الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 33
- بتاريخ: 1 - 4 - 1913
أدرنه
هيَ عاصمةُ التركِ الأولى في أوروبا. آخر أثر في البلقان لمجد بني عثمان. أخذها فردينانُ بالأمس كما أخذها مرادُ الأول من قبل كلاهما بذل في سبيلها ثمناً غالياً من مالٍ ومن رجال. روضةٌ غنُّاءُ في منبسطٍ ريَّان الصدر ، مخضرّ الأديم. تترامى حولها سهول فسيحة يتسلل فيها نهر أردَهْ وينساب في غياضها نهر تُوندجه ، حتى إذا هما بغاها لأقامها أمامها نهر ماريتزا فعانقاهُ وتمشَّى الثلاثة معاً إلى خليج إينوس. هيَ بنتُ القِدَم ، وأمُّ الحوادث الجسام. بناها أدريان إمبراطور الرُّومان ، بناءً مثلَ همَّتهِ وطيداً ، فكانت من بعدهِ معقِلَ الملوك ، وأبعد غايات الجيوش ، وأجلَّ هموم الفاتحين. هيّ رواية التاريخ: مرَّت بالأجيال الوسطى وشهدت مطامع أقوامها.
كم خميسٍ لَجَبٍ صادَمها ، وكم ملكٍ همام زحف عليها. لا هيَ ناسيةٌ وقائع قسطنطين وليسينيوس ، ولا مجازرَ الغوط وقومِ. الإمبراطور فالانس مَلِكان تلاقيا أمامها وتَناجزا على مرأًى منها طمعاً فيها. فلمَّا تغلَّبَ قسطنطين فتحت لهُ صدرَها ، ومدَّت إليهِ ذراعيَها. وشعبانِ تطاحنا عندها رغبةً في حيازتها ، فلما قهر الغوط فالانس نبذت هذا ، وأباحت حماها لقاهريه. هي تحبُّ الغالب ، وتزدري المغلوب! ثم حاضَرَها البلغار ، ورموها بالحجارة والنار ، فدفعتهم بمنعتها وردَّتهم عنها خاسرين؛ حتى إذا ضيَّقوا عليها الخناق ، وأرهقوها بالجوع ، تمكَّنوا منها ، فدخلوها مهلّلين مكبّرين. مَن استطاع أخْذَها عنوةً فقد استطاع شبهَ المستحيل. هيَ سبيلُ الغربِ إلى الشرق: آوتِ الصليبيين في طريقهم إلى بيت المقدس ، والطريق إليهِ يومئذٍ نار ودم ، وجمعت في ذراها إمبراطور الروم ، وفردريك بَربَروس ، فتعاهدا تحت ظلِّها وتحالفا ، وكانت لهما الشاهدَ العدل. ثم مشى بها الدهر أو ماشتهُ. لا صروفهُ هيّنة ، ولا عزائمها واهنة. كما أنشبَ فيها ظفراً أنشبت فيهِ ناباً وظفراً. لاقت بهِ طاغية عتيَّا. ولاقى بها صبوراً حمَّالةً للخطوب. قوَّتان متكافئتان. هي الحلقة الأولى من سلسلة الفتوحات العثمانية في أوروبَّا. فتَحها
مراد الأول واتخذها عاصمة للسلطنة. متى تغلَّب فاتحٌ عليها فقد تغلَّب على سائر البلقان. ربَّ حلَقةٍ إذا سقطت ، سقطت وراءها حلقات. حينئذٍ مدَّ النصرُ لها يدهُ فصافحتهُ بيدِ بايزيد الأول ، ثم حالفَتهُ بيد مراد الثاني؛ فتمشَّت هيبتها في طليعة جيوشها ، فملَك قومها مقدونيا وبعضَ بلاد الروم ، واكتسحوا ألبانيا ، ودوَّخوا الفَلاخَ ، وفتحوا بلغراد. ثم مشى منها محمد على فروق حيث بنى عرشهُ على بقايا عرش قسطنطين ، ووطَّد الخلافة على
أنقاض الإمبراطورية. أسعدَها بنو عثمان يوم كان نجمهم زاهراً ملء دائرته في سمائه ، والهلال خفَّاقاً بالنصر على رؤوس الترك؛ فبني فيها سلُيم الثاني جامعهُ الشهير رافعاً قبَّتهُ على أعمدة من المرمر مباهياً بنها قبة آيا صوفيا في على أربعين هي وقبورُ بعض السلاطين كلُّ ثروتها من الآثار. عزٌّ مضى ومجدٌ تولَّى. لا حالٌ إلَاّ تحول ، ولا دولةٌ إلَاّ تدول. عجباً لها! بينا هي سبيل السلاطين إلى الغرب ، إذا هي طريق القياصرة إلى الشرق: مرَّ بها سليمان الثاني إلى فِيَنَّا ، ومرَّ بها اسكندر الثالث إلى فروق! كُرَةٌ لصَوالجة الفاتحين يتراماها ملوكٌ ، ويتلَقَّفُها ملوك. ما دخلها القائد بوسكيه أبَّانَ حرب القرم حتى خرج منها عقيبَها. تؤخذ اليوم
