الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أزهار وأشواك
اللغة والأسرة والحكومة
في مصرَ اليومَ مسائل ثلاث تشغلُ الرأي العام: اللغةُ ، والأُسرةً ، والحكومة. لا يحسُنُ بي أن أدّعها تمرُّ دون أن أقول فيها كلمتي. سأضطرُّ على الإيجاز ، ولن أُحاول استيعاب الموضوع ، لأن كلَّ مسألة من هذه المسائل تُعَدُّ من العُقَدِ الاجتماعية التي لا يسهلُ حلُّها: باتَتْ لغتنا في حاجةٍ قصوى إلى الإصلاح ، ولم يبقَ بالإمكان الجمود بها على ما كانت عليهِ حيال النهضة الحديثة التي بدَت طوالعُها. ولقد تنبَّه الخواطرُ إلى هذا الأمرِ على أثر المنشورات التي أصدرتها نظارةُ المعارف ، فتراجع صداها في صحفنا اليومية ، وتناولتها أقلام الكتَّاب بين منتقدٍ ومقرّظٍ. دار البحث أوَّلاً على مسألة الكتب المدرسية ووجوب ضبطها بالشكل لكي يعتاد التلاميذ منذ حداثة سنّهم ، تقويمَ لسانهم وفصاحة نطقهم. ولا يخفي ما للشكل في اللغة العربية من الأهمية ليستقيم المعنى ويتمَّ المقصود؛ وكم من مرَّةً نقرأُ الجملةَ على صورةٍ معيَّنةٍ حتى إِذا ما وصلنا إلى آخرها وأحطنا بها ، نجدُ أننا أسانا تلاوتها على نحو ما تلوناها أوَّلاً. فنردّد حينئذٍ ما كان يقول المرحوم قاسم أمين كلُّ لغةٍ تُقرَأُ لتُفْهَم ، ، إِلَاّ اللغة العربية ، فإِنها تُفْهَم لتُقرأُ أُورِدُ مثلاً على ذلك جملةً قرأتُها في إِحدى المقالات التي كُتَبِتْ في هذا الموضوع ، وهي حسن
صرف المال في وجوه الخير فيمكنك أن تقرأها على وجوه مختلفةٍ لتجرُّدها من الحركات فتقول:
1ً - حَسَنق صَرْفُ المالِ في سبيل الخير ، أي محمود
2ً - حَسُنَ صَرْفُ المالِ في سبيل الخير ، أي جَمُلَ
3ً - حُسْنُ صَرْفِ المالِ في سبيل الخير ، أي جمال
4ً - حَسِّنٌ صَرْفَ المالِ في سبيل الخير ، بمعنى الأمر
5ً - حَسَنٌ صَرَفَ المالَ في سبيل الخير ، أي سي حسن هو الذي صرف المال
6ً - حَسَنُ! صَرّفِ المالِ في سبيل الخير ، إذا ناديت حسناً وأمرتهُ
7ً - حَسَنُ! صُرِفَ المالُ في سبيل الخير ، إذا ناديت حسناً وأخبرتهُ عن صرف المال
وفي هذا كفاية على أهمية الشكل في اللغة
أما المسألةُ الثانيةُ فهي مسألة الأُسرة ، دار عليها البحث بمناسبةِ الحربِ القلمية التي أثارها
إِنشاءُ جمعيةٌ في مصر لتحرير المرأة ، وخوض الكتَّاب في مسألة الحجاب والسفور. قال فريقٌ لا سبيل إلى إصلاح الأمَّة إلَاّ بإصلاح الأسرةِ ، ولا تصلحُ الأسرة إلَاّ بصلاح المرأةِ ، ولا تصلح المرأة إلَاّ إذا رفعت الحجاب واشتركت مع الرجل في الحياة ورافقتهُ في نزهاتهِ ورياضاتهِ بدلاً من أن يرتادَ الأندية العمومية فيجالس أساتذة السهر وفلاسفة اللهو والملذَّات.
