الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عشرون عاماً
في أواسط الشهر الجاري يغادر مصر حضرة الكاتب المعروف اسكندر أفندي شاهين رئيس تحرير جريدة الوطن قاصداً الديار البرازيلية وحضرته من الكتَّاب المجيدين في اللغتين العربية والانجليزية فأحببنا بهذه المناسبة أن ننشر للقرّاء صورة هذا الصحافي القديم ، وإن تُشيّعهُ بكلمة وداع باسم الصحافة التي خدمها زهاء ربع قرن ، سائلين له في غربته كلّ توفيق ونجاح. وقد نشرنا في الصفحات التالية كلمته في وداع مصر ، قال:
في مثل هذا اليوم من عشرين سنة مضت - في اليوم الأوَّل من شهر يوليو سنة 1893 - رأيتُ أن أبتاع من بعضهم جريدة أسبوعية اسمُها الرأي العام كنت أطبعُها لشابَّين سوريَّين لم يتفقا على تحريرها ، ولكنهما اتفقا على تركها لي؛ فاشتغلتُ بها من ذلك اليوم ، وجعتُ أغيّر ما بها على مهلٍ ، وأحرّرها من رقِّ الرياء ، لأنها نشأت على عبادة السلطان عبد الحميد ومدح أبي الهدى ، وما بقيَ من أساليب الوطنية التي كانت شائعةً في ذلك الزمان ، حتى جعلتها الرأيَ العام المعروف في أوائل هذا القرن وأواخر القرن الماضي. وتدرَّجتُ منها إلى الاِشتغال بتحرير الجرائد اليومية ، وبغير هذا من فنون القلم إلى أن بلغتُ هذا النهارَ من عمريَ الصحافي ، وذكرتُ ذيَّاك العمرَ الطويلَ وهاتيك الحوادث الكثيرة والعبر المتوالية؛ فقلت إني آنَ لي أن أستريحَ قليلاً من عناء حرفةٍ لم تفارقني ولم أخن عهدَها في كلّ هذه السنين؛ لعلَّ الراحةَ تجدّد القوى وتنسي بعض الذي مرَّ من متاعب التحرير والتحبير. وماذا أقول وما الذي أسطّر هنا من خزانةٍ وعت أموراً تضيق بها المجلدات ، وذاكرةٍ طالما أغنتني عن بعيد الكتب وعزيز المؤلفات؟ لعمرك لو أنني أسطرُ عشرَ الذي يجول الآن في ذهني بينا أنا أخطّ هذه السطور لأغنيتك عن مطالعات أسبوعٍ أو شهرٍ من الزمان. أٌول ذلك لأنني ذاهبٌ إلى أبعد القارَّاتِ عن هذا القطر لأقضي فيها أشهراً ، وليس يدري غيرُ الله كيف يكون الختام. أنا النفسَ ألفت بلاداً قضيت فيها زهرةَ العمر وجئتها من نحو 29 عاماً؛ فعسيرٌ عليها أن تحنَّ إلى وادٍ
غير وادي النيل ، أو أن تطلبَ اللقاء بخلَاّنٍ غير الذين عاشرتهم كل هذا العمر الطويل. فسواءٌ جرت سفينة الأرزاق بما تشتهي نفسي وتتمنى جوارحي ، أو سارت الأقدار بي في سبيل آخر ، فلأذكرنَّ عهد الولاء إلى آخرِ العمر. والهُ يفعل بعباده ما يشاء. ولقد ساءَني أناسٌ مدةَ هذه السنين وساءَ ظنهم بي فكانوا يتهموني في أوَّ الأمر بخيانة الدولةِ وعداءِ السلطان؛ ثم رجعوا إلى رأيي بعد أن طال عهد
الجفاء. واتهموني بعد ذلك بمصانعة الدولة الانكليزية لأنتفعَ بأموالها؛ ثم ظهر أن التهمةَ أبعد عن الصدق مما بين القطبين. وقالوا أني كنتُ مفرّقاً بين طوائفِ المصريين ، فثبت نقيضُ الذي قالوا بعد أن تغيرت بعضُ الخواطر على حين. وقد مضى الآن زمان هذه المزاعم ومضى تأثيرها ، فكان على الجملة كما أتمنى ، وبقيَ في الأذهان عامةً حقيقة أعدُّها أثمنَ من المال المكنوز؛ ألا وهي أنني خدمت الحقَّ في كل حياتي الصحافية خدمةَ الذي يقدِّم الحقَّ على كل مصلحة أو شأن. وعرفتُ بالصدق لا يختلفُ ضميري عن لساني ، ولا تخون نفسي الحقّ في حال من الأحوال. هذا هو فخري وهذا جزائي من الناس بعد الاشتغالِ عشرين سنة بالكتابة والتحرير؛ ونعم الجزاءُ ونعم الأجرُ الكبير وليس يؤخذُ مما تقدَّم أنني العصمةَ والكمال؛ بل إن خطتي كانت خطةَ الصراحة والصدق. فسواء صدقت آرائي في هذه المسائل العديدة التي كتبتُ فيها أو أخطأت ، فإنَّ القولَ كان صادراً عن اعتقاد بصحته ، وعن عزم على إيراد الحقيقة وإهمال كل مصلحة يفيد فيها
الكذب والرياء. فإذا قدّر لي أن أعودَ إلى هذا القلم رجعتُ إليهِ ولم ارجع عن المبدأ الذي أفخر بهِ وقد رأيته أنفعَ من مبادئ الذي يتقلبون مع الأهواء ، ويبدون في كل يوم بشكل جديد. وأسأتُ في ما مضى إلى كثيرين أيضاً ربما كان معظمهم من الزملاء الذين يقضي اختلافُ نفساً بقصد إيلامها ولا تهجمت على رجل بالطعن ، وأنني كنتُ أحزنُ لما يصيبُ الخصمَ الصحافي ولا حزنَ أصحابه والأخصاء الأقربين. على أن المطاعنَ الصحافية كلها خطأ قبيح ، ولابدَّ أن يكون قلمي قد زلَّ مراراً وأغضبّ بعض الرفاق فاسألهم الصفحَ والمعذرة ، وأرجو أن يكون عامنا الحالي آخرَ أعوامِ التجريح والمشاتمة في عالم التحرير. قلتُ أن الذي تعي ذاكرتي من حوادث هذا العمر الصحافي والذي يعنُّ لي إيرادهُ شيء كثير. فإذا شاء قراء الوطن أن أوافيهم بشيء من أذوق الراحة أياماً. وأمَّا اليوم فاكتفي بشكرٍ عام أرسلهُ إلى كل صديق كريم وذي وداد طلب لي الخير فيما مضى؛ وأسأل الله أن يوفق كلًّ منا إلى الغرض الذي يطلبه ، وأن يديمَ أيامَ الصفاء والهناء لجميع الأخوان الذين عرفتهم في وادي النيل.
اسكندر شاهين