الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أتيتِ نقيةً ، وتذهبين نقية ، كتقطرة الطَلّ على ورقةٍ من الورد ، تلمعُ بكرةً ، ولا تلبث أن تُستطار بخارأً. بين نوحات الثاكلات ، وترجيع الحمائم بالأسحار ، وبكاءِ السماءِ ، وابتسام الأرض تضادٌّ يغيظ الموجَع. لا أشكو بثي فيكِ؛ ولكني استبقيه لأعتصرَ منهُ ذوبَ الشجون ، ولأخاطبَ بهِ نفسي ناصحاً كلما غلبت عليها غفلات هذه الدار ، وكادت تكون لها فتنة. لا أستطيع دفعاً لشيء يسوقهُ المقدور ، ولكني وفيٌّ أضمن لكِ ألَاّ يلتام جرح يومك هذا. تزولين أنتِ وتبقى ذكراكِ. كذاك الحياة ، تزول الهيولى وتبقى الصوَر. . .
ولي الدين يكن
الأغاني في الحروب
ذهب فريق من العلماءِ على أنَّ منشأ اللغات الغناءُ. لأن الغناءَ في عرفهم هو صورة الخيال الواقعة تحت الحس ، أو استفاضة مما في النفس عند امتلائها. وفي تاريخ الأقدمين أن امفيون باني أسوار طيبة كان يدفع العمال إلى العمل بجد ونشاط بالغناءِ والأناشيد ، ألا تراهم في مصر يفعلون ذلك حتى الآن؟ وفي أساطير اليونان أن الشعب انتصر في معركة سلامين بأغاني سولون ، فنجي البلاد بعد سقوطها. وفي التوراة أن الإسرائيليين كانوا إذا خرجوا لحربٍ يسير مغنوهم أمامهم. وفي التاريخ لحديث أن الفرنساويين لما سمعوا أنشودة المرسيلييز سنة 1792 ، وقد
اجتاح العدوُّ بلادهم ، وقبض على ناصية أرضهم ، تولتهم الحماسة ، وهزَّتهم النخوة ، فألفوا صفوفهم الممزَّقة ، وقوَّتهم الضائعة؛ فبرز ضعافهم أشداء ، وجبناؤهم شجعاناً ، ومتطوعتهم منتظمة ، فانتصروا. وفي وصايا بولس رسول النصرانية رتلوا وغنوا الصلاة. وفي الآيات القرآنية:{ورتلِ القرىن ترتيلاً} وفي التوراة نشيد الأناشيد ، وفي أخبار داود أنه ما كان يزيل كربته إذا ذكر أمرُ شاوول إلاّ الغناء. وفي أخبار السحرة والعرّافين أنه ما استأثروا الألباب ولعبوا بالعقول إلا بعد ترويضها بالغناء. ويؤكد هوارس أنّ مصر تقدَّمت غيرها من أُمم الأرض بالمدينة والحضارة ، لأنها تقدَّمت غيرها بالغناءِ. وفي أقوال أحد شعراء الفرنساويين: إذا تآخت الأَصوات ، دنت القلوب من الوئام وإذا اجتمع الناس لأمرٍ ، لا تنفق عواطفهم ولا تتحد أميالهم إلاّ إذا اتحدت أصواتهم بأنشودةٍ واحدة. وكان الأطباء يداوون المرضى بالأغاني. وروى هوميروس وبلوتارك أن القدماءَ كانوا إذا جلسوا بعد الأكل والقصف يغنون فيفثأون من ثمولهم. ومن أقوال لوبز في الغناء أنهُ في الكلام كاللون في الصور. ومن الأغاني ما يبكي ويرقق ، وهو لما كان من الشعر في الغزل والشوق إلى الوطن والبكاء على الشباب والمرائي والزهد. ومنها ما يطرب ، وهو لما كان في نعت الشراب ، وذكر الندماء والمجالس والصبوح والدساكر. ومنها ما يشوقُ وترتاح إليهِ النفس كصفة الأزهار والأشجار
