الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أرسل انيبال إلى قرطجنة عدَّة إمداد ممتلئةً بالخواتم والفتخ الذهبية التي أخذها إسلاباً من قتلى أشراف الرومانيين ولكن لم نجدُ لهُ في تضاعيف التاريخ ذكر مُنكَر أناه ، ولم يسفكْ دمَ إنسان بلا حرب. فينتج من كلامنا أنّ شهادةَ المؤرخ الروماني تعودُ على قائدنا هذا بالفخر والشرف. وبالاختصار فإن أقوالَ التواريخ والأزمنة التي توالت بعد هذا البطل سيردّده جميعُ الأمم والأجيال إلى منقضي العالم. وذلك أنَّ مظهرَ حياةِ هذا القائد المجيد ، لهو أشرفُ مظاهر الحياة البشرية في هذه الدنيا لدلالتهِ على همةِ عالية ، ومدارك سامية يندرُ وجودُها ، خصوصاً حياته خلت عن كل أربٍ شخصي ، وأثرة ذاتية ، لم يلابسها إلاّ هوى فرد ، ألا وهو حبُّ الوطن حتى أنهُ قضى أخيراً شهيد محبته لوطنه.
يوليوس قيصر
قائد روماني ولد سنة 100 قبل المسيح وتوفي 44 ق. م.
ها أنّا موردون ترجمة شهيد آخر لم يتفانَ في حبّ وطنهِ ، ولكن ذهب قتيل الطمعِ - نريد بهِ هذا الرجل العجيب المنقطع النظير ، الذي لم يكن يخلو عن ضربٍ من ضروب النقائض والرذائل ، وكانت حياتهُ كلها عبارةً عن سلسلة تعدّياتٍ على وطنهِ. وبالجملة فإنَّ هذا الرجلَ هو قيصر ثالثُ الرجال العظام المشاهير في الأقدمين. وُلدَ ونشأ وشبَّ متحلياً بصنوف الصفات ، فإنهُ كان شجاعاً فصيحاً لطيفاً كريماً جواداً مفرطاً في السخاء؛ بيدَ أنهُ كان يؤثِرُ السذاجةَ في أعماله؛ ولكن لم يكن عندَه أٌلُّ همّ في أن يفرق بين الخير والشرَ ، لا في العمل ولا المبدأ. وكان قصارى همهِ ومبدأ جميع أعماله طلب الغاية التي قصّر عن بلوغها
ماريوس وسيلاً نريد بها التسلط على وطنهِ. كان قصد الإسكندر الاستيلاء على جميع العالم المعروف وقتئذٍ؛ ووقف انيبال حياتهُ كلها على وقاية وطنهِ من النشوب في عبوديةِ الأعداء. أما قيصر فكانت غايتهُ القصوى أن يملك رومه التي تفرَّدت بالاستيلاءِ على كلّ الدنيا تقريباً. ونراه قد اتخذ كلَّ الوسائل إدراكاً هذه الغاية ، غيرَ متذمّم من الإسفاف إلى الذرائع السافلة ، بيدَ أنهُ لم يَردْ مواردَ الجور والجنَفِ تفادياً من الارتطام بأغلاط ماريوس وسيلاّ. وقد تدرَّج في الخطط والمراتب من وظيفة إديل إلى وظيفة بريتور ثم إلى رتبة رئيس أحبار العاصمة؛ وعقد ديوناً رابيةً ليرشوَ المنتخبين ، لأنّ كلَّ هذه الوظائف كانت تُنال بالانتخاب ، واستغوى الرجال والنساءَ ، مستفسداً المتزوّجين وغيرهم استفادَةُ عامة الشعب. وما كفاهُ ما أتاه من ضروب الفساد حتى عمد إلى استعمال الوسائط الأدبية ، فأصبح أعظمَ خطيبٍ في رومه بعد شيشرون. وما زال حتى صار علّة عدة كثيرين من بوادر الفرَح والريب في رومه؛ فأعيتهُ الإقامةُ بها فاتفق مع كراسّوس البخيل ، وبمبيوس المتكبر ، واختصَّ نفسهُ بحكومة ولاياتِ غاليا قصدَ تدويخ هذه البلاد الواسعة ، لا ليزيدَ مجدَ رومه ، بل ليحشدَ عساكرَ قاهرةً ، ويجمع أموالاً وافرةٌ ، فيقضي ديونهُ وديونَ أشياعهِ. فأقام مدة ثماني سنين في غاليا يحاربُ أيامَ الصيف ، ويعودُ آونة الشتاءِ إلى دسّ الدسائل ، ويدبّرُ من معسكرهِ في ميلانو مجر عجرفة بمبيوس وبخل
كراسوس. وبذلك تسلّط مدة عشر سنين على مجرى الأحوال الرومانية. ثم توفي كراسوس
في آسيا ، ولم يبقَ بينهُ وبيم بمبيوس رجلٌ ثالث يمنع تماديها في الطمع ولبغي ، عمد أولاً إلى استعمال الحيل لإِرجاءِ القتالِ بينهما ، إذ كان قد شعر بسوء عاقبتهِ ، حتى أنهُ لما تعذَّر عليهِ مجانبةُ القتال ، اجتاز نهر روبيكون وسار لمساوة بمبيوس ، وهناك ترك كما قال مدلاّ بسطوته ، قائداً بلا جيش ، وذهب إلى اسبانيا فشتت جحافل بمبيوس التي كانت بإمرة أفرانيوس. ثم غادر اسبانيا ، واجتاز إيطاليا مسرعاً شاخصاً على أبيروس إدراكاً لعدوّهِ. فصادف بمبيوس نفسه وجعل يقاتله الكرَّةَ بعد الكرة ، وكانت الوقعة الفاصلة لتلك الحرب الشهيرة سهول فرسال فتغلّبَ عليهِ ، واستأثر بالسلطة المطلقة ، فلاذ بمبيوس بالهرب منهُ خوفاً إلى أن لاقى أجله قتيلاً في مصر. ثم إنَّ قيصر جعلَ يتعقبُ بقايا حزب بمبيوس في أفريقية واسبانيا ، وقهرهم كافةً ، وفتح شمالي آسيا. ثمَّ عاد إلى رومية ليتلذَّذ بثمارِ انتصاراتهِ على جميع أعدائهِ ومناوئيهِ. ثم أسَّي فيها ما يعبَّرُ عنهُ بالإمبراطوريَّة الرومانية ، ولكنهُ ذهب قتيلاً بفتكةِ الجمهوريين ، لأنهُ أراد الإِسراعَ في وضعِ الاسم للمسمَّى ، بعد أن ملك العالم مدة تزيد على أربع سنوات. فما سبق إيرادهُ من أخبار هذه الحياة يرى أن كل الوسائلِ والتدابير المذكورة كانت سيئة كالغاية التي سعى إليها قيصر. ولكن ينبغي أن يعترَف لهُ بالفضل من جهةٍ واحدة وهي أنهُ قصد أن يحوّل هيئة الحكومة من كونها جمهوريَّة إلى كونها إمبراطوريّة. ليس بأنواع القتل وسفك الدماءِ ، كما فعل ماريوس وسيلاّ ،