الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أزهار وأشواك
نقل رفات اليازجي
أمضي وتبقى صورتي فتعجَّبوا
…
تمضي الحقائقُ والرسومُ تقيمُ
والموت تحلبهُ الحياةُ فلو حوى
…
روحاً لمات الهيكلُ المرسومُ
الشيخ ناصيف اليازجي
لا يحقُّ لنا بعد الآن أن نقولَ أن الشرق لا يزال يجهل قدر أُدبائهِ ونوابغهِ. فإن الحركة التي رأيناها في هذه السنة لإكرام الإحياءِ من أدبائنا وكتَّابنا ، وتخليد ذكر الدارجين منهم تدلُّ على نهضةٍ مباركةٍ في
النفوس وترقٍّ محمود في الأخلاق. أقول ذلك بمناسبة الحفلة المؤثرة التي أُقيمت على أحد أرصفه.
أنت في الدنيا كضيف نازلٍ
…
حلَّ في الأحياءِ حيناً وانصرَفْ
فاحيَ بالذكرِ إذا العمرُ انقضى
…
واجعلِ الرسمَ من لجسمِ خَلَفْ
الشيخ إبراهيم اليازجي
محطة مصر في الرابع من الشهر الجاري وداعاً لعظامٍ بالية كانت تحييها بالأمس روح نابغة من نوابغ كتَّابنا ، وقد أتى جمهورٌ من الأدباءِ والوجهاء
والفضلاء في مصر يشيعون تلك العظام بتجلة وإكرام كما يُشيَّع الأمراءِ والملوك ، واحتشدوا يبكون سليل الأسرة اليازجية ويعدون فضلهُ ومناقبهُ. افتتح التآبين والمرائي سعادة أحمد باشا زكي سكرتير مجلس النظار فأطنب في مدح الفقيد وغيرتهِ على لسان العرب ورثاهُ باسم مصر بكلام فصيح بليغ ، ونحا نحوهُ حضرة رفيق بك العظم ، فأتى في خطاب جامعٍ على لمحةٍ من تاريخ اللغة العربية ونهضتها منذ نصف قرن على يد أمثال البستاني والنقاش واليازحي والأسير والشدياق. وتكلم على الأثر الدكتور خليل بك سعادة موجّهاً الخطاب إلى الفقيد الكريم وقد أخذ التأثر منهُ ومن الحاضرين مبلغه. ثمَّ ألقى خليل مطران قصيدةً من شعرهِ المعروف بسموّ الأفكار وابتكار المعاني ، قال في مطلعها:
أحننتَ من شوقٍ إلى لبنانِ
…
وارحمتا لكَ من رميمِ عانِ
شوقٌ تكابدُهُ ويثوي منكَ في
…
مثوى الرُّؤَى من مهجةِ الوسنانِ
جسُّوا مظنَّةَ حسِّه ، أفنابضٌ
…
فيها فؤادُ متيّمٍ ولهان
واستطلعوا الرسمَ المحبلَ فهل بهِ
…
يومَ المآب الفرّة عينانِ
وقال في ختامها مخاطباً نعش الفقيد:
أبلغْ وديعتَنا إلى أحبابنا
…
واحمل تحيّتنا إلى الأوطانِ
كنا نودُّ بك المصيرَ إلى الحمى
…
وتأسّيَ الإِخوانِ بالإِخوانِ
لكن عدانا البينُ دون عناقِهم
…
فتولَّ وليتعانقِ الدمعانِ
وأنشد أسعد أفندي داغر أبياتاً جميلة استنهض بها سوريا لتستقبل الوديعة الثمينة التي تردّها إليها مصر اليوم.
ثمَّ صفر البخار مؤذناً في الرحيل وقطر العجلة الخصوصية التي تقلُّ رفات فقيد اللغة وقد كُسيت بأكاليل الزهر والريحان. وسارت وراءَها الأبصار والقلوب تشيعها من القطار إلى الباخرة ومن الباخرة على ثغر بيروت حيث يستقبلها أدباءُ سوريا كما ودَّعها أدباءُ مصر لتُضمّ هناك عظام إبراهيم إلى عظام أبيهِ ناصيف ، وشقيقهِ ، خليل في مدفنٍ واحد وقد كتبت عليهِ تلك الأبيات التي تصدق في الوالد والولد وهي من نظم الفقيد:
هذا مقامُ اليازجيِّ فقف بهِ
…
وقُل السلامُ عليكَ يا علَمَ الهدى
حَرَمٌ تحجُّ إليهِ أربابُ الحجي
…
أبداً وتدعو بالمراحمِ سَرمدا
هو مغربُ الشمسِ التي كم اطلعت
…
في شرقِ آفاقِ البلاغة فرقَدا
فخرُ النصارى صاحبُ الغُرر التي
…
ضرَبتْ على ذكرِ البديع وأحمدا
هذا عمادُ العلم مال بهِ القضا
…
فأمال ركناً للعلوم مشيَّدا
أمسى تجاهَ البحر جانب تربةٍ
…
هي مجمع البحرين أشرف محتدا
فعليك يا ناصيفُ خيرُ تحيةٍ
…
طابت بذكرك حيثُ فاح مردّدا
لو أنصفتك النائبات لغيَّرت
…
عاداتها ووقَتكَ حادثة الرَّدى
تتنزلُ الأملاكُ حولك بالرضي
…
ويجودُ فوقك باكراً قطرُ الندى
وجميلُ حظّك في المماتِ برحمةٍ
…
أرّخ وفضلكَ في الصحائف خُلّدا
هذا بعض ما يسمح لي المقام وقاراً بذكرهِ عن حفلة مساء يوم الأربعاء على محطة مصر. وقد زاد الموقف وقاراً وخشوعاً وجود أخت الفقيد السيدة وردة اليازجي الشاعرة المجيدة وهي متشحة بالسواد ، مكسورة الفؤاد. نظرتُ إليها عن بعد محترماً حزنها ، وراثياً
لمصائبها ، ولم أتمالك من سكب دمعة عند منظر هذه الخنساء الجديدة.
حاصد