الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تأثير الدين في المدينة
أهمُّ المبادئ التي تسير عليها الأمم ، وتُعتبر منار التاريخ وعماد الحضارة ، المبادئ الدينية؛ وقد كانت الدوام أهمَّ عنصر في حياة الأمم ، وهي لذلك أهمُّ عنصر في تاريخها. فأكبر حوادث التاريخ التي أنتجت أعظمَ الآثار هو قيامُ الديانات وسقوطُها. وأوّلُ المسائل الأساسية ، في الأزمان الغابرة وفي الأزمان الحاضرة ، المسائلُ الدينية. ولو أن الإنسانية رضيت بموت جميع آلهتها لكان هذا الحادث أعظمَ الحوادث التي تمَّت فوق وجه ارض منذ ظهرت المدنيات الأولى. لا ينبغي لنا أن ننسى أنَّ جميع النظامات السياسية والتدبيرات الاجتماعية قامت ، منذ بداية التاريخ ، على معتقدات دينية ، وأن الآلهة هي التي لعبت أكبر دور في الحياة الإِنسانية ، وأنَّ الدّين أسرع مؤثر في الأخلاق لا يدانيهِ مؤثر اللهمَّ إلَاّ الحب؛ والحب دينٌ ، إلاّ أنهُ دِين ذاتيٌّ غير دائم. وإذا أردت أن تعرف على أي حال تكون الأمة التي اهتاجها خيالهُا فانظرْ إلى فتوحات العرب والحروب الصليبية والاضطهاد الأندلسي وحال انكلترا أيام البوريتيين وسانت بارتلمي في فرنسا وحروب الثورة الفرنساوية. إلاّ أن للأوهام سحراً مستمرّاً شديدَ التأثير يتغير بهِ المزاج العقلي تغيراً كلياً. خَلَقَ الإنسان الآلهة ولكنها ما لبثت أن استعبدتهُ. وأنها بنتُ الأمل لا بنتُ الخوف كما وصفها لوقريس لذلك كان تأثيرها سرمديّاً. لقد كان من تأثيرها فيهِ أن جعلت عقله متشبعاً بفكرة السعادة فامتازت بذلك على كل مؤثر سواها ، وقصرت الفلسفة عن إدراك هذه الغاية حتى الآن. نتيجة كل حضارةٍ إن لم نقل غايتها ، وكلِّ فلسفة ، وكلِّ دين ، تكوينُ حالات عقلية خاصة ، بعضها يقتضي السعادة ، وبعضها لا يقتضيها. وترجع السعادة
إلى أحوال النفس أكثر مما ترجع إلى الأحوال الخارجة عنها. فلربما كانت الضحايا فوق مواقدها أسعد من قاتليها. وكم فالح أرض بيديه يقضمُ الكسرة مفروكةً بالنوم أسعدُ بكثيرٍ من موسر متدفق الثروة تكاثفت حولَهُ الهموم. ومن دواعي الأسف أنَّ الحضارة في هذا الزمان خلقت للإنسان جمعاً من الحاجات ، ولم تُعطهِ وسائلَ دَفعها ، فتولَّدَ من ذلك عدمُ الرضاء في النفوس. قالوا الحضارة بنت الرقيّ. نعم وهي أمُّ الاشتراكية وأمُّ الفوضى. وهما صوتان مربعانِ تصيح بهما جموعٌ قلَّ إيمانها فاستولى اليأس على قلوبها. أين حال الأوروبي الذي تولاّه القلق ، وهاجت أعصابهُ وأصبح غير راضٍ بحظهِ ، من حال الشرقي الراضي بما قدر له. إنما الفرق بينهما في حالة النفس دون سواها. وإنما يُغيّر الأمة مَن يُغيّر من
تَصوّرها ، ويجعلها تفكّرُ وتعمل غيرَ ما عملت. يجبُ على الهيئة أن تسعى في إيجادِ حال عقلية يكون فيها الفرد سعيداً وإلاّ فأجَلُ الأمة قصير. فما قامت الأمم حتى الساعة إلاّ متكئةً على خيال فيهِ قوَّةُ اجتذاب النفوس ، وما سقطت واحدة منها إلاّ بزوال سلطان هذا الخيال. من أكبر خطأ هذا الزمان اعتقادُ الناس أنَّ النفس تجدُ السعادة في الأشياء الخارجة عنها. قل أنَّ السعادة فينا ونحن الذين نوجدُها. وشذَّ ما كانت بعيدة عنا. أنّا هدمنا خيال العصر الماضي فصرنا نرى انهُ لا حياة لنا من بعد هذا الخيالو وأنا إذا لم نوفق إلى الاستعاضة عنهُ فأنا هالكون. أكبرُ المحسنين لبني الإنسان الذين يجب على الأمم أن تُقيمَ لهم أفخم التماثيل من الذهب الوهاج ، هم أولئك السحَرة القادرون الذين خلقوا لها الخيالات. أولئك يولدون أحياناً بين البشر ، ولكنهم لا يولدون إلاّ قليلاً. أقاموا أمامَ سيول الآمال الفانية - وهي الحقائق التي لا قدرة للإنسان على معرفة غيرها ، وفي وجه هذه الدنيا العبوس الجامدة - حجاباً من الأوهام القوية فسروا عن الإنسانية ، وستروا ما في
