الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحفلة الإكرامية
لخليل أفندي مطران
حُيّيتَ يا وطناً القلوبُ إلى
…
أرجائهِ وبهِ الأرواحُ تغبطُ
شمسُ المعارفِ في علياهُ جامعةٌ
…
أطرافَهُ وهي فيما بينها وَسَطُ
ففي ذرى الأرْزِ حبلٌ من أشعَّتها
…
يُلقى وحبلٌ على الأهرام منبسطُ
إبراهيم اليازجي
في الحفلة التي أقامتها مجلة سركيس في الرابع والعشرين من الشهر الماضي ، احتفالاً بالأنعام على خليل أفندي مطران بالمجيدي الثالث ، تجلَّت هذه الشمس بأجلى مظاهرها ، وألقت من قرصها الذهبي المتقد أشعة الحبّ والوئام والصفاء على مصر وصوريا اللتين كان يمثلها في دار الجامعة نخبة الأدباء والفضلاء والوجهاء في القطرين الشقيقين.
المحتفَل بهِ رجلٌ عرفهُ عشراؤه بالمرؤة ودمائه الخلق وسعة الصدر وعفة اللسان والوفاء للصديق ، فأحبه الجميع. وكأن الشاعر عناه بقوله:
إذا كنتَ من كل الطباع مركّباً
…
فأنتَ إلى كل القلوب حبيبُ
هذه بعض صفات الرجل؛ أما الشاعر الذي في بُرْدَي خليل ، فقد عرَفتهُ النفوس خلَاّباً ساحراً ، والأفئدة محرّكاً مستفزّاً. شهدت له بكلّ ذلك نبضات قلوب قرَّائه ، كما شهد له إخوانه في الأدب بقوَّة بيانه ، وذكاء جنانه ، فاسمع ما قالوا فيه في تلك الحفلة ، وشهادة مثل هؤلاء حجة. قال حافظ بك إبراهيم:
قد سمعنا خليلكم فسمعنا
…
شاعراً أقعد النهى وأقاما
وطمعنا في شأوهِ فقعدنا
…
وكسرنا من عجزنا الأقلاما
نظمَ الشامَ والعراقَ ومصراً
…
سلكُ آياتهِ فكان الإِماما
فمشى النثر خاضعاً ومشى الشع
…
رُ وألقى إلى الخليل الزمانا
فعقدنا له اللواَء علينا
…
واحتفلنا نزيدُهُ إكراما
وما أبلغ هذه الشهادة إذا جاءت تزكيتها من حفني بك ناصف القائل:
يا شعر مطران لعب
…
تَ بلبّنا ونفثتَ سحرَكْ
للهِ ما أحلاكَ يا
…
سحرَ البيان وما أمرَّكْ
إن ملتَ يوماً للثنا
…
ءِ نثرتَ في الأسماعِ دُرَّكْ
وإذا استفزَّك عابثٌ
…
يوماً كفانا اللهُ شرَّكْ
وإذا هويتَ خلبتَ مَنْ
…
تهواهُ واستنزلتَ بدركْ
وقال نقولا أفندي رزق الله:
تأمّلْ كرافائيلَ وارسمْ فهذهِ
…
أمامَك دنيانا وأنتَ المصوِّرُ
صفِ الجوَّ والأفلاكَ والأرضَ والسما
…
وما تُظهِرِ الأيامُ منها وتُضمرُ
ترنّم ببتِ الشعرِ تُنعِشْ نفوسنا
…
فنحنُ ومن في الشرقِ نُصغي ونكبرُ
وقال نعوم بك شقير:
ويبدو كما شاَء في شعرهِ
…
فطيرُ الأراكِ وليث الأجمْ
إذا رامَ ذمّاً فجمرُ الغضى
…
وإن رامَ مدحاً فزهرُ الأكَمْ
فقلتُ: أشاعرُ هذا الزمانِ
…
خليلٌ؟ فقال الزمانُ: نعمْ!
