الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أزهار وأشواك
مصائب قوم
قرأتُ في الجرائد أنّ فريقاً من أقارب غرقي الباخرة تيتانيك التي يذكر القراء خبر غرقها منذ مدة في لجج الأوقيانوس ينوون أن يقاضوا الشركة أمام المحاكم ويطالبوها بالتعويض المالي. ويبلغ مجموع ما يطلبون ثمانية ملايين ريال أو أكثر. وفي مقدمة المطالبين بالتعويض - بل المطالبات لأن الأكثر نساء - مسز هريس فإنها تطلب 200 ألف جنيه مقابل غرق قرينها و 5500 جنيه قيمة الأمتعة التي فقدتها هي وفي جملتها عقد من اللؤلؤ ثمنه ألفا جنيه. ومنهنَّ مسز كاريزا تطالب بمبلغ 35 ألف جنيه ثمن ما فقدت من الملابس والحلي: بينها ماسة قرنفلية اللون قيمتها أربعة ألاف جنيه ، ودبابيس لبرنيطتها قيمتها مئة جنيه ، وجونلَاّ بيضاء قيمتها 19 جنيهاً!! ومنهنَّ مسز ملْت تطالب بمبلغ 20 ألف جنيه ثمن قرينها المفقود. ومسز فوتريل تطالب بمبلغ 60 ألفاً ثمن قرينها أيضاً وبمبلغ 20 ألفاً ثمن صورة بالزيت تمثّل جركسية في الحمام وبمبلغ 11 ألف جنيه ثمن 110 ألاف قدم من الرقوق التي تطبع الصور المتحركة عليها. ومنهنَّ الكونتس روذس تطالب بألفي جنيه مقابل أمتعتها الشخصية منها خاتم ماس ثمنه 200 جنيه. وبين أصحاب القضايا رجل وامرأته يطالبان بمبلغ 30 ألف جنيه عن ابن فقد هو وقرينته وأولاده كلهم. صدق والله الشاعر القائل:
بذا قضتِ الأيام ما بين أهلها
…
مصائب قومٍ عند قومٍ فوائدُ
من وليّ الدين
بين ولي الدين بك يكن وصاحَبي الزهور ألفةٌ بلا كلفة. وقد دارت بينهم مراسلة لطيفة منذ سافر ولي الدين إلى الثغر الإسكندري. واعقاد صاحب المعلوم والمجهول في رسائلهِ أن يجعل مدير هذه المجلة شخصاً واحداً بأن يشتقَّ لهما اسماً من شطرٍ من اسم هذا وشطرٍ من اسم ذاك. ولعلَّ في هذا الاشتقاق خير ردٍّ على الدكتور وغيرته. ومن محاسن الاتفاق أن وقعت بيدي آخر رسالةٍ كتبها ولي الدين ، فأحببت أن أضمها إلى أزهاري لما فيها من عرف الإِخلاص وأريج المودّة الصادقة ، قال:
رمل الإسكندرية - محطة مظلوم باشا في 7 مارس سنة 1913
أخي انطوان تقي الدين
أنا أسير الفراش من منذ آخر كتاب أنفذته إليك. وهذا الكتاب أسطّره على ذلك المضجع الخشن. طال أمد السقام وأوحشتني الصحة. ويا ليتني إذ لم أفز بالصحة فزت برقدة يستريح الجسم فيها. لا هذه ولا تلك. أفٍ لأحكام المقدور. قصارى الانتصاف أن أكون لديه صاغراً. مضت لياليَّ كلها في سهادٍ مطّرد. ما عالجتُ النوم مرّة ، قرَّبته مني قيد شعرة. أضطجعُ على سريري ، وآخذ الكتاب من الكتب أقرأهُ حتى آتي على آخرهِ. ولقد أقرأهُ وأنا لا أفهم ما فيهِ. تلك استعانتي على أهاويلِ الدياجي ، استعانة الضعيف بأضعفِ الحيَل. ولقد صبَّحتني اليوم زهورُك وأنا على سريري قائمٌ كأنف عبد الحميد على وجههِ. فإذا الزهور تبشّرنا باستهلال سنتها الرابعة - أطال الله عمرَ الزهور
وعمرَي كاتبيها وصاحبيها. الآن وجبت التهنئة. ولكن هيهات! لا يهبط الإلهام على الشاعر الموجع. أمَّا وصفك لفروق ونوحُك عليها ، فقد هزّا روحي هزّا. رعى الله فروق ما أفتنها. هي أوَّل ثغرٍ بسم لوجهي بعد ثغرَي الوالدين. ثمَّ لم ألقَها بعد ذلك إلَاّ باكيةً وباكياً. ائتلفت العناصر فقامت بها الأشياءُ. وقامت فروقُ من عنصر واحدٍ لست أُدري ما هو ، ولكنُّهُ عنصر يُظلم عنده الراديوم. كنت أشتاق إلى فروق لمضياع غير أن فروق ناشز لا تدوم على ودّ. ليتها م تكن. وليتها إذ كانت في دون هذا الجمال. عفا الله عنك! أثرتَ شجوني ، وأنا أكاد أعجز عن إجالة القلم ضعفاً. ولقد قلت:
ما لهذا السقام لازَمَ جسمي
…
حَلّ مني ما بينَ عظمي وجلدي
كلَّ يومٍ أذوبُ شيئاً فشيئاً
…
ولقد ذابَ قبلَ ذلك كبدي
فإذا صرتُ في التراب دفيناً
…
خبّروا الشعرَ أنهُ ماتَ بعدي
تعبتُ وكنت أودُّ أن لا أتعب ، لأحدّثك طويلاً ، لأُساجلك الدموع. وأنَّ أمامي لثلاث قصائد كاملة هي هديتي للزهور ولكني لا أستطيع نسخها ، وخطها مشوّش. فاصبر ، عسى أن تراجع الحياة شاعرها ، فيصدقك روايتها ، سلامٌ عليك وشكر لك على ما تولبني من العناية. ليس بشاعر. ولكنهُ رصّاص سرَّاق وهو ينسج على منوال الطبقة السافلة من أمثال ابن الفارض من الشعراء الحشَّاشين أو شعراء البديع. وما زال يعانق غصنَ ألبان والأراكِ حتى لواهُ - لواهُ الله!
أكرر سلامي وتحياتي. وافِني بأخبارك سلامتك
أخوك
ولي الدين يكن