الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
انتقام النسيم
من أرباب النظيم
لسعادة سليم بك عنحوري الدمشقي شهرة واسعة في الأدب. فهو شاعر قدير وكاتب مجيد ، وله من الآثار في هاتين الصناعتين ما تناقلته المجلات والصحف العربية من كل مكان. وقد أراد حضرته - وهو نزيل مصر اليوم - ألاّ يحرم الزهور من نفثاته ، فبعث إليها بالمقال التالي. قال: لستُ أدري وأبيك ما سرُّ هذه الصحبة القديمة القائمة بين الشعراء والنسيم منذ عهد امرئِ القيس فآتياً ، ولا ماهية تلك العلاقة الرابطة بين هذه النسمات الرقيقة ، بين رصفائي أمراء الكلام ، فإنه لم يكفهم ، وهم أرباب الذوق ، وسادة اللطف ، بل هم وحدهم الناس على مذهب شاعر الأمير الذي يقولك
جاذبتني ثوبي العصيَّ وقالت
…
أنتم الناس أبها الشعراءُ
أنهم يتنسمون النفحات الهابة من مواطن الأحبة ، فيتبردون بأنفاسهم التي توليهم طيباً ، وهم يكسبونها من زفراتهم المتوهجة بالوجد شرراً ولهيباً. ولهم يرضهم إن يتخذوا النسيم بريداً ورسولاً يحملونه السلام ، ويستقضونه لبانات الغرام ، وهم يكلمونهُ بصيغة الأمر كأنهُ بعض الخدَّام كما فعل صاحبنا ابن زيدون في قوله يتغزل بولادة الأندلس:
ويا نسيم الصَّبا بلّغ تحيتنا
…
من لو على البعد حيَّا كان يُحينا
بل يعرّضونه بسبب هذه الرسائل السمجة للخزي والطرد والحجاب كما فعل ابن ماني ، بحسب إقراره عن نفسه إذ قال:
حجبوها عن الريا لأني
…
قلتُ يا ريح بلّغيها السلاما
لو رضوا بالحجابِ هانَ ولكن
…
منعوها عند الوداع الكلام
فإنهُ لولا رسالتهُ تلك ما حجب الرياح أحد عن الاستمتاع بملامسة ذلك المحيَّا الفتان ، ولم يقنعهم إنهم يبثّون تلك النسمات الشكوى ، فتقاسهم البلوى ، وتشاطرهم الكمد ، وتعتلّ لاعتلالهم ، وترثي لحالهم ، ما جرى لابن هاني القائل:
ومرَّ بيَ النسيمُ فرَقَّ حتى
…
كأني قد شكوتُ غليه ما بي
أي نعم ، لم يكفهم ولم يغنِهم كل هذا حتى زادوا - على ما اشتهر من رقتهم - غلطةً ، وتمادوا بفضولهم حرصاً وأنانية ، فطفقوا يسومون تلكم النفحات الطيّبات حملَ ما تتقاصر
دونهُ هممُ الرجال وتنوءُ ببعضهِ قلل الجبال. فقد زيَّن ، للوزير مجد الدين الطغرائي ، الغرورُ بما نال من شرف الوزارة ، مضافاً إلى مزية اللسن ، وحلاوة النظم ، وشدة العارضة ، أن يسخّر الريح لتي يلوح من تضاعيف كلامهِ أنهُ طالما استخدمها في قضاء أغراضهِ الغرامية ، وحاجات نفسهِ السرية ، بأن تقيم بين الأصداغ والطرر وتشوشها ، وتنتهز الفضلات ، وتتحين الفرص لتحوم حول الثغور وتقبّلها. ثم تسلك بين الأجسام والغلائل ، وتستبضع من ذلك الحانوت الحافل بكل شائقٍ رائق ، ما يطيب بهِ خاطر الوزير ، وترفرف عليهِ أمانيُّهُ ، ثم تأتيه على مهلٍ ، مستترة بأجنحة الليل الهادي ، فتنبههُ من نومهِ اللذيذ الهنيء وتنتفض عليهِ انتفاضاً ، لعل نفحة الطيب المستمدة من ذلك البدن خصيب الرطيب تقضي لبانات فؤادهِ المعنى الكئيب. وإن كنت ،
