الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القسطنطينية
بناها قسطنطينُ على أنقاض بيزنطية. كانت عاصمةً لمملكة الرُّوم الشرقية، كما كانت رومة قاعدةً للإمبراطورّية الغربية، أختان تشابهتا بالعزّ، وعاشتا زمناً، لكلٍّ مجدها المؤثل، وجلالها المهيب. وهي كرومة قائمة على سبع تلالٍ مرتفعات، في مثل شبه جزيرة مثلَّثة الزوايا يحيطُ بها الماء من جهاتٍ ثلاث: تطلُّ على بحر مرمره من الجنوب، وتُماشي البُسفور من الشرق، وتلمس خليجَ قرن الذهب من الشمال، ثمَّ ينبسط إليها من الغرب سهلٌ يقف حذاءَها، متهيّباً جلالها، فتُشرف عليهِ من مكانها العالي كالنسر باسطاً جناحيهِ. حصَّنها الرُّوم منذ القِدَم ردّاً لغارات الأعداء، وعزَّزها الترك على أثرهم صدّاً لهجمات الطامعين. فبني الأوَّلونَ سورها وأبراجها، وشادَ الآخرون حصونهم وقلاعها. ولكن الطبيعة بزَّت أولئك وهؤلاءِ في كل ما بنوهُ وشادوهُ، فمنَّعت موقعها بالهضاب المتسلسلة، والبواغيز الضّيقة، فإذا هي كعقاب الجوّ، لا تؤخذ، وإذا هي، كحلقِ الليث، لا تباح أرادها العرب، يوم كانوا يستطيعون ما يريدون، ففشلوا، وحاصروهم حين لم تكن مدافع ولا قنابل، فارتدّوا عنها عاجزين، وظلت تردُّ بمنعتها غوائل الأعداء، وتدافع بعزَتها كوارث الأيام؛ الملك عزيز بها، وسلالة بانيها تتوارث مجدها وتتنعَّم بجاهها، حتى دبَّ الضعف إلى الرُّوم، وتغلغلَ الوهَن في نفوسهم، يوم أبطرتهم نعمة العيش،
وأسكرتهم غبطة السلطان، فمشى عليها محمد الفاتح، وحاصرَها من البحر والبرّ، ثم أخذها عنوة واقتدراً في سنة 1453.
محمدُ! كسرتَ جناحَ النسرِ، فأهوى من سمائه، واقتلعتَ ناب الليث، فاستبحتَ حماه!
بناها قسطنططين، واستأثرتَ بها أنت؛ كانت للرُّوم فصيَّرتها إلى الترك؛ ما خفق عليها الصليب، حتى رفعتَ فوقها الهلال؛ بينا هي قاعدة الإمبراطورية، إذا بها دار الخلافة!
فتحتَها ببأسك، وصنتها بحولك ومجدك، ثمَّ تَوارثها أبناؤُك من بعدك!
ما نمتَ عنها ولكن نامَ بنوك!
عجباً نام الترك، وعيون الروم يقظى عليها!
أمغتصبَ الروم ملكهم، قمِ انظر إلى بقايا ملكك العظيم
النسرُ الذي اصطدتَهُ قد استنسرت أفراخهُ؛
والليث الذي اقتنصتَهُ قد استأسدتْ أشبالُه،
البلغارُ على أبوابِ فروق، والرومُ أمام الدردنيل!!
ليست فروقُ عروسَ الشرق وحدَه، بل هي عروس الدنيا جميعها. خُلقت صورة مكبَّرة للجمال، ومثالاً مصغرَّاً لجنان النعيم! هي إنجيل الطبيعة أُنزلت فيهِ آيات الحسن، ونمَّق الدهر صفحاتهِ
بطراز البديع! فيهِ وحيُ الحب ، وإلهام الشعر؛ وكلّ لفظةٍ يحتويها ، تحتوي ألف مغنىً من معاني العظمة والجلال!
فَرُوقُ درَّة في فمِ البُسفور ، ولؤلؤة في عُنق الدردنيل؛ هي عقد من الماسِ يصل بحر مرمره بالبحر الأسود؛ هي تاجٌ من الجوهر على مفرقِ آسيا وأوروبا؛ هي كوكب وقَّاد أطلعتهُ الطبيعيةُ بين الشرق والغرب! ربِّ إن سمحتَ بأن نَعْبُدَ الجمال فلِفروق السجودُ والعبادة!
وقفتُ على البوسفور حيث تمشَّى من البحر الأسود ، وماشيتهُ إلى حيث التقى ببحر مرمره ، فلم أجد منظراً أعظم تأثيراً في النفس ، من مشية ذلك البوغاز الضيق ، العميق ، الطويل ، المتلوّي في مسيره ، كما تتلوّى الأفعى في زحفها.
