الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرسميات
لم يكَدْ انتخاب المسيو يَذيع حتى أعلن رغبتهُ في خلع نير الرسميَّات وميله إلى حرية المعيشة. فهو يريد أن يؤمَّ هذا المكان ، أو يختلف إلى ذلك الموضع بغير عين ولا رقيب. وهو يبتغي أن يثابر على مشاطرة المجمع العلمي الفرنساوي أعمالهُ. وأن يتناول الطعام عند أصدقائهِ إيانَ شاءَ دون أن يحاذر لومة لائم على مخالفتهِ لقواعد العادات المرعية في الرسميات. إن الرغبة التي أبداها المسيو بوانكاره على أثر انتخابهِ لرئاسة الجمهورية الفرنساوية تدلُّ على عواطف ديموقراطية حقيقة كامنة في صدر ذلك الرجل العظيم الذي أجمعت الكلمة على استحسان انتخابهِ لذلك المنصب الرفيع. وهي لعمر الحق عواطف لا يسع كلَّ ذي عقل سامٍ إلَاّ إطراؤها. أجل أن الرسميات المقضي على رئيس الجمهورية الفرنساوية التقيّد بها في هذه الأيام ، لم تعد معدودة شيئاً مذكوراً بالنسبة إلى الرسميات الكثيرة التعقيد التي كان العمل جارياً بموجبها في العصور الماضية في قصور ملوك فرنسا. ومع ذلك فإن المسيو بوانكاره أنف من الخضوع لها. وهبْ سلّمنا بوجوب العمل بمقتضي قواعد الرسميات في بعض الحفلات التي تقتضي تصدُّر رئيس الجمهورية فها ، كالأعياد العمومية واستقبال رؤساء الحكومات الأجنبية وسفرائهم ، فلا يمكننا التسليم بضرورة بقاء ذلك الرئيس مقيداً بتلك القواعد في معيشتهِ البيتية. ففي جلسة عقدت في 21 سبتمبر أيلول سنة 1792 اقترح مانويل أن يقيَّد زعيم الجمعية العمومية بقواعدَ رسميات تُعيد إلى الذهن ذكرى بعض القواعد التي كانت مرعية في عهد الملكية الملغاة. فللحال ارتفعت أصوات الاعتراض على اقتراحه وأُقيم النكير عليهِ بالصوت الحيّ. وكان من جملة مقال تاليان في ذلك الصدد: إني ليدهشني تباحثكم في أمر الرسميات. فلا يمكن أن يوضع موضع المناقشة
استئثار رئيس الجمعية بميزةٍ خاصة حين لا يكون مزاولاً لأعمال منصبهِ. وهو حين يكون خارج هذه الردعة يعتبر فرداً من جملة أفراد الأمة وكأننا بالمسيو بوانكاره يرغب ، حين هو لا يزال أعمال الرئاسة في أن يكون حرّاً يتصرف في أعماله كفردٍ بسيط من أفراد الأمة. فكأن روح أجدادهِ قد تقمصت فيهِ فدعتهُ إلى إجراء ذلك العمل الذي استوجب له الثناء. يرجع أصل الرسميات في فرنسا إلى الملك فرنسيس الأول 1494 - 1547 وقد كان ملوك فرنسا قبله على غاية من البساطة في معيشتهم. فأراد هذا الملك أن يفتدي بُمناظرهِ العاهل شارل الخامس في الأبهة والعظمة الموروثتين عن أجدادهِ
دوقات برغونيا. هذا كان بدء إدخال الرسميات إلى بلاط فرنسا. وقد زادها هنري الثالث تعقيداً. وأما هنري الرابع فإنهُ بذل المجهود لجعلها بسيطة. وعالج مناوأتها غير مرة. غير أن ماري المديشية زوجتهُ كانت من قوم شديدي الاستمساك بأهداب الرسميات فانتصرت لها ، وزادتها تعقيداً على تعقيد. وكانت الرسميات ف بلاط لويس الرابع عشر من أصعب الأمور المقضي على الإنسان العمل بها. فلم يكن الملك يُجري حركة أو إشارة إلاّ ويبادر إلى قضاء أمره شخص من الأشخاص المعينين لتلك المهمة بموجب قانون الرسميات. فإذا نهض الملك من السرير ، قضت الرسميات على بعض الأشخاص إن ينهضوا بأعباءِ خدمتهِ. فهذا يقدّم له قميصهُ ، وذاك سراويلهُ. وإذا جلس إلى المائدة ، قام على خدمتهِ جمهورٌ من رجال البلاط يقدمون له بالتناوب ألوان الطعام وأنواع الشراب. فكانوا يأتونهُ بالشواءِ في حفلة منظمة؛ فيسير في المقدمة جنديان يحمل كلٌّ منهما رمحاً على كتفهِ. ويتلوها خادم يحمل الشواءَ يتبعهُ أربعة من الحراس يحملون البنادق على أكتافهم. وكل ذلك لأجل قطعة من اللحم المشوي. ولو كانت هذه
