الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 37
- بتاريخ: 1 - 10 - 1913
فردي
رواية عائدة الأوبرا الخديوية
نبغ في إيطالية طائفة من رجال الفنون الجميلة شرَّفوا اسم بلادهم ، وأعلوا مقامها بين الأمم ، فأولوها فخراً لم تنله هي ولا غيرها بالحروب والفتوحات الجسام. ولقد ينقلب وجهُ العالم السياسيّ فتبيد دولٌ وتُشاد دول ، ويبقى لإيطالية المجدُ المؤثّل والعزُّ الوطيد ، ما دام للشعر والموسيقى والتصوير دولةٌ ورجال ، ودولة هذه الفنون الجميلة دائمة ما دام للإنسان قلبٌ يخفق ونفسٌ تتعشَّقُ الجمال. تحتفل تلك البلاد في هذه السنة بعيد فردي أحد نوابغها المشهورين في عالم الأتغام ، بمناسبة مرور قرن كامل على ولادتهو ولا تسلْ عن معالم الأفراح وحفلات التكريم التي تُقام في هاتيك الربوع احتفاءً بذاك اليوم السعيد. وهكذا الأمم الحيَّة الراقية تكرم ذكرى رجالها النوابغ ، فتبعث في صدور أبنائعا روح النشاط والهمة.
ليس فردي بالرجل الغريب عنا حتى ندعَ عيدهُ يمرُّ دون أن نقول فيهِ كلمة ، ونطرح على ضريحهِ باقةً من الزهر أسوة بسائر الأمم التي هبت لتكريم ذكرهِ. فهو مؤلف عائدة وعائدة أول رواية ملحّنةٍ ظهرت على مسرحنا الوطني الأكبر الأوبرا الخديوية وضعها بناءً على طلب خديوي مصر الأسبقو وجعل وقائعها في مصر ، ومثِّلت لأول مرة في مصر ، ولا تزال الأجواق الاوربية التي تجيء البلاد في كل شتاء تمثّلها بنجاح عظيم؛ لذلك رأينا أن نقول كلمةً في الرجل وأعمالهِ وروايتهِ وعلاقتهِ بنا.
ولد فرنسيس يوسف فردي في العاشر من شهر أكتوبر سنة 1813 في إحدى قرى دوقية بأرمه التي كانت تابعةً في ذلك العهد لإِحدى مقاطعات فرنسة؛ وكان والداهُ يُديران فُندُقاً صغيراً يُساعدهما دخلهُ على تربية أولادهما؛ فأظهر منذ حداثة سنةِ ميلاً إلى علم الأنغام والتوقيع. فكان يقصد في كل صباح كنيسة القرية فيخدم القَّداس ويتمرَّنُ مقابل ذلك على الضرب على أرغن قديم كان في الكنيسة. ولكي للبث أن أتقن كل الأنغام الدينية والترانيم الطقسية فعُهد إليهِ بإدارة جوقة الكنيسة. وكان مستخدما عند أحد باعة الخمور لقاءً راتبٍ يمكنهُ من القيام بحاجتِ معيشتهز وظلَّ على هذه الحالة حتى الثامنة عشرة من عمره. وكان صاحب الحانة نفسه مولعاً بالموسيقى فرأى في الفتى استعداداً لهذا الفن الجميل ، فوالاه بمساعداته تى مهّد له السفر إلى مدينة ميلانو والبقاء فيها ثلاث
سنوات كامة يأخذ الفنَّ عن
مشاخير أربابهِ. وقد اقترن في غضون ذلك بابنة مساعدهِ بائع الخمرو فكانت له خير شريكة في حياته. ولمَّا أنس فردي من نفسه الإِستعدادَ اللازم ، أخذ يضع قطعاً موسيقية ، ويؤلِّف روايات ملحّنة من المعروفة عند الإفرنج بالأوبرا. فلاقى نجاحا يذكر ، وعُرف اسمه بين كبار الموسيقين. ولم تكن العقبات التي لاقاها لتُضعف عزيمته ، أو تخمد نار همته؛ بل كان يواصل الدرس والعمل ليصلح من أسلوبه ، ويصقل أنغامه. فلحَّن في خلال سبع عشرة سنة عشرين رواية أشهرها: نبوكد نصَّر ، وأورشليم ، وهزناني ، ومكبث عن شكسبير ، وريجولتُّوا عن رواية مضحك الملك لفكتور هوغو وترافياتا عن لأدم أو كاميليا لدوس. وعظمت شهرتهُ على أثر تلحينه رواية مكبث فإنهُ تمكّن من أن يبرز بالألحان والأنغام تلك العواطف المتنوّعة التي عبَّر عنها شكسبير ببيانه السحريّ. ففي الليالي الثلاث الأولى لتمثيلها كان المسرح مكتظاً بالحاضرينو وقد أخذ الطرب منهم كلَّ مأخذ ، فكانوا يطلبون المؤلف كل ليلة فوق الثلاثين مرة ، وأركان القاعة تكد تتفوَّض من شدة التصفيق وهتاف الإِعجاب. وكانوا في ختام التمثيل يطوفون به المدينة ويرافقونه إلى منزله مهللين مكبرين. ورأى مواطنوهُ وجوب تكريم عبثريته فقدَّموا له أكليل غار من الذهب إشارة إلى تبوّئه عرش الموسيقى. ومن ثم نجاورت شهرة فردي حدود وطنه وعظم اسمه في أوربة ، فمثِّت رواياته في أكثر العواصم والمدن الكبرى.