أحاطت بهِ من على ضفَّتيهِ: الأسيوية والأوروبية ، ربوع خضراء زاهية ، ومغانٍ مشجَّرة تعانِق سهولها الماءَ في ذلك الوادي ، ثم تتدرَّج في الصعود حتى تراها تلالاً عالية ، قريبة المآخذ ، متصلة الرؤوس بالكعاب كالزمح أنبوبٌ على أنبوب. وأطلَّت مآذن الجوامع على قرنهِ الذهبي فتماوجت خيالاتها سابحةً في مُياههِ الرائقة؛ وتراكضت أشعة الشمس إليهِ ، فانعكست عنهُ إلى جانبيهِ ، فتلهَّى النسيم يلعب بها ، كما يتلهَّى وليدٌ يلعبُ بانعكاس النور عن المرآة. ورأيتهُ ، ليلةَ عيد الدستور ، في أوائل الصيف ، وقد راق الجوُّ
وصفا أديمُ السماء ، وتلألأت الأنوار على ضفَّتيهِ ، ومشت فيهِ البواخر مشعشعةً بالأضواء ، ونزلت إليهِ نجوم الفلك تغتسل فيهِ إلى جانب الأشعة المتحدرة إليهِ من برَّي آسيا وأوروبا ، في وسط الأنوار المتدفقة عليهِ من تلك البواخر السارحات والرائحات؛ فأخذ هذا المنظر بمجامع قلبي ، وسكتُّ مخافة أن يشغلني الكلام بوصفهِ ، عن التمتع لحظةً بجمالهِ؛ غير أني أسررتُ إلى نفسي هذه الكلمات:
طوبى لمن دفنهُ عبد الحميد في البُسفور فقد ذهب إلى الجنة من أقرب طريق!
أكان البسفور طريقَ الأحرار إلى الجنة ، كما كان طريقَ وليّ الدين بك يكن إلى سيواس؟؟؟ لست أدري! غير أن وليَّ الدين نفسهُ يقول في وداع فروق يوم نفيَ منها:. . .
وإذا نحن نسير بين منظرين ما تفتحت الأعين على أحسن منهما: شطَّي آسيا وأوروبا ، يتناغيان بالمصابيح. عاشقان ضنَّت عليهما الأقدار بالتلاقي. مررنا بهما أم مرَّا بنا. لا أعلم. صحائف أجاد الحسن فيها منمقهُ. نشرت فانطوت. زلت عنها الأبصار وضاقت عنها الفهوم. فرائيها متخيّل وعارفها متوّهم. ما شكَّ ناظر إلى السماء وإليها أن تلك المصابيح كواكب سقطت عليها. عهدي بها في حالتيها ، بينا هي عرين إذا بها كناس. يخالط فيها كل زئير ليث عندلةُ عندليب. تتجاور بها مسارح آرام ومصارع كرام. تسقي من ماء معين ، ومن دم مهراق. تطالعها
وجوه ضاحكة ، وأخرى مجهشة. تقسمتها مواسم الصبا فهي تارة مشتىً ، وآوانةً مصيف ، وحيناً مربع. جنة يحرسها حارس جهنم. فروق يا ظلوم. خذي روحي فما هبطت عليَّ إلَاّ فيكِ. كان بكِ مهدي. وأريد أن يكون بكِ لحدي. الوداع الوداع يا فروق. وسلام الله عليكِ وعلى بنيك كلهم. هذا طريد جديد. مظلوم يلحق بمظلومين. يخرجونني منكِ ليلاً لأراك في ثوب حدادك. أمن أجلي كل هذا؟ كلا. بل حدادكِ على أختكِ الغزالة. أنا أضْيَعُ فيك من دمعة على خد مهجور. أنا أهون على الدهر من ذرّة من ذراتك ضلّت بين ثنيات الأثير. . .
ما هذهِ بلاغة الواصف ، إنْ هيَ إلَاّ حقيقة الموصوف!
رويداً رويداً أيها الدَّهر! ترفَّقْ بفروق؛ أقصر خطوَبكَ عنها. فروقُ بنت الأجيال الطويلة؛ مدينة الإمبراطرة ، وكرسيّ السلاطين. أفي كلّ يومٍ نكبةٌ تروعها ، وفي كلّ ساعةٍ كارثة تساق إليها؟ بنوها يتآمرون على بنيها؛ وشعوبها تقاتل الشعوب دفاعاً عنها. لوثوا محاسنها بالدمِ المسفوك على مذابح المطامع والأنانية؛ ضجَّت الأرض لهول ما تلقاهُ من فظائع حربهم ، واتخمت ذئابُ الفلاةِ من أشلاءِ قتلاهم!
رويداً أيها الدهر! هل أتعب مرورُ الأجيال كاهل بيزنطية؟
خذ بيدها! إن أنقاضها تتحرّك تحت فروق!!