وقام فريقٌ ثانٍ بالويل والثبور ، وعظائم الأمور ، ويستنزل اللعنات على دُعاة السفور ، صارخاً بهم يا لثارات الدين والقومية! مكانكم أيها السفهاء! فو اللهِ ما دعا دعاةٌ إلى شرِّ مما دعوتم ، ولا تحركت الألسن بأسوأِ مما تحرَّكت بهِ ألسنتكم ، ولا جرت الأقلام بأضرّ مما جرت بهِ أقلامكم ، فليت ألسنتكم عُقِدَت ، وأقلامكم قُصِفَتْ. هذا بعض ما اتحفنا بهِ الجرائد في هذا الموضوع. والغريب العجيب إن سيداتنا - وهنَّ موقداتُ نار هذه الحرب - لم يُبدينَ رأياً ، ولا رفعنَ صوتاً ، ساعة نرى أخواتهنَّ الغريبات في هذهِ الآونة يُزَاحمنَ الرجال ، ويطالبهم بما يريد الرجال أن يُريحوهنَّ من متاعب هذه الحياة. أمَّا المسألةُ الثالثةُ التي شغلت صحافتنا وكانت موضوع أحاديثنا ، فهي مباشرة الانتخابات للجمعية التشريعية التي حلّت محلّ مجلس شورى القوانين. لستُ أُريدُ الخوضَ في ما إِذا كان هذا التغيير يُعَدُّ تدرُّجاً نحو السلطة النيابية ، فليس ذلك من شأني. وقد عرف القراءُ من جهةٍ ثانية نتيجة الانتخابات الأولية ، وقرأوا البروجرامات السياسية التي عرضها المرشَّحون على الرأي العام ، وسنعرف عن قريبٍ أسماء الذين يقرُّ قرارُ الأمة على انتخابهم لتمثيلها. إِنما الأمرُ الذي أسفنا لهُ ، هو إِغضاءُ الكثيرين عن الانتفاع بحقّهم في الانتخاب. قرأَ الغيرُ ، كما قرأتُ ، خبرَ ملكِ إيطاليا وكيف أنهُ اشترك في الانتخاب إلى لمجلس النواب في بلادهِ منذ شهرٍ ، فإنهُ ذهب بنفسهِ إلى دائرة الانتخاب التابع لها ورمى ورقتهُ في الصندوق كأحد أفراد رعيّتهِ. في هذا مثالٌ جميل ، وقدوةٌ حسنة.
مَنْ كَتَبَ سَوفَ يكتبُ
يقولُ الإفرنج في أمثالهم من شَرِبَ سوف يشرب إِشارة إلى أن مُدْمِنَ الخمرة لن يُقلعَ عنها. ويصحُّ إِن نقولَ من كتبَ سوف يكتب بمعنى أنَّ مُدمِنَ الكتابةِ لن يكسرَ قَلَمهُ. والصحافة هي إِدمانُ الكتابة فمن زاولها مدَّةً ، وذاقَ حلوها ومُرَّها لن يعرف أن يعيش بعيداً عنها. والأمثلة على ذلك كثيرة. عَلِمَ القرَّاءُ أن اسكندر أفندي شاهين الصحافي المعروف قد ودَّع
الصحافة يوم غادر الديارَ المصرية قاصداً البلاد البرازيلية لتَعَاطي التجارة فيها ، بعد أن خدم القلَمَ بأمانةٍ وإِخلاص مدَّةً ربع قرنٍ. وقد أقام لهُ يومئذٍ زملاؤُهُ حفلة لتوديعهِ ، وتمنى عليهِ الكثيرون ألَاّ يهجر الكتابة هجراً تامّاً ، لأنَّ لهُ في ميادينها جولاتٍ صادقة ، وكنت بين المشتركين في الحفلة ، فتبسَّمت لدى سماعي التعبير عن هذه الأمنية ، لأنَّهُ كان قد بلغني أن الصديق اسكندر قد وَضَعَ في حقيبةِ سفرهِ كليشة حفرها في مصر باسمٍ جريدةٍ قد يُصدرها في البرازيل. ولم تلبث الأيام أن جعلت الظنَّ حقيقة ، فقد حمل إلينا البريد منذ أسبوعين رزمةً من أميريكا الجنوبية ، ففضضتها ، وإذا فيها جريدةٌ يومية بثماني صفحات عنوانها أميركا وأبحاثها متنوّعة لذيذة ، وعبارتها منسجمة طليّة ، وهي لصاحبها ومحرّرها اسكندر شاهين. فأيقنتُ أنَّ من كتبَ سوف يكتب وتمنّيتُ لأميركا نجاحاً وخيراً كثيراً.
حاصد