وكما أن المصاعب التي لا فاها لم تقعد بهمته فكذلك لم يُسكره نجاه الباهر ، بل ظل عاملاً مجد يرتقي من الحسن إلى الأحسن. وهذا شأن النابغين.
وكانت مملكه سردينيا في ذلك العهد تسعى إلى إنشاء مملكة إيطالية الجديدة بخلع نير النمسة وتأليف الوحدة الوطنية الإيطالية. فلعب فردي دورا خطيراً في تلك الحوادث السياسية ، وكان ينتمي إلى الحزب الإِستقلالي فجاهد في سبيلهِ جهاداً مذكوراً. وكان الشعب يرى في رواياته تلميحاً ظاهراً وإِشارة بيّنة إلى الأماني الوطنية التي كانت تشغ أفكار ذلك الجيل؛ فساعد ذلك على بعد صيتهِ وانتشار شهرتهِ. وكان شعار حزب الاستقلال فيكتور عمانوئيل ملك إيطالية ` ومن غرائب الإتفاق أنك لو أخذت الحرفَ الأوَّل من كل كلمة من هذه الكلمات لكان لديك اسم فردي وهكذا ظلَّ اسمهُ مدةً شعاراً لطلاب استقلال المملكة الإِيطالية ، فكانوا ينادون به في جميع الاحتفالات القومية والمظاهرات
الشعبية. وعلى أثر تأليف مجلس النوَّاب الإِيطلي ، انتخب فردي عضواً فيه سنة 1861 وفي نوفمبر سنة 1874 انتخب عضواً في مجلس أعيان المملكة. ولما احتفلت إيطالية سنة 1889 بيوبيلهِ الماسي ، أرادت الحكومة أن تنعم عليهِ بلقب مركيز فأبى قبول هذا اللقب
وكانت وفاته سنة 1901. ومن أشهر رواياته عائدة التي سبقت الإشارة إليها في صدر هذا المقال وضعها بناء على طلب المغفور له الخديوي إلَاّ سبق سماعيل باشا ، وكانت أول روايةٍ مُثِّلت في الأوبرا الخديوية دسمبر سنة 1871 ولا يزال الكثيرون في مصر يذكرون تلك الحفلة الشائقة. ولا تزال رواية عائدة عروس المسارح وموضوع إعجاب محبي الموسيقى ، وقد ترجمها إلى اللغة العربية المرحوم سليم نقاش ، وهي من الروايات التي يمثلها الشيخ سلامة حجازي.
أما موضوعها فنلخّصه في ما يأتي:
وقعت عائدة ابنة ملك الحبشة أمونسرو أسيرةً في يد فرعون مصر. فأهداها إلى ابنتهِ أمنريس لتكون من وصيفاتها. وكانت على جانبٍ عظيمٍ من الجمال والظرف فنالت حظوة لدى مولاتها. وصارت في وقتٍ قصير صديقة حميمة لها بل أختاً محبوبةز ورآها رادامس كبيرُ قوّادِ فرعونو فأحبّها؛ وأحبتهُ لبسالته وكرم أخلاقه. فلم يلبثا أن تعاهدا على الود الدائم. وكانت امتريس ابنة فرعون تكتم في فؤادها لرادامس حباً شديداً فخامرها ريبٌ في أمرهما وأخذت تُراقبها سرّاً لتقف على دخيلة الأمر وقد آلت على نفسها أن تنتقم من عائدة إذا ما أيقنت من حبها لرادامِس. وفي تلك الأثناء زحف أمونسرو ملك الحبشة بجيوشه على مصرَ ، واستولى على طيبة فنهب وسبا ، فخرج عليه رادامِس من مَنفْ بجيوش جرّارة وهزمهُ شرَّ هزيمة ، ودخل طيبة منصوراً مثقلاً بالغنائم ومعهُ عددٌ كبيرٌ من الأسرى. وكان بينهم ملك الحبشة نفسهُ متخفياً بلباس ضابط. ثمَّ عاد القائد الظافر إلى منف حيث جرى له استقبالٌ باهر ، ووضعت على رأسه أكاليلُ الغار ، وأقيمت الحفلات الدينية في الهياكل شكراً للآلهة. وسأل رادامس فرعونَ مصر أن يعفو عن الأسرى ، فأجابهُ إلى سؤله ، وأطلق سراحهم جميعاً ما عدا أمونسرو فإنهُ أبقاهُ أسيراً مع عائدة وكان قد عرف أنهُ أبوها