بالسيف ، وتنتزع غداً بالسياسة. فتَحَها جورجو قائدُ الروس ، وانتزعتها منهُ معاهدةُ سان استفانوس! جوَّادةٌ بما لا تملك. لم تتحرَّر قط ، ولكنها وهبت الشعوب الحرية ، ولم تنعم بالاستقلال حقبةَ من الدهر ، ولكنها أنعمت بهِ على جاراتها. لو استطاعت لأخذت مثل ما وهبت! سِجِلٌّ يكتبُ فيهِ القلم كما يكتبُ فيهِ السيف. لهذا صفحة تنطوي على دمٍ وعلى نار ، ولذاك صفحة تنفتحُ على عهودٍ ومواثيق. ما كانت الأولى غير أسبابٍ ، وما كانت الأخرى سوى نتائج. كذلك وقَّع فيها السلطان محمود معاهدةَ صلحهِ مع قيصر الروس ، تلك المعاهدةَ التي وسعَّت منطقة روسيا في آسيا ، وكتبتْ للسرب ورومانيا فاتحة عهدها بالاستقلال ، وكذلك دُوّنَ فيها اعتراف التركِ بتحرّر الرُّوم ، ذلك الاعترافُ الذي أعزَّ هؤلاء ، وأطلقهم من ربقة الاستعباد. مَيدانٌ للحرب ، لا ميدانٌ للعقل. ضرَبت فآلمتْ ، وقاتلت فقتلتْ ، ما أنكر أحدٌ بأسَها ، ولا استخفَّ ملكٌ حملها. ليتها كانت ربَّةَ رأيٍ مثلما كانت ربَّة حسام. للقوَّةِ شأنٌ ، وللسياسةِ شأن. ما وفَّقت بينهما ، ولا استفادت من جمعها. فالبلادُ التي أغارت عليها عادت إليها مكتسحةً مُغيرة ، والقومُ الذين أراقت دماءَهم ، قويَ ساعدهم عليها فأراقوا دمها. وإنما الدهر يومان: يوم لك ويوم عليك. مَن استفاد من نِعَم الأوَّل هوَّن عليهِ شرورَ الثاني.
أدِرْنَه أخت بلافنا. كلتاهما كانت عريناً للأسود ، ومعقلاً لأبطال لتاريخ أختانِ شقيقتانِ حمى عرضَيهما أخوانِ شريفان. ما تسلَّم قيصرُ الرُّوس الأولى إلَاّ مغموسةً بدماء الألوف من عساكرهِ ، ولا بلغ قيصر البلغار الأخرى غلَاّ مشياً على جثثِ جنوده. ملكانِ ابتليا بملِكَين. ذانِكَ أعزَّهما تاجاهما ، وهذان شرَّفهما سيفاهما. رَبَّ سيفٍ ردَّهُ فردينان إلى شكري احتراماً وإكراماً. غازيان لكلٍّ حقهُ من
الشرف والجاه. لتعتزّ أدرنه بفاتحيها. أسودٌ اقتنصتها من أسود! أيها الفاتحون أدِرنه المغتصبون حماها. هل فتحتم مدينةً أعزَّ أمِ اغتصبتم حمىً أجلَّ. أما واللهِ لو لم تكونوا لها أهلاً ، ما ملكتم منها قِيدَ شبر ، ولا تطلعتم إلى أسوارها إلا عن كثب. لم يبعها الترك رخيصة القدر ، ولا اشتريتموها بخسة الثمن. فإذا وقفتم بقبور السلاطين فيها ، قفوا خاشعين لذويها. الكريم مَن يعرف قدر الكريم. أولئك ملوك كبار أجلَّهمُ من قبلكم ملوك كبار. مَن ذا يقول لهم عنَّا: سلامٌ عليكم سلاطين عظاماً ، وسلامٌ عليكم فاتحين أعزَّاء. هذا آخرُ عهدنا بكم. لتبقَ قبوركم مزارَ الأبطال وذكرى خالدةً لمجدكم الخالد. مباركةٌ هي تلك القبور ، ومباركة حولها قبورُ حماتها البواسل. في ذمَّةِ البلغار ما في أدِرنه من رفات كريمة!! سلامٌ عليها وواهاً على عهدنا بها!!