الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
انيبال
هو قائد من أهل قرطجنة ولد فيها سنة 247 قبل المسيح ومات سنة 183. يجدرُ بنا أن نعرضَ عن الكلام في حياة الإسكندر المكدوني الذاهبة على غير طائلٍ وجدري ، ونأخذّ في ذكر حياةٍ لا يفضلها حياةٌ نبالةً وحماسةً: ألا وهي حياة القائد انيبال فنقول: هو الرجلُ الذي أتاهُ الله جميعَ مواهبِ العقلِ ، وجودةِ الطبع ، وزيّنهُ بأفضلِ ضروب الاستعداد التام لإِتيان أشرفِ المساعي ، وأسمى الأعمال الخطيرة. وُلدَ في بيت قادةٍ اشتهروا بالذود والدّفاع عن استقلال مدينتهم ، حتى الممات. وكانت روحهُ كأنها نوعٌ من المعدن قد صيغَ في وسط أتون البغض والحقد المتّقد حول رومه بجزلِ مطامعها. وإذ بلغ التاسعةً من عمره فارقَ قرطجنة وصحب أباهُ إلى حيث كان منتوي أجداده قصدَ أن يحيا ويموتَ في محاربة الرومان. فدلَّ ذلك أن الأعمال الحربية كانت مرتاد أمانيهِ ومرمى هممهِ. فاعتاد منذ صغره الرُّقادَ في ساحات الوغى. ومواطن القتال ليكفَي بهذا الاعتياد الوجعَ في عُنُقهِ من تعادي خَشِن الوساد ، وفي سائر جسمه التبرُّم من الاضطجاع على مثل شوك القتاد وليأمن مظانَّ المخاوفِ ، ويتمرَّنَ لبُّهُ على تدُّبر الأَعمال الحربية بحيث يكون ، في أعظم الأهوال وأشدِّ الحروب ، أفضلَ من غيرهِ في أصفى الأحوال والأوقات. ثم بعدَ وفاةِ أبيهِ أميلكار العظيم ، وصهرهِ أسد روبال اللذينِ قضيا نحبهما قتيلين في حومات الوغى ، انتخبه الجيشُ القرطجنب قائداً عاماً ، مع أنَّ سنيهِ لم تتجاوز الست والعشرينَ إذ ذاك ، خلافاً لرأي مجلس الملاء القرطنجي ، لأنهُ كان ينفسُ على بيت بركا - بيت انيبال - عظمَ مكانتهِ وشهرتهِ. ولما استولى انيبال على قيادة الجيش جعَلهُ مثلهُ ممتلئاً حقداً وحنقاً على الرومانيين ، ومُحرِزاً إقداماً وثباتاً بليغين. ثم زحف بهِ في أكباد أوروبا ، وكانت
حينئذٍ مجهولة المسالك ، كأواسط أفريقية الآن ، واجتازَ جبالَ البيرينه وجبال الألّب في ثمانينَ ألفَ جنديّ ، وقد فقد منهم أكثرَ من خمسين ألفاً في مسيره الشاقّ الشاسع الخارق العادة؛ واستمرَّ سائراً لا تصدُّهُ الصعابُ والعقباتُ المتنوعة اعتقادَ وجوبِ محاربةِ رومه في بلادها ، للتمكن من الاستحواذ عليها ، إلى أن دخل إيطالية ، مشيراً على رومه أتباعها ورعاياها فوثب على القواد الرومانيين واضطرَّهم إلى مزايلة مراكزهم ومعسكراتهم الحصينة ومنازلتهِ ، بتظاهرهِ باستصغار شأن بعض القوَّاد ، والاستخفاف بقلة شجاعتهم ، وبما زيَّن لكبرياء وخيلاء قوم آخرين منهم؛ وما زال بهم حتى ظهر عليهم شيئاً فشيئاً وكاد يكتبهم