الحفلة تزيد في لذة الطعام لكانت مغتفرة. ولكنها كانت تذهب بلذتهِ لأن الطعام كان يبرد في أثناء ذلك. وظلت تلك الحفلات الرسمية المستهجنة معمولاً بها حتى اتقدت نيران الفتنة الكبرى فأخذت الملكة ماري انطوانت ، زوجة الملك لويس السادس عشر ، منذ قدومها إلى الديار الفرنساوية ، تتذمر من تلك الرسميات برسائل كانت تخطها إلى والديها. ولما زُجّت في السجن بعد الثورة قالت: إني استفدتُ شيئاً من الثورة فقد تخلصتُ من الرسميات فليحكم القارئ من الحادثة الآتية عما إذا كانت الملكة مصيبة أو مخطئة في قولها هذا: حدث ذات يومٍ من أيام الشتاء أن الملكة ماري انطوانت كانت تغيّر ملابسها وقد تعرّت ، وأوشكت أن تلبس قميصها. وكانت عقيلة كامبان قيّمة غرفة الملكة حاملة القميص مطويّاً. فدخلت إحدى نساءِ الشرف ، ونزعت قفازيها ، وتناولت القميص من القيّمة - ولا بدَّ من أن يعلم القارئُ أن الرسميات كانت تقضي على كل شخص يقدّم شيئاً ما إلى الملك أو الملكة بأن يكون عاري اليدين - فأخذت سيدة الشرف القميص وهمت بإعطائهِ إلى الملكة. وإذا بالباب يُحكُّ - وينبغي للقارئ أن يعلم أيضاً أنهُ لم يكن يجوز لأحد أن يقرع باب الملك أو الملكة ، بل كانت الرسميات تقتضي أن يُحكُّ الباب قبل فتحهِ - فتح الباب ودخلت دوقة أورليان - وهنا تبدو صعوبة
أخرى وهي أن قواعد الرسميات كانت تقضي بأنهُ إذا دخل على الملك أميرٌ من الأسرة المالكة ، أو دخلت على الملكة أميرة من بيت الملك ، حين يكون الملك أو الملكة يلبسان ثيابهما ، كان من حقّ الأمير أو الأميرة أن يقوم مقام السيد أو السيدة المنوط بهما أمر تقديم الملابس للملك أو الملكة. دخلت دوقة أورليان ونزعت قفازيها ، وهمت بأخذ القميص من سيدة الشرف. ولكن الرسميات لم تكن تجيزه لهذه السيدة إعطاءَها القميص فأعادتها إلى
عقيلة كامبان وهذه ناولتها للأميرة. وبينا هنَّ على تلك الحالُ حكَّ الباب مرة أخرى ، وولجت كونتة بروفانس؛ ولما كانت هذه الأميرة سلفة الملكة كان لها الأفضلية على دوقة أورليان فسلمت القميص إليها. وفي أثناء ذلك كانت الملكة العريانة ترتجف من شدة البرد. وكل ذلك كان لئلا تتخطى حدود قواعد الرسميات. ولما رأت عقيلة كامبان أن الأمر قد طال. وأنهُ يُخشى أن تصاب الملكة بزكام من ذلك البرد ، وإن قواعد الرسميات لا تدفع عنها غوائله الذميمة ، تناولت القميص وبادرت إلى إلباس الملكة دون أن تنزع قفازيها ، ودون أن تحترم قبّة الشعر العالية المبنية فوق رأسها. فتبسمت الملكة لعمل عقيلة كامبان ، وإن يكن قد ساءَها من جهةٍ خرق حرمة الرسميات. قال الكاتب بولس لويس كوريه: إن الرسميات تصيّر الملوك عبيداً للبلاط. ولقد أصاب وايم الحق هذا الكاتب في قوله ، لأن أولئك الملوك لم يكونوا يستطيعون أن يخطوا خطوة واحدة ، أو يبدوا أدنى إشارة ، دون أن يتدخل للحال في أمرهم إنسان ليس منهُ فائدة. ومما هو أغرب من ذلك أن هذه الرسميات مع صرامتها في بعض الشؤون العادية كانت في غالب الأحيان مهملة في أمور كثيرة عظيمة الأهمية. كان للملك لويس الخامس عشر عدد كبير من الخدام القائمين على خدمته في لبس ثيابهِ وعلى المائدة وغير ذلك. ولكنهُ لم يكن لديهِ خادم يوقد النار في غرفتهِ ليدفئها. وقد قال لعقيلة دي باري أنهُ كان غير مرة في فصل الشتاء يضطرّ بذاتهِ إلى إيقاد النار في غرفتهِ ليصطلي عليها. أقبح ما في الرسميات أن المقرّبين من الملك كانوا يضربون حولهُ نطاقاً يحول دون وصول الحقائق إليهِ؛ فيبقى بينهُ وبين الشعب حاجزٌ حصين ، فالرسميات التي كانت تحجب حاجات الشعب وأمانيهُ عن علم الملك ، كانت داعياً إلى إضرام نيران الفتن. فقد حدث في اسبانيا من الفتن ما لم يحدث في غيرها من البلدان