الحياة من غضاضة ومَضض ، وخلقوا جناتِ النعيم فنيطَ بها الرجاء وتوالت الأحلام. وإذا رجعنا على الجهة السياسية علمنا أيضاً كيف كان تأثيرُ المعتقداتِ شديداً. والسببُ في قوة الدين العظيمة كونهُ العاملَ الوحيدَ الذي تتوحَّد بهِ وقتاً ما منافع الأمة ومشاعرها وأفكارها. فيقوم المبدأ الديني بذلك دفعة واحدة مقامَ غيره من العناصر التي يتكوَّن منها روحُ الأمة والتي لا تنتج هذه النتيجة إلاّ إذا أربت وتمَّ نضجها بالوراثة. نعم لا يتغير مزاج الأمة العقلي بمجرَّد استيلاء دين على قلبها؛ غير أنَّ جميع القوى تتَّجه نحو غاية واحدة هي الانتصار للمعتقد الجديد ، وفي ذلك سرّ قوتها العظمى. لذلك تجد أن قيام الأمم بأعظم الأعمال كان في عصر هذا التطوُّر الوقتي أعنى عصرَ تديّنها ، وتأسيس أكبر الممالك لتي أدهشت العالم كان في عصر تدينها. كذا اتحدت بعض قبائل العرب بفكرة محمد صلى الله عليه وسلم فاستطاعوا قهر أمم كانت لا تعرف منهم حتى الأسماء. وشادوا تلك الدولة الكُبرى. وعليهِ يتضح أنهُ كان للدّين شأن كبير في سياسة المم لأنهُ هو العامل الوحيد سريعُ التأثير في أخلاقها. نعم أن الآلهة ليسوا خالدين ، ولكنَّ المبدأ الديني باقٍ لا يزول. يغفي زماناً ، ثم ينشط متى ظهر ربّ جديد. وهو الذي استطاعت بهِ فرنسا وحدَها منذ قرن أن تقاوم أوروبا كلها. فعرف البشر مرَّة أخرى درجة تأثير المعتقدات الدينية. لأن الأفكار التي امتلكت العقول في
ذلك العصر كانت في الحقيقة ديناً جديداً نفخَ في الأمة من روحهِ فأنعشها. لكنَّ الآلهة التي برزت من خلال تلك المعتقدات كانت لطيفة المادة فلم تدم إلَاّ قليلاً؛ على أن سلطانها ، مدَة وجودها ، كان سلطاناً كبيراً. بعد ذلك نقول أن قدرة الديانات على تغيير روح الأمم قدرة فانية. فقلما تدوم المعتقدات على قوَّتها الأولى زمناً يكفي لتغيير الخلق تغييراً تاماً. سببهُ أنَّ قوَّة الأحلام لا تلبثُ أن تفتر ويرجع المأخوذُ بسكرتها بعض الرجوع إلى اليقظة فتظهر حقيقة الخلق العتيق.
يظهر على الدوام خُلق الأمة حتى وسلطان الدين في منتهى شدته فتراه في الصبغة التي أنصبغ بها الدين عند الأمة التي اعتنقتهُ ، وفي المظاهر التي تنشأ عنهُ. انظرْ إلى الفرق العظيم بين المعتقَد الواحد في انكلترا واسبانيا وفرنسا تجد أنهُ كان من المستحيل ظهور البروتستنتية في اسبانيا أو رضي انكلترا بإقامة الاضطهاد محكمة التعذيب بين ربوعها؛ ل تأمل حال الأمم التي دانت بالبروتستنتية تظهر لك أخلاقها الأساسية الأولى بادية عليها ، وأنها بالرغم من افتتانها بمعتقداتها ، لا تزال محتفظة بميزاتِ مزاجها العقلي ، أعني الاستقلالَ ومضاءَ العزيمة وتدبّرَ الأمور قبل الأخذ بها وإباءَ الخنوع والاستذلالَ لسيّد يصدر في أمره عن الهوى. يتولّد تاريخ الأمم السياسي والأدبي والفّني من معتقداتها؛ إلاّ أن هذه كما تؤثر في الخُلق تتأثر أيضاًَ بهِ. فمفاتيح حياة الأمة خلقها ودينُها. والأول دائم من حيث صفاته الأولى ، وعدمُ تغيره هو السبب في حدة تاريخ كل أمة واطراده. أما المعتقدات فقابلة للتغير. وتغييرُها هو السبب في أنَّ التاريخَ يحكي كثيراً من الانقلابات في الأمم. اليوم تميل الأمم القديمة على السقوط. فهي تهتزّ من الوهن ، ونظاماتها تتداعى واحداً إثر واحد. وعلة ذلك فقدانها كل يوم شيئاً من إيمانها الذي قامت عليهِ حتى الآن. فإذا فقدتهُ كله قامت حتماً مقامهُ حضارةٌ جديدة مؤسسة على معتقد جديد. لأن التاريخ يدلنا على أن الأمم لا تحيا طويلاً بعد اختفاء معبوداتها ، وأنَّ الحضارات التي جاءَت مع تلك المعبودات تذهب بذهابها. ألا لا شيءَ أفعل في التخريب من أثرٍ معبودٍ يموت.
أحمد فتحي زغلول
وكيل نظارة الحقانية