أيهذا القارئُ اللبيب ، في شكٍّ مما أقول توهماً منك أن رجلاً كالطغرائي الذي يقولك
أصالة الرأي صانتني عن الخطَلِ
…
وحلية الفضل حلّتني لدى العطلِ
لهو أعقل وأدهى وأمتن وأرصن من أن يسترسل على مثل هذا الهذر والفضول ، فإليك أبياتهُ بحرفها الواحد تقرأها فتزداد يقيناً:
بالله يا ريح إن مُكّنتِ ثانيةً
…
من صدغهِ فأقيمي فيهِ واستتري
وراقبي غفلةً منه لتنتهزي
…
لي فرصةً وتعودي منه بالظفرِ
وباكيري وِرد عذبٍ من مقبّلهِ
…
مقابل الطعم بين الطيب والخصرِ
ولا تمسّي عذاريهِ فتفتضحي
…
بنفحة المسكِ بين الوِرد والصدرِ
وإن قدرتِ على تشويش طرَّتهِ
…
فشوشيها ولا تبقي ولا تذرِي
ثم اسلكي بين برديهِ على مهلٍ
…
واستبضعي وانثني منهُ على قدرِ
ونبهيني دون القوم وانتفضي
…
عليّ والليل في شكٍّ من السحرِ
لعلَّ نفحة طيب منكِ نائبةٌ
…
تقضي لبانة قلب عاقرِ الوطرِ
ولقد صار - جنابهُ العالي - مثالاً حسناً جرى عليهِ بعدهُ كثيرون ، وفي جملتهم المرحوم فرنسيس مراش الحلبي. بل زاد هذا على طنبوره نغمة أخرى إذ قال:
نسيم الصبَّا عن سرتِ بين نهودها
…
خذي ليَ غرفَ الياسمين وعرّجي
وإن ترفعي ذاك اللثامَ فتلثمي
…
لماها فبالله اذكري قلبيَ الشجي
ومن العجيبِ أنَّ أحد هؤلاء المتنطسين تمادى في تمادى في تحامله ، وزاد في غلوائهِ ، حتى أتهم تلك النمساتِ الطيبات بارتكاب الجنايات إذ قال:
خطراتُ النسيم تجرحُ خدَّي_هِ ولمسُ الحرير يُدمي بنانَهْ
كأنَّ الرياح ذات سيوفٍ ورماح ، تجرح من تحبُّ ، وتقتل من تريد بلا حساب ، وما عليها من جناح. بل أضاف بعضهم على ذلك فحسبها ممن يحبلنَ ويلدنَ فقال:
قد رقَّ حتى خلْتُهُ
…
بحشي النسيم تخلَّقا
فهل سمعت بربّك أو رأيت مثل هذه الصقاعة والرقاعة؟؟؟ والانكى من كل هذا أن تلك الحالة على بردها وثقلها ، وانتقادها الشديد على أصحابها ، قد لجّ بنا داعي التقليد والحرص على التحدي ، أن نتلبس بها ، ونزاولها فقلنا ، ونحن نتوب إلى الله من هذه الوصمة:
يا نسيماً يأوي الغداة جنانا
…
حُورها العِيْن يستلبنَ الجَنانا
مازَجتْهُ أجسامنا وهي قَتلى
…
فاستردَّت أرواحها موتانا
وسرى في مسامّ صرعي الغواني
…
فاغتدى الكلُّ ناشطاً جذلانا
هل تموَّجتَ فوق سوسَن خدٍّ
…
ضمّ ورداً يجاور الأقحوانا
أو لمست النسرينَ حول جبينٍ
…
ألبستهُ ألبابنا التيجانا
أو تسللتَ بين بُردٍ ونهدٍ
…
فوق صدرٍ رمَّانهُ قد رمانا
أو تطرَّقتَ الأعضاد تمشي الهوينا
…
وحللتَ العروش والأيوانا
وسرقتَ الشذا المعّطرَ منه
…
وانتشقتَ الخزام والسيسبانا
وأتيتَ الرفاقَ تختال عُجباً
…
ثملاً من أنفاسها نشوانا
تتهادى ما بين نفحٍ وطيبٍ
…
صيَّر العقل صاحياً سكرانا؟
أي وربي فعلتَ هذا وإلاّ
…
من تراه أولاك ما أحيانا؟
ثم انظر ناشدتك الله إلى التحكم البادئ من شاعرٍ آخر يخاطب نسيماً جاءَهُ من نجد: