الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإنشاء المترهل
شرح الدكتور شميل يطبع كتابه حوادث وخواطر وأتيح لنا أن نقف على مقدمته فاقتطفنا منها الكلمة الآتية في انتقاد هذا النوع من الإنشاء الذي ضاع فيه فريق من كتاب العصر قال:
عنيتُ في الصيف الماضي 1912 بتقييد بعض حوادث مما مرَّ عليَّ ، وتَعليق بعض خواطر مما يعنَّ لي ، عسايَ أن أجد فيها ما أشغل بهِ أوقات الفراغ. وأفرّج كُرب العزلة. حتى إذا كاد الصيفُ ينقضي نشبتِ الحرب البلقانية ، فوقفتُ في تلك حيث وقفت ، وعلَّقت على هذه ما علَّقت. ثم ضممتُ إلى ذلك بعض ما تيسر لي العثور عليهِ من مطويٍّ لم يُنشر ، ومنشورٍ مبعثر. وجمعتُ الكل في هذا الكتاب ، فجاءَ من كل حرش عصا أو من كل نبتة زهرة على ذوق القارئ. وسمَّيتهُ حوادث وخواطر حوادث هي بعض مذكَّراتي في حياتي القليلة الاختلاط الكثيرة الاعتزال. إن لم تتسع للرواية فقد تستوقف بدقة التحليل؛ وإن أقفزت من القديم المأنوس فقد يكون فيها شيءٌ من الجديد الطليّ؛ وأن كثر فيها الجدُّ فقد لا تخلو من الفكاهة؛ وإن كثرت فيها المعلَّقات الخصوصية فلم أُهمِل من خلالها المرامي العمومية. حوادث لم أنقلها عن يومية مدوَّن فيها كلُّ ما كان يعرض لي كما يفعل البعض ، ولاسيما الإفرنج في مذكَّراتهم ، ولكنني اعتمدتُ فيها على ذاكرةٍ قلما تخونني في الوقائع ، وغن كانت كثيراً في التاريخ. وخواطر هي بعض أفكاري أُطلقها تجول في ما حولي ، وتمرُّ بي حتى أعماق نفسي ، وتنطق عن نظري الخاصّ ولو خالفت أحكامي أحكام سواي. وإن لم أدَّعِ لها العصمة فإني أربأُ بها أن تميلَ مع الهوى ولو لَقيَتْ ما لَقيَتْ من عواصف
العواطف الغالبة حتى الساعة على أفعال سائر الناس ، والمتمكنة فينا أكثر من سوانا على نوع خاصّ. حوادث وخواطر سردتها سرداً كما جاءَت غير متَّبعِ فيها نهجاً مخصوصاً. ولم أتعَّمل فيها غالباً لئلاّ يجمح بي جواد المبنى فيخرجني عن جادَّة المعنى. فهجرت الوحشيَّ الفحليَّ ، ولم أقع في الحضريّ المترهّل ، وتقرَّبتُ كثيراً من العامة ، عسى أن تكون البلاغة في ما كان أدنى إلى تبليغ المراد. قلت الحضريّ المترهّل لأني أرى اليوم مَيلاً كبيراً للتباري في نهج من الإنشاء إن أجاد فيهِ البعض فقد قلَّ فيه المفلحون. وإن حلا في بعض المواقف فمن المُصاب ما يُغثي. يترقق فيهِ اللفظ حتى لا يكاد يغشى السمع. يطوف على الأزهار ويناجي نفوس الكواكب ، ويستمطر دموع الملائكة ، ويثير أشجان القلوب.
