الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الزهور
المرء روح خفيٌّ لست تنظره
…
إلَاّ بمرآتهِ من هذه الصوّرِ
غن المرء ظاهره عنوان باطنه
…
فهاكُم عن فؤادي أصدقَ الخبرِ
عبد الحميد الزهراوي
للسيد عبد الحميد أفندي الزهراوي شهرة في الأدب لا تقلَ عن شهرته في السياسة. ولئن كانت سوريا قد عرفته سياسياً ماهراً ، ومبعوثاً غيوراً على مصلحتها ، فإن مصر عرفته من قبل كاتباً مجيداً ، وصحافياً قديراً. على أن شواغل السياسة لم تصرفه عن الكتابة فقد طالما أنشأ المقالات الضافية ، وكتب الفصول الشائقة في جريدته الحضارة الغراء. ولقد اغتنمنا فرصة وجوده في هذه الأثناء في مصر ، فسألناه أن يزين بعض صفحات الزهور بفصل يكتبه خصيصاً لهاو فتفضل بالمقال التالي ، قال:
رغبتم ، أيَّد الله بكم دولة العلم والأدب ، أن أضع بين زهوركم ورقة يتمثل عليها شيء من تفكراتي ، ولو أطلعتم على قلبي ، وعرفتم كم أقدر الزهور حق قدرها ، وكيف أتهيَّب أن أضع بينها مثل هذه الورقات ، لما سمحت مكارمكم الأدبية أن تضعوني بين مشكلَين من تلبية هذه الرغبة الشريفة ، والأحجام عنها. أما وقد قضى حظّي أن تخفي عليكم حالي ، مع وضوحها وقوة فراستكم ، فإن الأقدام رجح عندي على الأحجام ، وشجعني على ذلك أنَّ فوضى الأقلام قد تستطيع تعاريجها أن تخفي مثل هذه الورقات فلا تنفذ إليها أعين الحذاق. ولا أكتم عنكم أن ما شغل الأفكار هذه الأيام من هبوب عواصف السياسة من الغرب على الشرق ، ومن الشرق بعضه على بعض ، قد حال بيننا وبين مجالات الكتابة؛ لأن المجال إن كان في السياسة ، فهي قاضية أن ليس كل ما يعلم فيها يقال ، وإن كان في الأدب ، فمعلوم أنه لا محل للموسيقى حين تكون المدافع قائمة بدورها على أبواب البلاد ، وإن كان في الفلسفة ، فلها رجال لا أرى غني من طبقتهم ، ولا تسمح نفسي إن تحشر في زمرة الطبقة التي لا تستحق في نظر الناس إلَاّ أن توسم بالتقليد؛ فلأجل هذا كله وقفت طويلاً أمام تكليف صديقي صاحب الزهور وقفة الحائر ، ثم انطلق لساني يقول: كيف الخلاص من الزهور. ولما قلت هذه الكلمة وجدت ضالتي؛ فإن ذهني انتقل إلى موضوع يصح أن نسميهُ جليلاً. ذلك أن لاحت لي العلاقة العظمى التي البشر والأزهار ، ورأيت أن هذا النوع بأجمعه غير
مستغنٍ عن الأزهار. فلما
رأيت الناس تربطهم بها هذه الرابطة العظمى ، بحيث لا ينفكّون كلهم عن طلابها ، والخضوع لتجلياتها - لما رأيت هذا المرأى الغريب الذي يقلّ التنبه له ، هان عليَّ عدم إمكان التخلص والتملص من أمره الزهور وسهل عليّ الدخول في موضوع قد يصح ن يأوي إلى هذه الرياض لأنه متعلق بالزهور.
