الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجريحة الأبدية
قطرةُ الندى العالقة بغض الشجرة ، عندما تنعكسُ عليها أشعةُ الشمس المشرقة تكون أشبه شيء باللؤلؤة الصافية. تلك القطرةُ اللؤلؤية ، إذا هبَّ عليها النسيم الخدَّاع فأسقطها إلى الحضيض ، امتزجت بالتراب ، فتحوَّلت إلى وحلو ولكن يكفي أن يُصيبها شعاعٌ من الشمس المنعشة ، حتى يُبخرها فيطهرها مما لحق بها من الأقذار ، ويعيدها إلى صفلئها الأول. . . كذلك قل عن المرأة الطاهرة. فإن قلبها هو أشبهُ شيءِ بتلك اللؤلؤة الجميلة قبل سقوطها من على الغصن ، بل هو أبهى وأسنى ، فإذا هبَّت عليهِ لوافح الشهوات والأهواء ، أسقطتهُ إلى وهدة الرذائل ، فمرَّغتهُ في حمأة الدنايا ، ولكن يكفيهِ شعاعٌ من الحب الطاهر حتى يخلصهُ من كل شائبة ويعيده إلى ما كان عليهِ من الجمال والبهاء. مسكينة المرأة ، وتِعس حظّها في هذه الحياة. نفحتها قريحة الشعراء بألطف الأسماء ، وجادت عليها مخيّلة العشاق بأجمل الألقاب:
سموها الشمس والقمر ، وهي مسكينة المظلمة الفؤاد
رأوا فيها الغزال الشارد ، وهي الرازحة المثقلة بتقاليد هذه الحياة
شبهوها بالزهرة النضرة ، وهي المهشمة القلب الدامعة العينين في بلائها الشديد
لقّبوها بالحمامة البيضاء السابحة في الفضاء ، وهي العصفور المقصوص الجناحين في قفص الحديد
صوَرٌ وتشابيه ، وأسماء وألقاب ، هيهات أن تنطبق على حقيقة الواقع وواقع الحال. وليس من اسم ينطبق على هذا المسمى المسكين أحسن من الاسم الذي وضعهُ ميشله المؤرّخ الفرنسوي الشهير لما سمى المرأة الجريحة الأبدية كيف لا وهي جريحة ابنةً وزوجةً وأماً. . . .؟
بل كلها جروح دامية إذا تناولها إعصار هذه الحياة فتلاعب بها كما يتلاعب بأوراق الخريف ، وطرحها أخيراً في مواخير البغاء ، فتصبح ثغراً ضحوكاً باسماً ، وقلباً خفوقاً دامياً؛ تغازل بالعين ، وتبكي بالأخرى؛ وتداعب باليد ، وباليد الثانية تسند فؤاداً تُصدّعهُ الذكرى. جمع أحد مشاهير المصوّرين حياة إحدى هذه التعيسات في خمسة رسوم بديعة الوضع والصنع. ففي الأول: صورة فتاة طاهرة ساذجة عند وصولها من قريّتها إلى المدينة؛ وفي الثاني: وقوعها بين مخالب أحد الذئاب البشرية؛ وفي الثالث: نزولها إلى
بيوت الفحشاء؛ وفي الرابع: نزولها في السجن ، لأن الفاقة ساقتها إلى السرقة؛ وفي الخامس: امرأة ناحلة جرداء ، عليها أسمال بالية ، وهي تمدُّ يدَها إلى المارّين تستعطيهم هاتفةً: أعطوني حفظ الله أبناءكم من بناتي. . .! هذه هي صورة أكثر النساء اللواتي وُصمنَ بوصمة العار وهي صورة غنية عن الشرح والتعليق. ولكنَّ هناك فرضاً واجباً يتحتم علينا قضاؤه. فقلب هذه المرأة المسكينة كان ضحية الهيأة الاجتماعية. فعلى الهيأة الاجتماعية أن تضمد جرحه ، وهي أدمتهُ؛ وتداوي قرحة ، وهي أحدثتهُ. فتسكب عليهِ بلسماً ، لا خلاًّ يزيده ألماً.
قال فيكتور هوغو: أيها الرجل - وكلنا هذا الرجل - لا تحتقر أبداً امرأة سقطت ، لأنك لا تعرف تحت أي حمل ثقيل رزحت نفسها المسكينة