ولكن يحار الجنان في فهمهِ إذا تقَّصاه إلى لبّه. فلا هو نشيد الأناشيد ، ولا هو مراثي أرميا ، ولا هو مصابرة أيوب ، حتى ولا هو تسبيح داود على قيثارتهِ. أو هو خليط منها يتلألأ ولكن كالبرق الخلَّب. ولا يبقى من جيّده في الذهن إلا أثر النسيم على صفحات الماء ، ومن رديئةِ إلا أثر الكابوس في الحالم. وشأنهُ في الحالين شأن الماس الكاذب ، فلا هو حليةٌ للتنافس ، ولا هو الفحم النافع باعتبار أن الماس الحقيقي فحم متبلور. كأننا لم نهجر التقعر الجاف إلا لنقع في الرقيق المائع. وبينهما ضحايا الفكَر مقتولة على مذبح هيكل العواطف الثائرة أو الذابلة. ولكم عرض لي وأنا أسمع هذا الشعر الجديد المنثور ، أن تذبل عيناي ، وتتدلى يداي ، ويتهادى ذراعاي ، كأنهما جناحان هبَّا بي للتصفيق ولكنهما هبَّا متكسرين كأني بهما الطير الواقع. وما الناس بحاجة إلى هذا التنويم المخدّر بعد ذلك أني تنزَّلت إليهم ، بل أريد أني تحديثُ الأسلوب الذي ينفتح للجميع على حد سواء ، بدون أن يُضطرَّ فيهِ إلى تعمُّل يوجبه التأنق في الإنشاء ، كثيراً ما يذهب بجهد الكاتب ، وقد يستمهل
فهم القارئ حيث يجب أن يُستحثّ ، ونحن إن لم نكن في عصر بالقياس إلينا فإلى عصر بالقياس إلى سوانا الوقت فيه ثمين ، عسانا أن لا نبقي مقيدين في الأغلال على الأجيال. واستعملتُ كثيراً من ألفاظهم التي تعبر جيداً عن المراد ، والتي إن وجد بعد العناء في معجم اللغة ما يقوم مقامها ، فقد يعزُّ حتى على الأديب مغزاه حتى يتقصاه مكانه ، والمقصود من الكتابة ليس الإغلاق. كما أني أثبتُّ كثيراً من كلامهم الجاري مجرى المثل ، لأن الأمثال حكمة الشعوب التي تعبر عن أحوالهم وَمجرى أفكارهم في كل أطوارهم. ونهجت نهج الأمم الراقية من متقدمين ومتأخرين ، ونهج العرب أنفسهم في أبَّان حضارتهم في مستحدثات الصناعة ومستنبطات العلم ، فلم أتحوّل عن مسمياتها في لغاتهم ، إلاّ حيث أمنت اللبس ولم أخشَ التشويش ، ولاسيما في هذا العصر الكهربائي الذي يتدفق فيه المستجد كل يوم تدفق السيل ، حتى صار التحوُّل عنهُ إلى أوضاع الاجتهاد خروجاً عن المأنوس المدرك إلى الوحشيّ المغلَق ، متبعاً في كل ذلك سنّة التحوُّل التي تتناول كل شيءِ في الطبيعة والإنسان في العمران ، والتي لا يقوى عليها حتى ولا الجامدون المتمكنون من جمودهم مهما جمدوا. حوادث وخواطر لم أدارِ فيها ولم أحابِ ، وإن أغضب ذلك النفوس التي لم تألف إلا الهدهدة. وإذا كنت أُكثر فيها الانتقاد أطلقهُ على ما حولي وأتناول بهِ حتى
نفسي فلأن الانتقاد يبعث على التفكير. عسى أن يغلب علينا ما لا نحبَّ مما يُحمد فنحسَّ بفكرنا لا أننا نفتكر دائماً بشعورنا وقلما تنجح أعمال العقل إذا غلبته العواطف. ولا أخشى حملات العقلاء ، فاحترام كل فكر ضروري لحياة الفكر. والإصغاء إلى كل نظر واجب. وأدفع حملات سواهم متستنصراً عليهم أبناءَهم من أصلابهم فهم الذين يثأرون منهم. يثأرون الإفراد المجنيّ عليهم والمجتمع الذي يسيئون إليهِ. وسرعان ما يكون هذا الاثئار اليوم.
الدكتور شميل