وقال أحمد أفندي نسيم:
قوافٍ ، لو أنَّ الحسنَ صاغَحروفها
…
بعقدٍ ، لكانت لؤلؤاً وزبرجدا
ولو سمعتها الطيرُ في وكناتِها
…
لقالت هديل الشعرِ عاد وغرَّدا
ففي شعرهِ روحُ المهلهلِ تارةً
…
وآوانةً روحُ الوليدِ إذا شدا
وقال أسعد أفندي داغر:
أمير القوافي الذي صيتُهُ
…
كشمسِ الضحى عمَّ تسيارهُ
فرنّت قصائدُهُ في العراقِ
…
وجابت تهامةَ أشعارُهُ
وفي مصر ديوانُهُ عامرٌ
…
ورهط البلاغةِ نظّارُهُ
كل هذه الشهادات الثمينة سجَّلها لمطران أستاذُ الشعر في هذا العصر إسماعيل باشا صبري إذ قال:
قلمٌ تصدرُ الحقائقُ عنهُ
…
حالياتٍ في أجملِ الأبرادِ
ولسانٌ يمسي يُدّبرُهّ فك
…
رٌ كبيرُ النهى كبيرُ المرادِ
وكان رئيس الحفلة وهلالها الساطع دولة الأمير الخطير البرنس محمد علي باشا شقيق مليك مصر ، فجاءت شهادته لوحدها جامعةً لشهادة الأدباء
والأصدقاء ، والشعراء والقرَّاء
فقال من خطبته النفسية:
ولقد سمعتُ منذ زمانٍ طويل بشهرة ذلك الشاعر الطائر الصيت ، فاتهجتُ بما وصل إليَّ من أفكاره السديدة التي تنبئُ عما هو عليهِ من علوٍّ في الهمة ، وثبات في الرأي ، ووفور في العلم. ولم يكن إعجابي بهِ لما أوتيهِ من المواهب الجليلة في دولة العلم فقط ، بل لما تحلّى بهِ أيضاً من الأخلاق الكريمة التي تحمله دائماً على سلوك طريق الاستقامة ، وتباعد بينه وبين التحقير للغير ، حتى صار بذلك محبوباً مرموقاً بعين الإجلال والاعتبار ، متأهباً لنيل المجد والفخار. . . ولستُ أدَّعي أن أقدّم لقراء الزهور في بضع صفحات كل ما قيل في هذه الحفلة النادرة وقد كلَّف سركيس جمعُهُ مئة وستين صفحة من مجلتهِ ، ولا أن أصف في سطور قلائل ما شهدتُ ورأيت في دار الجامعة وقد تقصر عن ذلك الصفحات الطوال. غير أنه لا يسعني إلَاّ أن أخصَّ بالذكرِ إخواننا أُدباء لبنان وسوريا ، فإنهم أحبوا اغتنام هذه الفرصة لأحكام الروابط الأدبية لمتينة التي تربط الأمتين ، فأوفدوا أدبيهم الكبير وشاعرهم البليغ شبلي بك ملَاّط ليمثلهم في هذه الحفلة ، فقام بمهمتهِ خير قيام ، وأنشد قصيدة عصماءَ اهتزَّ لها السامعون طرباً ، كما يحقُّ لموفديهِ أن يهتزُّوا لها عجباً ، وقد أكرمت مصر في شخصهِ الكرم أدباءَ المصريين للضيوف الأدباء حدّث ولا حرج. . . . أعود إل الحفلة فأقول: وقد أراد فريقٌ من أصدقاءِ خليل مطران
والمعجَبين بهِ أن يقدّموا له شيئاً غير الشعر غير الشعر الثمين والنثر الغالي؛ فأهدت إليهِ السيدة النبيلة مدام تقلا باشا والدة صاحب الأهرام ديوانه مجلداً في غلافٍ نفيس من الفضة المحلَاّة بالذهب فكانت الهدية غايةً في الذوق اللطيف ، وأهدي إليهِ سعادة عبد الله باشا صفير قلماً ذهبياً ، رمزاً إلى التبر الذي يسيل من قلم الشاعر ، وقدَّم إليهِ عزتلو حبيب بك لطف الله النيشان المجيدي المنعم عليهِ بهِ. وحمل إليه مندوب سوريا من سعادة سليم بك أيوب ثابت ساعةً ذهبية جميلة. وأهدت إليه السيدة الفاضلة لبيبه هاشم صاحبة مجلة فتاة الشرق أبياتاً من الشعر في إطار جميل كتبتها بخطها الظريف.