ويقهرُهم كافةً ، لولا أن تصدَّى له قِرنٌ مكافئ له في الشدّةِ والبأسِ ، وهو فابيوس الذي أشار بأنَّ من الواجب أن يُقاوم هذا الجبارُ يس بقوَّةِ السلاح في وقائع حرب لا يطمع منها بالغلبة عليهِ ، بل بفضل الثبات الذي هو من فضائل رومه الحقيقية. ولما رأى انيبال غلطهُ بانكالهِ على الغالبين لعدم ثباتهم ، وتحقق عدمَ إمكانهِ أخذ رومه ذهب إلى جنوب إيطاليا ، وكانت البلادُ ثمَّةَ متمدّنة وحكوماتها متآلفةً من مجالسِ أشرافِ مستبدَّةٍ برعاع الشعب ، فخضد شوكة الشرفاء مع كونه شريفاً ، وسلّم مقاليدَ الحكومة إلى لشعب ، وجعل مدينة كابو عاصمة حكومتهِ ، متباعداً نزيها عن الملاهي والملاذّ خلافاً لما توهم أو أوهم كثيرٌ من المؤرّخين ، إذ أنهُ لم يكنِ يعرفُ مواردَ الترَفِ والتلذّذ ، ولم يذّقْ طعمها في كل حياتهِ. ثم جدَّد نشأةَ جيشهِ وأغناهُ بمسلوبات فتوحِ البلدان. وما منعه خذلانُ أهل وطنهِ إياهُ أن استدعى إليهِ بشعوب الأرض وشبَّ الحربَ في اليونان وآسيا مستثيراً سكان الدنيا قاطبةً لمقاومة الرومان. وما زال مدَّةَ اثنتي عشرة سنة فاتكاً بكلّ جيشٍ روماني يخرُج لقتالهِ ، ولهُ من نفسهِ ناصرٌ معين ، وهو رابط الجأش ، رسوخ القدم في إيطاليا ، حتى أنَّ الرومانيين باتوا قانطين من جلائه عن بلاد إيطاليا. ولكن أنى يومٌ نقلوا فيهِ مراكزَ القتالِ ومواقفهُ إلى أفريقية ، تحت أسوار قرطجنة ، فاستغاثت بهِ مدينته ، فخرج يقاتلُ العدو بجيشهِ المتضعضع جيشاً منظماً
جديداً ، فنكص جدُّهُ الباسق ونقص حظّه السابق ، فلم يجد بدّاً من أن يدين لسيبيون الجديد الطالع نزولا على حكم الدعر وتقلبات الأيام ، فعاد متحسراً متقطعاً إلى وطنهِ ، وجعل يسعى في لمّ شعثهِ وإصلاح أحواله ، ليصيرَ قادراً على نزال الرومانيين كرةً ثانيةً. ثم وشى بهِ مواطنوه المتلبسون بالجور والاستبداد تشيعاً للرومانيين ، ففرَّ إلى المشرق لائذاً بحمى أنطويوخوس الكبير ملك سوريا. ثمَّ لجأ من مداومةِ القتالِ ، فتناول سمّاً وقضى بهذا السبب. وهو آخرُ بطل من أبطال عشيرته لأنهم بأجمعهم ماتوا ميتتهُ أحراراً في سبيل هذا القصد المقدَّس ، وهو مدافعة التسلُّطِ الأجنبي ومقاومته. ومن الممتنع إيجادُ مظهرِ ضعفٍ في تضاعيف حياة هذا الرجل العجيب المتحلي بكل مزايا المرؤة والعقل والإِقدام. أجل لا يستطاع التماسُ مثلِ هذا الضعف أو هذه النقيصة. ونحن نحاول فيهِ وجود ميل ذاتي كحبّ المال أو الملذَّات أو الطمع أو غيره ولكن لا نجدُ في الرجل إلاّ ميلاً واحداً وهو بغضهُ أعداء وطنه. قد نسب إليهِ تيت ليف المؤرخ الروماني
البخلَ والقسوة ولكن تهمتهُ هذه في غير محلها. نعم إن انيبال قد جمع أموالا طائلة ، ولكنه لم يستعملها قط لأغراض ذاتية ، وإنما كان يخصصها لدفع رواتب جيشهِ. قلنا إنَّ أهلَ وطنه كانوا قد تركوا نصرتهُ ، والجيش المذكور لم يعصَ قط أوامر قائده انيبال ، لما له من السطوة والهيبة والحكمة خلافاً لأمثاله من الجيوش المؤلفة من جنود غرباء وعصابات بربرية مختلفة الجنسية والوطن واللغة. وقد