الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في حدائق العرب
ظهر في الشهر الغابر كتابٌ عنوانه حديقة الزهر وضعهُ باللغة الفرنسية حضرة الأديب واصف بك بطرس غالي ، ضمنهُ بحثاً شائقاً في الشعر العربي وأنواعهِ وأساليبهِ ، مع ترجمة مقطوعاتٍ شعرية منهُ. فقابل الفرنجُ هذا الكتاب بالارتياح لأنَّهُ عرَّفهم بشاعرية قومٍ لهم في عالم الخيال المقام الأرفع. ومن جملة ما ترجمهُ واصف بك الحادثة الآتية نرويها لقرّائنا في أصلها العربي ، لما فيها من بلاغة الوصف وجمال الأسلوب:
بشر بن أبي عوانة والأسد
كان بشر بن أبي عوانة العبدي صعلوكاً: فأغار على ركب فيهم امرأةٌ جميلة ، فتزوَّج بها ، ما رأيتُ كاليوم. فقالت:
أعجب بشراً حَوَرٌ في عيني
…
وساعدٌ أبيضُ كاللجينِ
ودونُهُ مسرحُ طرف العينِ
…
خمصانةٌ ترفلُ في حجلينِ
أحسن من يمشي على رجلينِ
…
لو ضمَّ بشرٌ بينها وبيني
أطال هجري وأدام بيني
…
ولو يقيس زينها بزيني
لأسفر الصبحُ لذي عينينِ
قال بشر: ويحك من عنيت؟ فقالت: بنت عمك فاطمة. فقال: أهي من الحسن بحيث وصفتِ؟ قالت: وأكثر وأزيد ، فأنشأ يقول:
ويحك يا ذات الثنايا البيضِ
…
ما خلتني عنك بمستعيضِ
فالآن إِذ لوَّحتِ بالتعريضِ
…
خلوتِ جوّاً فاصغري وبيضي
لا ضُمَّ جفناي على تغميضِ
…
إِن لم أشل عرضي من الحضيضِ
ثم أرسل إلى عمّهِ يخطب ابنته ، ومنعهُ العمُّ أمنيته ، فآلي ألَاّ يرعي على أحدٍ منهم ، إِن لم يزوّجه ابنته. ثم كثرت مضرَّاته فيهم ، واتصلت مضرَّاته إليهم. فاجتمع رجال الحيّ إلى عمه وقالوا: كفَّ عنا مجنونك. فقال: لا تلبسوني عاراً ، وأمهلوني حتى أُهلكه ببعض الحِيَل. فقالوا: أنت وذاك. ثم قال له عمه: إني آليت أن لا أزوّج ابنتي هذه إِلَاّ ممن يسوق إليها ألف ناقةٍ مَهراً ، ولا أرضاها إِلَاّ من نوق خزاعة. وغرض العم كان أن يسلك بشر الطريقَ بينهُ وبين خزاعه ، فيفترسهُ الأسد. لأنَّ العرب قد كانت تحامت عن ذلك الطريق؛ وكان فيه أسدٌ يسمَّى داذاً ، وحية تدعى شجاعاً ، يقول فيهما قائلهم:
افتكُ من داذٍ من شجاعِ
…
إن يكُ داذٌ سيدَ السباعَ
فإنها سيّدةُ الأفاعي
ثم إِنَّ بشراً سلك ذلك الطريق ، فما نصّفه ، حتى لقي الأسد ، وقمص مهره ، فنزل وعقره. ثم اخترط سيفهُ إلى الأسد ، واعترضه وقطَّهُ ، ثم كتب بدم الأسد على قميصه إلى ابنة عمه قصيدته المشهورة التي مطلعها:
أفاطِمَ ، لو شهدتِ ببطن خبتٍ
…
وقد لاقى الهزبرُ أخاك بشرا
فلمَّا بلغت الأبياتُ عمَّهُ ، ندم على ما منعهُ من تزويجها ، وخشيَ أن تغتالَهُ الحيةُ ، فقام في أُثره وبلغه وقد ملكتهُ سورة الحية. فلمَّا رأى عمه ، أخذتهُ حمية الجاهلية ، فجعل يدَهُ في فم الحية ، وحكّم سيفه فيها فقال:
بشر إلى المجد بعيد همهُ
…
لما رآه بالعراءِ عمهُ
قد ثكلته نفسهُ وأمه
…
جاشت بهِ جائشةٌ تهمهُ
قام إلى ابن للفلا يؤمه
…
فغاب فيهِ يدُهُ وكمهُ
ونفسه نفسي وسمي سمهُ
فلما قتل الحية ، قال عمه: إني عرَّضتك طمعاً في أمرٍ ثنى الله عناتي عنهُ ، فارجع لأزوَّجك ابنتي ، فلما رجع جعل بشر يملأ فمه فخراً ، حتى طلع أمرد كشقّ القمر على فرسه مدجّجاً في سلاحه. فقال بشر: يا عمّ إني أسمع حسَّ صيد. وخرج فإذا بغلامٍ على قيد فقال: ثكلتك أُمك يا بشر ، إِن قتلت دودة وبهيمةً تملأ ما ضغيك فخراً؟ أنت في أمان أن سلَّمت عمك. فقال بشر: من أنت لا أم لك؟ قال: اليوم الأسود ، والموت الأحمر. فقال بشر: ثكلتك من سلحتك قذفت بك من بطنها فقال: يا بشر ومن سلحتك أيضاً. وكرَّ كلُّ واحدٍ منهما على صاحبه ، فلم يتمكن بشرق منهُ وأمكن الغلام عشرين طعنةً في كلية بشر ، كلما مسَّهُ شبا السنان حماه عن بدنه أبقاءً عليهِ. ثم قال: يا بشر كيف ترى أليس لو أردتُ لأطمعتُك أنياب الرمح؟ ثم ألقى رمحه واستلَّ سيفهُ فضرب بشراً عشرين ضربة بعرض السيف ، ولم يتمكَّن بشرق من واحدة. ثم قال: يا بشر سلّم عمَّك واذهب في أمان. قال: نعم ولكن بشريطة أن تقول لي من أنت. قال: أنا ابنك. فقال: يا سبحان الله ما قارنتُ عقيلةً قط ، فإني لي هذه المنحة؟ فقال: أنا ابنُ المرأة التي دلَّتك على ابنة عمك. فقال بشر:
تلك العصا من هذه العصية
…
هل تلد الحيةَ غيرُ الحية
وحلف لا ركب حصاناً ولا تزوَّج حصاناً ، ثم زوج ابنة عمه لابنه.