى سواها ، هلاّ اعتبرتَ بما عاملتْ بهِ تلك الدنيا آباءَك المتقدمين ، وأجدادك السالفين ، أهل القرون الأولى والقوم الجبارين؟ فكم أفنت من دول ، وكم أبادت من الملوك الأُول ، أرباب السطوة والسلطان ، والأسرّة والتيجان ، الذين عمروا فيها عمر نوح ، وملكوا ملك سليمان ، وبنوا بناء الاسكندر ، وطغوا طغوّ قارون ، وصالوا صولة النمرود ، وحكموا حكم القياصرة ، وعاشوا عيش الأكاسرة:
أين أين الملوك أين الرعايا
…
أين أين القوّاد للأجنادِ
أين أين البناةُ أين المباني
…
أين من شيّدوا كذات العمادِ
أين اسكندرٌ وأين هِرَقْلٌ
…
أين نمرود أين ذو الأوتادِ
أين قارون أين فرعون موسى
…
أين كسرى وقيصر ذو الآدِ
أين من كتّبوا الكتائبَ للحر
…
ب وصالوا بالمرهفات الحدادِ
أين من كانوا يحرصون على الما
…
ل ومن كان كعبةَ القصَّادِ
هذه دورُهم تجيبك عنهم
…
لو يجيب الجمادُ صوت المنادي
صرعتهم كأسُ المنون ولّما
…
يستفيقوا حتى ليوم التنادي
وغدوا يُحملون من بعد عرش ال
…
ملك في موكب على الأعوادِ
وغدا ما لهم وما جمّعوهُ
…
للأعادي إرثاً وللحسَّادِ
وجفاهم أخوانُهم وبنوهم
…
وجميع الحجَّاب والقوّادِ
وثووا في القبور من بعد ما كا
…
نوا بعالي القصور كالأطوادِ
واستقروا في ضيّق اللحد يا س
…
عدَ مقرّ السيوف في الأغماد
ورضوا بالتراب بعد فراش
…
من حريرٍ مؤثرٍ ووسادِ
جمعتهم دارُ المنونِ جميعاً
…
وهمُ من قبائل وبلادِ
فغدا الضدّ يألف الضدّ طوعاً
…
وغريبٌ تآلف الأضداد
ومليك الزمان منهم له الدو
…
دُ نديم بعد الحسان الخرادِ
فإذا كان هذا مسير الإنسان ومصيره ، فينبغي للعاقل أن ينظر إلى الدنيا نظر معتبر ، وإن يجعل مقامه فيها مقام مسافر ، نزل دارها اليوم ويرحل عنها غداً. وإن يحاذر منها كل الحذر ، لأنها عدوّ في ثيابِ صديق ، وإن يبذر فيها ما طاب غرسه ، وزكا أصله ، ونما فرعه ، وأينع ثمره ، وحلا ذوقه ، واعذوذب طعمه. لأنها مزرعة الآخرة ، والمرء يحصد ما زرع. وإن لا يحزن على شيء فاته منها ، ولا على شيء انقطع عنه بعد ما أصابه منها ، بل ينبغي له أن ينزل ما أصاب منها ، منزلة ما لم يصب. لأن جوهرّها عرض زائل ، وكسبها خسران مبين. وإن لا يتزوّد من الدنيا إلاّ
بقدر ما تمسّ الحاجة إليهِ. وأن يقنع بالشيء اليسير منها ، إذ لا شيء أغنى من القناعة. ومن هضمَ دنياه وزهدَ فيها لآخرته ، لم يحرمهُ الله بذلك نصيبه من الدنيا؛ ولم ينقصه من سروره فيها وأن لا يبيع آخرته بدنيا