العلاقة التي بيننا وبين الأزهار
قلت أن العلاقة بيننا وبينها عظيمة والآن أزيد فأقول: هي عظيمة جداً. وهذا أراه يحتمل شرحاً كثيراً ، وأبدي أسقي على أني لم أجد من الوقت ، ومن تفرّع الفكر ما استخدمه في هذا الشرح على مقدار ما يحتمل الموضوع ، فأنا أكتفي بإشارات قليلة فإني لا أخال أن للزهور قرّاء من غير الأذكياء ، وأولئك تكفيهم الإشارة. إن العلاقة بيننا وبين الأزهار هي علاقة التربية؛ أي أننا نحن نرّبيها وهي تربينا ، وهي مساعدة في حفظ نوعنا ، ونحن مساعدون في حفظ أنواعها. ولما كان من حكمة ذي العناية أن يكون طلبنا لما نحتاج إليه من الأشياء الضرورية بسوائق طبيعية ، وضع فينا سوائق جمة متنوعة بتنوع ما نحتاج إليه؛ وأعظم السوائق حبّ الجمال. ووضع سبحانه فيما نحتاج إليه ، ويحتاج إلينا ، جواذب جمة متنوعة أعظمها الجمال. ففي الأزهار قوى تجذبنا ، ووفينا قوى تسوقنا إلى محبتها. ولست أدري أشاعرة تلك الحبائب بهؤلاء المحبين ، وأتربّينا لجواذب فينا تجذبها ،
وسوائق فينا تسوقها إلى ذلك؟ نعم لا أدري هذا فتركه لسبح خيال بعض الفلاسفة. . .
كيف تربّينا الأزهار
أما تربة الأزهار إيانا فعلى أساليب شتى ، بعضها شديد الظهور. فمن ذلك: تربيتها أبداننا؛ ذلك أن قسماً عظيماً من أغذيتنا يتمثل في أهم أدواره زهراً ، ثم ينقلب حَبّاً ، أو فاكهةً ، أو لبّاً. ولا ينبغي أن ننسى أن الأعشاب هي الأساس في تربية أبدان جمهور الحيوانات؛ لأن أو أكل اللحوم منها ، إنما تتغذى بلحوم أو أكل الأعشاب في الغالب ، ولأنها أعني أو أكل اللحوم إذا وجدت في اللحوم غذاءها ، لا تجد فيها شفاءها إذا أصابها مرض ، بل تلتمسه في الأعشاب كما ينقله المشاهدون. وإذا كانت الأعشاب هي الأساس في التغذية ، ومن الحبوب والفواكه والألباب قسم كبير من الأغذية والأدوية ، كان واضحاً معنى تربية الأزهار أبداننا. أما تربيتها لأفكارنا وعواطفنا فهذا الذي يحتاج إلى الشرح؛ ولعله يكفي أن
نقول: أن أعظم أسباب رقيّ الإنسان إنما هو حب الجمال وأن أعظم حامل للواء الجمال هي الأزهار التي لا يستطيع أبلغ البلغاء أن يدخل في تفاصيل بهائها وازدهارها وتشكلها بالألوف من الألوان التي يفرق بعضها عن بعض امتيازات في غاية الدقة. فكلما ألف الإنسان المزيد من التمتع بجمالها وعُني بتربيتها وترتيبها ازداد ذوقه سلامة ، وطبعه لطفاً ، وروحه نشاطاً.
وهناك أسلوب آخر من تربيتها إيانا يذوقه الصوفيون ، والفلاسفة الروحيون؛ فلا نتعرض له ههنا.
كيف نرّبي الأزهار
هذا المطلب من الموضوع نترك بعض جهاته لعلماء الزراعة ، ونأخذ نحن بجهة واحدة منه؛ وهي أن التقليد الذي يدخل في كل شيء قد دخل أيضاً في تربية الأزهار التي اعتاد الناس أن يزينوا بها حدائق البيوت. ذلك أننا رأينا أكثر الحدائق إنما تحتوي على أصناف من الأزهار معهودة عند الكل في الغالب ، في حين أن الأزهار التي تحتوي عليها أرض الله الواسعة تكاد لا تحصى. هذا التقليد قد يذكّرنا بجمود أكثر الأفكار على ما عرف الأولون ، من غير تأمل ، في ذلك الذي عرفوه خطأَ أو صواباً؛ وإذا انتقل الفكر من الجمود في تربية الأزهار ، إلى الجمود في تربية العقول والنفوس ، يرجف القلم ويستعفي من الخوض فيه؛ فليعذره القارئ إذا أراد أن لا يترك لذة الوقوف مع الزهور ، وقفة الذاكر جميلها وجمالها ، المتعلم من حكمة التي تتجلى لي كلما رأيتها تزين الرياض والحدائق ، وهي أن تسبيح بديع الأكوان كلها يكون بالروح والجنان ، كما يكون باللسان ، وإنْ مِنْ شيءٍ إلَاّ يُسَبّحُ بحَمْدِهِ ولكنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحهُم.
عبد الحميد الزهراوي