والمنتزهات والصيد؛ ومنها ما يسرُّ ويُفرح ويحث على الكرم والجود ، وهو لما كان في المديح والفخر وصفة الملوك. ومنها ما يشجّع وهو لما كان في الحرب وذكر الوقائع والغارات والأسرى والنصر والفوز والفخر. ولكل أمة أغانيها وأناشيدها ، ومن هذه الأناشيد والأغاني تعرف عاداتها وأخلاقها وتاريخها وأطوارها. وتتوارث السلالات ذلك جيلاً بعد جيل ، وقرناً بعد قرن ، حتى أن
نوتية المراكب في نيل مصر يغنون اليوم رعمسيس توارثاً وتقليداً بقولهم وهم يجذّفون يا رمسو يا رمسو وفي سوريا يلقبون أغاني الحرب والقتال بالحوربة ، ويشقون منها فعل حورب كما أنهم يلقبون أغاني الفرح بالهوربة ويشقون منها فعل هوبر ولربما ورثوا هذه اللفظة من هورا الرومانية والإغريقية ، فضلاً عن الحدو الذي ينشدونهُ عند السير والمشي لا وراءَ القوافل والظعن فقط ، بل في كل سير سريع يتطلّب الحماسة والنشاط. وكان غزاة العرب الذين دوّخوا المشارق والمغارب إذا خرجوا لغزوةٍ أو لقتالٍ أو لحرب ، تغنوا بأشعارهم الحماسية ، فيفور الدم في عروقهم وتهيج أعصابهم وتحمى نفوسهم ، ويدفعهم الفخر إلى إتيان العجائب. وكانوا إذا اشتبك الأبطال بالقتال ، وكفوا عن التغني بالأشعار يوقفون نساءهم يغنينهم ، وفي يد الواحدة منهن مقرعة تضرب بها الفارين ، وفي يدها الأخرى قارورة ماء تسقي منها الجرحى. وهذه العادة لا تزال عادتهم في حروبهم وهي أيضاً من عادات الأرناؤوط وشعوب البلقان ، حتى قال
أحد الضباط الأوروبيين الذين شهدوا المعارك البلقانية أن الأناشيد والتغني بحكايات الأبطال كانت من أقوى العوامل في فوز البلقانيين. والشعوب السلافية تلقت هذهِ العادة عن الشعوب الشرقية الحربية كالعرب منذ أربعة قرون. والأغاني والأناشيد هي التي صانت قومية البلقانيين من الضياع وصانت لغاتهم من النسيان؛ فهم منها حفظوا تاريخ أسلافهم ومجد أجدادهم وأسماءَ أبطالهم. وقد تفرَّد في نظمها العميان إذ كانوا يطوفون القرى والدساكر ، وينشدون هذهِ الأناشيد على توقيع الرباب والقزلة. وإذا ذكرنا نحن أشعار عنترة والمهلهل ، عرفنا كيف يكون تأثير هذه الأناشيد في نفوس الأمم وعصابات الشبان وطوائف الجند. وتاريخ الإفرنج طافح بمثل ذلك بما رووهُ عن غيليوم تل والسيد ورولان. وفي حكايات الصربيين والبلغاريين حكاية بطلٍ من أبطالهم في القرن الخامس عشر يسمونهُ ماركو قره لجيفيتش ، كان يلبس جلد الذئب ، ويتسلَّح بخنجرٍ مرصع بالذهب والفضة ، ويركب جواداً يسمّى شاراتز ، ولهم فيهِ القصائد والأناشيد التي يحفظها كبارهم وصغارهم ، ويتغنون بها في البيوت والمنازل والأفراح والمآتم والحقول والمتنزهات ، حتى أنهُ لا يوجد طفلٌ واحدٌ بلقاني لا يتمنى أن يكون ماركو. وإليك ما يقولون عنه:
إذا ضرب ماركو بسيفهِ ترك خصمهُ شفعاً بعد أن كان وتراً
إذا طعن ماركو برمحهِ أطار خصمهُ إلى ما فوق رأسهِ
وإذا دار ماركو دورتين فلَّ الجيش بدورانه
ومن قولهم فيه ، في تخليصه الأسرى:
يا غابتي الخضراء ، ما أذبلكِ ،
ويا مروجي الزهراء ما أبيسكِ ،
أصابك الزمهرير فأيبسك ،
أم اتقد فيك السعير فأحرقك؟
فردت الغابة على ماركو بصوت خافت:
يا بطلي المفدّى ، وأشجع بطل!