ويعزى ذلك الأمر إلى الرسميات التي يُعمل بها في تلك المملكة أكثر مما يُحافظ
عليها عند سواهم من الشعوب. وقد نظم فيكتور هوغو الشاعر الفرنساوي المشهور عقد رواية حسناء سماها روي بلاس أدار رحى الكلام فيها على قطب الرسميات ، وما يتخللها من العادات التي يمحُّها الذوق السليم ، دون أن يركب مركب المغالاة ، أو يتمادى في المبالغ بهذا الموضوع. ولما كان بالشيءِ يذكر ، نورد هنا نكتتين لطيفتين تأتيان مصداقاً لما نحن في صددهِ: أمر ملك اسبانيا في خالي الحين أن يقدّموا للملكة جياداً من كرام الجياد الأندلسية لتختار منها فرساً كريماً. فانتقمت منها جواداً مطهماً وركبتهُ. ولم تكد تمتطي صهوتهُ حتى جعل يرفس ، فهوت إلى الأرض وبقيت رجلها معلقة بالركاب. فأجفل الحصان جامحاً ، وجرّ وراءَه الملكة. وكان ذلك الأمر في عرصة القصر والملك ينظر من الشرفة ، والاضطراب والقنوط بالغان منهُ. وكان في العرصة عدد غير قليل من الخفراءِ ورجال البلاط ينظرون إلى الملكة ولا يجسرون على الدنو منها لتمليص رجلها من الركاب لأنهُ كان محظوراً على أيٍّ من الناس أن يمسّ شخص الملكة ولاسيما رجلها. وكان ثمت فارسان اسبانيوليان ، فدفعتها الحمية إلى إنقاذ الملكة ولو سامهما ذلك الأمر إلى اقتحام غمرات الحمام. فقبض أحدهما على لجام الحصان وأوقفهُ ، وملص الآخر رجل الملكة من الركاب. ثم أنهما برحا القصر لساعتهما مسرعين إلى منزلهما ، وأسرجا جوادين ، وتركا المدينة هاربين من غضب الملك. وفقد في اسبانيا أيضاً أحد الملوك حياتهُ بسبب تمسكه رجال بلاطهِ بالرسميات. وذلك أنهُ كان للملك فيليب الثالث موقد في غرفتهِ أضرمت فيه النار وارتفع لهيبها. فاندلع لسانها اندلاعاً كاد يحرق وجه الملك. وحدث أن الشخص الموكول إليه أمر العناية بتلك النار كان غائباً. فلم يدر في خلد أحدٍ من الحضور في حضرة الملك أن يقوم مْقامهُ. وظن الملك أن كرومة مقامهِ تمنعُ الابتعاد عن تلك
النار أو أبعادها عمهُ. ولذلك ظلّ قاعداً على عرشهِ حتى أثرت بهِ النار تأثيراً أحرق وجههُ ، وكان سبباً لوفاتهِ بعد بضعة أيام. أما الملكة فكتوريا الانكليزية فقد كانت أعقل من ملك اسبانيا من هذا القبيل؛ فإن في عملها والكلمات التي فاهت بها في الحال التي سنبينها ، انتقاداً مرّاً لتلك الرسميات التي ما أنزل الله بها من سلطان. كانت الملكة فكتوريا ذات ليلةٍ جالسة في ردهة من ردهات قصرها وقد التفَّت حولها عصابة من الأمراء والأميرات وكبار رجال المملكة. فجعل المصباح يدخّن. فنهضت الملكة وخفضت الذبالة. وكان من وراء عملها هذا
دهشٌ شديد استولى على الحاضرين. فصاحت إحدى سيدات الشرف: أو مثل جلالتك تتنازل بذاتها. . . فأجابتها الملكة: نعم فلو إني قلت أن القنديل يدخّن ، لكانت سيدة من سيدات الشرف قالت للحاجب: ألا ترى يا حضرة السيد أن قنديل الملكة يدخّن؟ وحينئذٍ كان هذا الأخير ينادي خادماً لإصلاحهِ. ولا يخفي أن هذا الأمر يستغرق وقتاً من الزمان يمكن أن يلتهب القنديل في خلاله. ولذا قد آثرت تولّي إصلاحه بذاتي. . . وقد انتسخت الرسميات أو كادت في عصرنا نت قصور الملوك في بلدان أوروبا الشمالية. ففي كوبنها أو ستوكهولم أو كريستيانا لا يتعجب أحد من رؤيتهِ الملك يتنزه وحدهُ في الشوارع حاملاً عصاه بيده ، أو يركب الترامواي كأنهُ من سوقة الناس. وأما الرسميات في بلدان أوروبا الجنوبية فإنها لا تزال مرعية كما كانت في الماضي. وهي تعتبر إرثاً اتصل بالشعوب اللاتينية من بيزنطة. وعندنا أن أفضل شيء هو ما جرى عليهِ القوم في أوروبا الشمالية من البساطة في المعيشة. والتحرر من قيود الرسميات الثقيل. ورحم الله مرمونتل القائل فلنهزأ بالرسميات ، وبالتربة التي أنبتها.
إلياس طنوس الحويّك