وقدَّمت له الكاتبة الشهيرة الآنسة مي باقةً جميلة - في شكل خطبة غراء - جمعت أزهارها من رياض الخيال ، ورياحينها من حدائق الشعور ، فعطَّر شذاها الأرجاء وأنعش الأرواح. هذا بعض ما جمعتُه لقرائي عن تلك الحفلة التي تحدَّثت بها أنديتنا ومجتمعاتنا
الأدبية كل هذه الأيام. أما صديقي سليم سركيس فكل ثناءٍ عليهِ يظلُّ همته وتفانيه وكفاه بنجاح فكرته مدحاً وتقريظاً. ولئن كان الخليل أهلاً لكل ثناءٍ قيل فيه فإن السليم الذي كان زنبلك كل هذه الحركة يستحقّ أيضاً حظّاً وافراً من الثناء. وقد بتنا نتوقع له نصيباً من إنعامات أمير النيل لنعقدّ له حفلة لم ترَها عين ، ولم تسمع بها إذن ، ولا خطرت على قلب بشر.
عصا حافظ وجزمة الشميّل
حافظ إبراهيم وخليل مطران يشتغلان الآن معاً بترجمة كتاب علم الاقتصاد للكاتب الفرنسوي ليروى - بوليو؛ فتراهما يروحان ويجيئان بين المكتبة والمطبعة ، ويبحثان وينقّبان عن لفظةٍ عربية تؤدّي معنى الاصطلاحات الأفرنجية. وليس ذلك دائماً بالأمر السهل؛ وسأعود إلى زيارة التفصيل عن هذه المساًلة في جزءٍ آتٍ. ولم أذكر اليوم كتاب علم الاقتصاد إلاّ عَرَضاَ فقط ، لأنهُ جمعني في 6 أبريل الماضي بأحد نصفي المعرّب حافظ بك إبراهيم ، فلمحتُ في يدهِ عصا عليها شارةٌ نُقِشَ فيها تاريخ إهدائها إليهِ ، فإذا هو 6أبريل 1907. اتفاقٌ غريب! وأغربُ منهُ أن تلك العصا قد رافقت حافظاً ستة أعوامٍ كاملة ، سلمت فيها من البيع والرهن والسرقة.
عجباً له فظ العنانَ بأنملٍ
…
ما حفظُها الأشياَء من عاداتها
ولعلّي أدركتُ السرَّ في بقائها ، فهو يهشُّ بها على غنمهِ ولهُ بها مآرب أُخرى: فبها يضربُ القوافي فتتفجّرُ لَهُ سحراً حلالاً ، كما كان موسى يضربُ بعصاهُ الصخرَ فيتفجّرُ لهُ ماءً زلالاً. أو لعلَّ عصا حافظ لها منزلة من نفسهِ كمنزلة جزمة الدكتور شميّل ، وقد أودعها كلّ ضروب الفلسفة. وحكاية هذه الجزمة أنني زرتُ يوماً الدكتور الحكيم برفقة رهطٍ من الأدباء ، فوجدناه في غرفة عيادتهِ جالساً إلى مكتبهِ ، وهو في ملابس البيت؛ فحادَثَنا وحادثناهُ مدةً؛ ثم اشتدَّ الجدالُ على مسألةٍ من المسائل ، فقال الحكيم هازلاً دعوني أشدّ جزمتي ، فأكون أقوى حجةً ، وأكثر استعداداً للمناقشة قال ، ونهض إلى مخدعهِ ، وعاد على تمام الأهبة بعد أن شدَّ جزمتهُ ، فقلت له: قد أدركتُ سرَّك يا حكيم ، وعرفتُ مواطن الضعف فيك ، فإنَّ منزلة هذه الجزمة