الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الضمير
الضميرُ قوَّةٌ من قوى النفس ، بها يُقابل الإنسانُ أعمالهُ على الناموس الأدبي ، ويشعر بالسرور أو الكدّر لمطابقة أعمالهِ لذلك الناموس أو لمخالفتها. فالضمير يستحثُّ الإنسان على إِتمام الواجب ، ويدفعهُ على عمل الخير ، أو يبكّتهُ على ارتكاب المنكر. فهو بشير السعادة الأبدية ، ونذير الهلاك الدائم. ليست أفعال الحيوان ناجمةً عن شعورٍ بوجوب قضائها ، وتَحتُّم إِجرائها. بل هي ناتجة إِما عن خوفٍ واقع ، وإِما احتياج دافع. وليس الإنسان كذلك ، بل أنَّ لمبدع الحكيم خصَّهُ بطبيعةٍ أدبية ، وصفاتٍ كمالية فطرية. فسنَّ له من ناموس المحبة الكامل ، وجعل له قائداً يُرشدهُ إليهِ ، ودليلاً يدلهُ عليهِ ، وما ذاك المرشد الدليل إلَاّ الضمير. إذا أردنا أن نحكم على أعمال الغير ، نتصوَّر ما يبدو لنا من أعمالهم وما ينبئ عن أفعالهم. ونقابل ذلك على الناموس الأدبي ، فيتّضح لنا ما ينطبقُ عليهِ ، وما يشدُّ عنهُ ، ومن ثمَّ يكون حكمنا صحيحاً مبنيّاً على التحقيق ، صادراً عن العقل الأدبي وليس عن الضمير ، لذلك لا نشعر في هذا الحكم بنخره ولا بمدحه. وليس الضميرُ معلولَ الخوف ، إذ أنهُ موجودٌ في تسنموا أسمى المراتب ، واستلموا زمام الأمور ، يديرونها كيفما شاؤوا وشاءَ الهوى ، فخافهم الجميع ولم يخافوا أحداً.
وليس الضمير أثراً لملكةٍ استحكمت في الأذهان بالتكرار ، ورسخت في النفوس مع تمادي الأدهار ، ولا مما تدعو إليه قوَّة الوهم ، أو صلاح المعيشة ، أو حبُّ السلام ، فإن هذه عللٌ متباينة في ذاتها ، فضلاً عن تفاوت الأشخاص ، في الميل إليها ، والاستعداد الفطري لقبولها ، فمعلوماتها تكون مختلفة في الماهية ومتعدّدة ، والضمير لا يتعدّد في الإنسان ، ولا تتفاوت ماهيته باختلاف الأحوال والأزمان. وقد خط بعضهم الضمير مع البواعث الأدبية كالميل للرحمة ، وإيثار العدل ، وحبّ الحقيقة. هذه البواعث هي غرائز أدبية ، ضرورية لإرشاد الإنسان ولاسيما في حالته الأولى ، حينما كان حجاب الجهل مسدولاً ، وهي تظهر في هيئات خصوصية معدودة ، وأفعال محصورة محدودة ، ولا تتضمن واجباً كالضمير ، فضلاً عن أنها كثيراً ما يعارض بعضُها بعضاً ، فهي مفتقرة إلى قانون يُنظّمها: تعطف الغنيَّ عواطفُ الشفقة على الفقراء وتدفعهُ لمساعدتهم ، ولربَّما جنح بعضهم من جراءِ ذلك إلى الخمول ، فانقطع عن العمل ، متربعاً على بساط الكسل ، فتكون الرحمة لمثل هؤلاء ظلماً ، والإحسان إليهم إِساءةً وجرماً. وكثيراً ما تكون الرحمة واجبة ، حيث العقاب ضروري اقتضاءً للعدل؛ فإن
كان العدل مجرّداً ، لا دخل للمحبة فيه ، تعذَّر وجود الرحمة. لذلك لابدَّ لهذه البواعث من شروطٍِ تجب مراعاتها ، ونظام تجري عليه ، حتى الحقيقة فإنها لا تقال في كل الأوقات. والضمير يشابه العقلَ في بعض أعماله: فإنَّ من أعمال العقل
إِدراك الأوليَّات ، نحو كل جسم موجود في مكان ، وكل تغير حادث في زمان ، وكل حادث له سبب وما أشبه من البديهات التي لا تفتقر إلى برهان ، ولا يختلف فيها اثنان. كذلك من أعمال الضمير ما هو بديهي لا يحتاجُ إلى شروط وسائط ، كالرغبة في الخير والابتعاد عن الشرّ ، تسديداً لمطالب الناموس الأدبي ، الأمر بعمل الخير ، واجتناب الضير. فمن آثر لشرَّ على الخير يسيء لنفسهِ أولاً ويضعف صوت ضميره ، لعدوله عن سبيل الحق المنير وتسكعه في ظلمات اغرور. وقد يحو بين الضمير والحقيقة حجابٌ من نسيج الجهل ، أو فاصل من مادة المآرب الشخصية ، أو غشاءِ من ظلمة التهوُّر في دنايا الدنيا فينجح المرءُ إلى الشر بدلاً من الخير ، ويشتري الضلالة بالهدى ، ويسقط من أوج الفضيلة ، إلى أقصى دركات الرذيلة ، وبئس المصير ، مصير المنافقين. أمَّا المستقيم في أعماله ، الصادق في أقواله ، المتحلي بحلي الفضائل السالك في منهج الكمال ، فله من راحة ضميره الحيّ سرورٌ لا يحيط به الوصف ، ولا يقوى على تبيان محاسنه البيان. سرور لا يدانيه في التأثير جمال المناظر الطبيعية ، ولا عذوبة الأنغام الموسيقية ، فلا غرو إِن قيل. إِن الضمير صوت الله في الإنسان.
جرجس عبد الملك