الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مسز لوتي
حادثة محزنة جرت في ضواحي الاسكندرية
بقلم أديب مصطاف في كبوسيزاره
عرف الدكتور لوتي ، طبيب الأسنان الأميركيُّ الطائر الصيت في الإسكندرية ، الفتاة آسين. يزبك في بيروت منذ ثماني عشرة سنة أو أكثر مدبّرةً لمنزل طبيب أميركيّ يحترفُ طبَّ الأسنان مثلهُ ، تعاونهُ آناً في مستوصفهِ ، وتعاون زوجتهُ آناً في تدبير منزلها. واتفق أنَّ ذلك الطبيب شاخ واغتنى من صنعتهِ ، فترك للدكتور لوتي مستوصفهُ ، وانتقل مع عائلتهاِ إلى الولايات المتحدة ، وانتقلت الفتاة آسين إلى منزل والدتها ، وبعد أيامٍ أدرك لوتي قدر حاجتهِ إليها ، بالنظر إلى حداثة عهدهِ في بيروت وجهلهِ بلغة البيروتيين ، فطلبها ، فأجابت والدتها:
أنت أعزب ، وهذه بنتٌ ، وليس من عادات البنات في الشرقِ أن يعاشرنَ عزَّاباً
قال: إني إذاً أخطبهاو وهذه يدي!
فمدّت الفتاةُ إليهِ وصافحتهُ ، وأصبح لوتي وآسين من تلك الساعة خطيبين ، كلٌّ منهما مؤتنسٌ بالآخر وراضٍ عنهُ كلَّ الرضي.
ثمَّ رأى لوتي ، بعد عقد الخطبة ، أنَّ بيروتَ أضيقُ من أن تسع مطامعهُ ، أو تُبلغهُ الشهرة التي تصبو إليها نفسهُ ، فقرَّر السفر إلى الإسكندرية والإقامة فيها. وكاشف خطيبتهُ ووالدتها بعزمهِ ، واقترن قبل سفرهِ من بيروت بالآنسة آسين حتى لا يفصلها عنهُ عائق. ثمَّ ركب وإياها البحر إلى الإسكندرية ، وأصبحت آسين من تلك الساعة مسز لوتي.
ولقد حققت الأيامُ للطبيب آمالهُ في الإسكندرية قطارت شهرتهُ ، وكثر الإقبال عليهِ من جميع أحياء المدينة ، حتى ضاق مستوصفهُ بالوافدين إليهِ. وكانت آسين تعاونهُ في أعمالهِ ، كما كانت تعاونُ قبلهُ الطبيب الشيخ في بيروت؛ وكانت المحبةُ تزدادُ بينهما على مرّ السنين حتى أصبحا مضرب المثل في ذلك بين جميع المعارف والأصدقاءِ. وولدت آسين خلال ذلك ولداً وثلاث بنات ، فازدادت بولادتهم روابط المحبة بين الزوجين ، وأصبح لوتي لا يترك مستوصفهُ إلاّ إلى زوجهِ يباسطها ، وإلى أولاده يلاعبهم ويداعبهم. ومضى أربعة عشر عاماً وهذه حالها من الغبطة والهناءِ ، لم يتكدَّر صفوهما ، ولا تسرَّب إلى قلبيهما همٌّ.
وبينما هما بحبوحة الرغد إذا بوالدة لوتي قدمت من الولايات المتحدة لتزور ولدها فلما اجتمعت بهِ وبزوجهِ وأولادهما ، نفرت من الزوجة وانعطفت على الأولاد ، وانطلق لسانها في تعبير أمهم وتحقيرها في أعينهم ، هازئة بها وبجنسيتها قائلة: أنتم أميركيون ، يشرّفكم انتسابكم إلى أبيكم ، ولا يحطّ من قدركم إلاّ أن يعرف الأميركيون أن أمكم آسين! وقد تمادت في تنفيرهم منها ، بل حرَّضتهم على مقاطعتها والترفع عن ملازمتها ومصاحبتها في الزيارات وأمام أعين الناس.