غيره حتى ولا بدنياه. وينبغي للعاقل أن يستقرئ أخبار السالفين وأعمالهم ، فيأخذ بالإحسان منها عملاً ، ويترك القبيح ، ويذهب مذهب من سلك طريقاً هداه إلى الحق ، وإلى الصراط المستقيم ، ويتجنّب منهاج قوم يجرُّ ناهجه إلى الضلال ، وسوء المنقلب. وإن لا يكون غير ذي دين ، فإن الدين رابطةُ الإنسان بحلاله وحرامهِ ، وإن لا يظن إلاّ حسناً ، ولا يكون شيء الاعتقاد في الناس ، فإن سوء الاعتقاد في الناس ، فإن سوء الاعتقاد روح الفساد. وينبغي للعاقل أن لا يُبغّض إلى نفسه عبادة ربه ، وإن يساوي بين معاشهِ ومعاده ، وإن لا يترك مجالاً لنفوذ أحدهما على الآخر. وأن يعمل فيها عمل من يأمل أن يموت هرماً ، وعمل من يرجو أن يموت غداً. وأن لا يفرح بالكثير من المال إذا ناله ، لا يحزن لقلته إذا فقد الكثير منه. وإن يصنع المعروف مع كل فردٍ من أبناء جنسه. وإن يجود على الناس بما وسع الله عليه من الرزق ، وينتهز فرصة نعم الله عليهِ ، فيتفضل بها قبلَ زوالها. لأن الغد وراء الغيب ، والمرءُ لا يعلم من نفسه إلاّ ماضيها وحاضرها. فهو في مستقبله كالأعمى المسالك طريقاً وعراً في ليلة ليلاء ، لا يدري أينَ يضع قدمه ، في النار أم في البحر. وينبغي للعاقل أن يكون جلداً صبوراً إذا ما انتابته نوائب الزمان ، وطوارق الحدثان. وإن لا يترك حاسديه يشعرون بما أصابه من المصائب. وأن يكون ذا حزم وإقدام ، وأن لا يصدّه أدنى عائق يعيقه عما يحاوله من صعاب الأمور. وأن لا يتهاون بصغار الأشياء ولا يستعظم في عين كبارها. فإن الصغار يلدن الكبار. ومن هاب الشيء العظيم خسر ما دونه. وينبغي للعاقل أن ينظر على عيب نفسه ، قبل أن ينظر إلى عيب غيره. وأن
يغض طرفه عن عيب أخيه ولا يفاتحه بهِ مخافة أن يفاتحه بمثله. وأيّ الرجال المهذب وينبغي للعاقل أن يتعلم العقل من المجنون ، والحلم من رأي السفيه ، وحسن الأخلاق من سيئها ، والعلم من الجاهل ، والأدبَ من السافل ، والدين من الكافر. وأن يأخذ الوفاء عن غدر اللئيم ، والعبرة عن الدهر. واللبيب من اتعظ بغيره. وينبغي للعاقل تهذيب نفسه وتعويدها فعل الخير وكل ما ينفع الناس عامّة ، ورفض ما يضرُّ بهم. وينبغي للعاقل أن يكون صادق اللهجة ، حسن العشرة طلق المحيا في سرائه وضرائه. خفيف الطبع وقوراً وفيّاً ، تصدق أقواله وأفعاله. وأن يكون أميناً محبَّا للفضل وأهله ، منصفاً يتبع الحق حيث كان ، ويطلبه حيث وُجد. وينبغي للعاقل أن يكون سليم القلب واسع الصدر سمحاً
صفوحاً ، محبّاً للسلم مبغضاً للحرب لأن الحرب داء قتال ، يفتك بالنفوس فتكاً ذريعاً. وأن لا ينبغي على أحد ، لأن البغي شر والشر يورث الدماء ، وأن لا يعادي أحداً ، ولا يضمر سوءاً لأحد ، لأن المرءَ قليل بنفسه كثير بأصحابه. وينبغي للعاقل أن لا يحتقر صغيراً لصغره ، ولا يوقّر كبيراً لكبره ، إذ المرء بأصغريه أو كما قال أبو الحسن علي: المرء مخبوءٌ تحت طيّ لسانه لا تحت طيلسانه. وان يأخذ الحكمة ولو نطق بها مجنون ويأخذ ما يوافق رأيه من قول غيره ، ولا ينتقد ما يخالف رأيه منه كونه خالفه. فلكل فردٍ من البشر رأي والكمال لله وحده.
بغداد
كاظم الدجيلي