مرَّ بي عربيٌّ أسود ،
وبيده سلاسل الأسر الثلاث:
في واحد الفتيات ،
وفي الأخرى العرائس ،
وفي الثالثة الزوجات
وفي قصيدة أُخرى تخاطب ماركو جدَّته بهجر القتال إلى الحرث والزرع ، فيصغي إلى نصيحتها ويأخذ بزرع الحقل على جانب الطريق ، إلى أن يهبط محصلو الأعشار على الفلاحين فيسلبوهم أموالهم ومزارعهم فيترك ماركو المحراث إلى السيف ويخلّص المال من سالبيه ، ثم يحمله إلى أصحابهِ وهو يخاطب جدتهُ بقولهِ:
انظري أني لحارث ،
لا الحقول ولا المزارع ،
بل طريق الملك والسلطان
وروت إحدى صحف بلغراد أنه أثناء معركة بريليب ضعف الصربيون وجنبوا وأخذوا بالتقهقر ، فصاح ضابطٌ منضباط الفرقة: هناك مقام ماركو وهنا وطنه فاهربوا ، اهربوا إلى جدار منزله وبالقرب من محل القتال كان موطن ماركو على ما جاءَ في حكاياتهم. فارتدَّت الفرقة إلى الهجوم وقاتلت حتى انتصرت.
ومن أناشيد الأروام:
لن تصير تركية تلك الهضاب التي ينزلها الأرناؤوط ،
فاتناريوس حيٌّ يهزأ من الباشوات ،
فما دام الثلجُ يكسو الأكام ،
وما دام زهرُ الربيع يكسو المروج ،
وما دامت الأودية تغصُّ بالماء ،
لا نخضع ولا نستكين ،
ولنجعل مغاور الذئب مساكننا ،
ولنترك العبيد يسكنون الدور محنيي الظهور
وفي أغاني البلغاريين إن يوجانا الفتاة البلغارية رأت موكباً لكريمة الفتاة التركية؛ فهجمت على خفر الموكب فمزّقتهُ ، وقالت لكريمة شعراً:
لم يبقَ إلَاّكِ يا كريمة
في المركبة المذهبة
فاخرجي رأسك الأبيض
لأقطعه بحد الحسام
ومنذ عشرين سنة ألَّف ملك الجبل الأسود روايةً سماها إمبراطورة البلقان ومن أشعاره فيها:
فلتبقَ أرض البلقان ، أرضاً لشعبنا!
ولتخرج أرض البلقان ، حرَّةً من قيد الغريب!
وإلَاّ فالموت للبلقانو خيرٌ من الاستبعاد!
وقس على ما نذكر ما لم نذكر من قصائدهم وأشعارهم وأناشيدهم التي أثارت الحمية في رؤوسهم أثناءَ القتال ، وحفظت تاريخهم وجنسيتهم وأملهم وشجاعتهم قبل الحرب ، بل أعدَّت نفوسهم لثورات كما أعدَّتها للنصر. ونحن العرب الشرقيين عندنا كثير من هذه الأناشيد والأشعار الملأى بها الأسفار. ولكنَّ الأغاني في مجالسنا تُثبّط اليوم هممنا ، وتضعف نفوسنا. فهي عبارة عن ندبٍ وبكاءٍ ونواح للوصال ، وذلٍّ في الليل وصَغار في
النهار. فهل يريد المغنون والمنشدون والناظمون والسامعون أن يخرجوا من الذلة وضعف النفس على الفخر والحماسة والمجد؟ لقد آن لنا أن نعرف أنَّا شعبٌ حيٌّ ذو تاريخ وأبطال وأقوال بل أفعال.
وهذه الأغاني التي درج عليها المغنون العرب نُقِلت عن مغنيي الخلفاءِ في بغداد ، بعد أن أخذهم الترف وتولَاّهم النعيم ، وانصرفت نفوسهم