كانت آسين نرى وتسمع ذلك كلهُ فتكتم الكمد وتظهر الصبرَ والجلد؛ ولم تكاشف زوجها بشيء مما تعانيه ، ولا خاطبت حماتها بكلمة عتبٍ أو ملام ، إلى أن اعتراها ذهولٌ شديد ذهب بلبّها وأفقدها صوابها. فحار زوجها في علتها ونقلها بيديهِ إلى المستشفى وأقام ساهراً عليها. وكأنما شعورها بعطفهِ وحنانهِ كشف عنها ذلك الذهول ، فلم يمضِ عليها أسبوعان حتى عاد إليه صوابها. وكأنَّ ما أصابها خلق في
نفسها قوَّةً لم تكن فيها من قبل فباحت لزوجها من جهةٍ ، وللقنصلية الأميركية من جهةٍ أخرى ، بما تفعله حماتها في منزلها مما كان سبب علتها. على أثر ذلك ردّ الدكتور لوتي والدتهُ إلى الولايات المتحدة ، وردّ غيابها إليهِ وإلى زوجهِ وأولادهما تلك العيشة الهنيئة التي كانوا فيها من قبل ، غير أنها لم تطل أكثر من أربعة أعوام إذ عادت أم لوتي ، وقد عقدت عزيمتها على السفر بولدها لوتي ، وأبنائهِ الأربعة دون أمهم إلى الولايات المتحدة. وكان الولد قد بلغ السادسة عشرة من عمرهِ ، وبلغت البنت الكبرى الثامنة عشرة ، والصغرى الرابعة عشرة. فاستأنفت سيرتها الأولى مع الأم والأولاد ، وزادت عليها أنها اغتنمت فرصة بلوغ البنات لتشويقهنَّ إلى التزوُّج من بعض الأغنياءِ الأميركيين ، وتمكنت من استمالتهنّ إليها. ولم ترَ آسين من زوجها في هذه المرَّة عطفاً في شيء ، ولم تكشف له عن سريرتها لاعتقادها أنهُ لا تخفي عليهِ خافية من أمر أمهِ وأعمالها وأقوالها ، بل لزمت الصمت ، وتولتها الكآبة والحزن ، ودبَّ في فؤادها اليأس والجزع ، وباتت منغصة العيش تقضي الليالي سهداً وبكاءً ، وتصبح حيرى يتنازعها عاملان بين أن تنتصف لنفسها من حماتها وتظهر سلطتها في منزلها وعلى أولادها ، وهو العامل الأول ، وأن تضحي نفسها فدّى لفلذات كبدها ولوالدهم الذي أحبتهُ وأخلصت له الودّ ، وهو العامل الثاني. ومضت عليها أيام في هذه الحيرة حتى أخذ الجزعُ
منها كلَّ مأخذ ونحل جسمها ووهنت قواها إلى حدّ أنها عافت الطعام والشراب ، وعجزت ركبتاها عن حملها ، فارتمت في مخدعها خائرة العزم ، وقد غلب عليها العامل الثاني. ولو علمت في تلك الساعة بأنّ زوجها نسي حبها واشتغل قلبهُ عنها بحبّ أخرى من النساءِ لباحت بما تكتمهُ ، بل لربما كانت اختارت العامل الأول. إلاّ أنها كانت تحبهُ حبّاً مفرطاً ، ولم يكن ليخطر في مخيلتها أنهُ يخونها في عهد أو ميثاق.
وفي غسق الليل الذي عقدت عزيمتها فيهِ على الانتحار ، أخرجت من خزانة أثوابها قميصاُ طرّزتهُ بيدها على أن تقدّمهُ في الصباح هديةً إلى زوجها في عيد ميلادهِ وفتحت نافذة غرفتها في كمبوسزاره وهي بقميص النوم ، وكان القمر في أتمّ لمعانهِ يتلألأ ضوءُهُ على صفحات البحر العجاج ، والأمواج تتلاطم وتتكسرُ على الصخور فيسمع لها هديرٌ يطرق الأذن ، وترسل في النفس بعض الرعدة والخوف. غير أن آسين لم ترتعد فرائضها ولم تنثنِ عن عزمها ، بل تراجعت وقد وطنت النفس على اتخاذ رحب البحر قبراً ، وأمواجهُ كفنا. ثم أغلقت النافذة واستدعت إليها بنتها الكبرى ، وسلمت إليها حسابات المنزل وما معها من النقود وقالت لها:
- إني مريضة يا ابنتي ، وقد بلغتِ أنتِ من العمر حدّاً يلزمكِ فيهِ أن تعلمي تدبير المنزل ، فاستلمي الحسابات
ثمَّ قبلتها ، واستدعت ولدها وابنتيها الأخريين وقبلتهم قبلة الوداع الذي لا لقاءِ بعدهُ. . .
وعند الساعة الحادية عشرة من ذلك الليل عادت إلى النافذة ، وكان أهل المنزل نياماً؛ فألقت نظرةً ثانيةً على البحر وأمواجهِ؛ ثمَّ أسرعت إلى الباب ، ففتحتهُ وانسلّت منهُ إلى الشاطئ حتى انتهت إلى مكانٍ يشرف على غورٍ عميق ، فألقت بنفسها إليهِ. وكان زوجها قد سمع ، وهو في مخدعهِ ، رنة الجرس في باب المنزل عند بضع دقائق ، ولم يسمع حركةً تدلُّ على دخول قادم ، فنهض وتفقد الغرف ، فلم يرَ زوجتهُ في غرفتها ولا في غيرها فانطلق إلى الشاطئ يبحثُ عنها ، فلم يرَ لها أثراً.