وأراد فرعون أن يُجزل لرادامس المكافأة فعرض عليه أن يزوّجهُ ابنتهُ أمنريس على أن القائد كان لا يزالُ أميناً على عهد عائدة وقد عقد النية على الاقتران بها كيف كان الحال. فأوعز إليها أن توافيه ليلاً إلى مكان قرب هيكل
إيزيس. وكان أمونسرو قد عرف في مدة أسره شغف قائد المصريين بابنته ، فرأى أن يستخدم هذا الحبّ للتغلُّب على مصرو لاسيما وغن الحبشان كانوا يتأهبون لاستئناف القتال. فكمن للحبيبين قرب الهيكل ، وهكذا تمكن من أن يسمعَ القائدَ المصريّ يتفق مع عائدة على الهرب ويعين لها الطريق الذي سيسيران فيه لئلا يلتقيا بالجيوش المصرية الزاحفة لمقابلة الجيوش الحبشية. ولما ظهر من مخبإِه ذُعر رادامس وأدرك أنه خان
بلادهُ لأن عدوها أطلع على خطة الجيش. واتفق أن امتريس كانت في تلك الأثناء في هيكل إِيزيس ، وبينا هي خارجة مع الكاهن رأت المجتمعين وسمعت بعض حديثهم. فلم ير رادامس إلَاّ أن يسلم نفسه كخائن لوطنه ، وفاز امونسرو مع ابنته بالهرب أما رادامس فحكم عليه بأن يدفن حيّاً ، فعرضت عليه ابنة فرعون عفو أبيها إِن هو أعرض عن عائدة فأبى؛ ولما أُزل في القبر المعدّ لهُ وجد أن عائدة قد سبقتهُ إليه: فدُفنا معاً.
وقد وقفنا على العقد الذي وضع بشأن رواية عائدة فأحببنا أن نطلع القراء عليه ، والأصل محفوظٌ في سجلات الأوبرا الخديوية وهذه ترجمتهُ:
بين الموقعين أدناه:
مسيو أوغست مارييت بك باسم وإِذن سمو إسماعيل باشا خديوية مصر من جهة ، ومسيو جوزف فردي مؤلف موسيقيّ من جهة ثانية تم الاتفاق على ما يلي:
يتعهد مسيو فردي بتأليف موسيقي رواية ملحنة أوبرا مؤلفة من أربعة فصول عنوانها عائدة التي قبل بموضوعها مع حفظ حق التعديلات التفصيلية التي قد يوافق إِدخالها تُمثل هذه الأوبرا في تياترو الأوبرا الخديوية في القاهرة خلال شهر يناير سنة 1871.
ينظم أشعارها الإِيطالية شاعرٌ يختارهُ مسيو فردي ، ولا يكلف مسيو فردي الحضور إلى القاهرة لمراقبتها وحضور مراجعاتها ، بل يمكنهُ أن يرسل من قبله شخصاً يختارهُ لإِرادته العمل وإِعداده حسب رغائبه إذا وجد ذلك ضرورياًز بعد تمثيل عائدة في القاهرة يحقُّ لمسيوج فردي أن يمثلها في أوروبة على المسرح أو المسارح التي يختارها. يختار مسيو فردي في جوقة التمثيل الإيطالية الموجودة في القاهرة الممثلين الذين يقومون بأدوار الرواية. الموسيقي والكلام في رواية عائدة يكونان في مصر ملكاً تامّاً لسموّ الخديوي. يحفظ مسيو فردي لنفسه ملكية الكلام والموسيقى في سائر أقطار العالم يرسل مسيو فردي إلى مصر ،
أو يسلم في باريس في الوقت المناسب ، إلى مندوب سمو الخديوي نسخة ملحنة من موسيقى عائدة يتقاضى مسيو فردي مقابل هذا العمل مبلغ 150 ألف فرنك. يُدفع هذا المبلغ على قسطين: خمسين ألف فرنك يوم توقيع الاتفاق ، ومئة ألف فرنك يوم يسلم مسيو فردي أو يرسل إلى سمو الخديوي موسيقى عائدة. كتبت من هذا العقد نسختان في باريس في 29 يوليو 1870.
مقرٌّ بما فيه
الأمضاء: ا. مارييت