الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مصارع الأدباء
بلغ من بغضيَ للشعر أن صرتُ أعرض عن سوانح معانيه في لوامع قوافيه. القاعد بالجدود عن منازل الشرف ، المتواكل بالعزمات عن بلوغ نهايات الأرب. إحدى فتن الخيال. تجري بها البدائة فتتلقَّاها مسامعُ بالقبول ، وتتلقاها مسامعُ بالملل أبعدْ به وبطلاّ به. يتهادى أمراءُ الذَّهب بين شوار وبين سبلندِدْبار تُساقِط أعطافهم الجنيهات ، ويطوفون حول معاهد الصبوة في عواصم الغرب من مُنْتْ كارلو إلى مُنْتْ كارلو. ثم يأوون إلى بيوتٍ كثرت فيها الديكة والحمائم ، ثمَّ يصبحون في لزباتهم يهبون المال في دعاوي ومخاصماتك فطلاق وزواج وميراث وشركة يتخلل ذلك كله لعب الورق واستشارة الوكيل وإدلال الكاتب ، وما أدراك ما الكاتب ، وبيع الأطيان واقتراض المال. بدرانٌ تفيض العسجدَ ، وتنفجر عن ذوب اللُّجين ، والشاعر يريد أن يبيع ديوانهُ بقرصٍ من الطعميّة فلا يجد مشترياً ، والكاتب يعرض دفاتره مجَّاناً فلا يرى قارئاً فسبحان الله! عَلَمٌ من أعلام العراق. هو أبو القصائد المحبَّرة والقوافي المحكمة. نزيلٌ بمصر ، مقيمٌ في دار حزنه يعالج أيامهُ ، ويعاني شدائدها وليس بمصر مَن يقول له أين أصبحتَ أيها الأديب العظيم؟ أحمد مفتاح رجلُ البلاغة ، يموت ويدفن ولم تكتب خبر وفاته جريدة من الجرائد فيما علمت. ومحمد إمام العبد وهو شاعر مجيد يوُسّدُ بالأمس التراب ، ولا يتقدَّم أحد ليقيم له ليالي مأتمه. وفي بلاد الغرب يصنعون التماثيل للشعراء ، ويسمّون بأسمائهم الشوارع والدوارع ، ويجعلون لميلادهم ولموتهم أياماً في كل سنة هي بمنزلة أيام الأعياد. ويقولون بمصر: الدستور والجلاء والمؤتمر ، وتكتب الجرائد ليحيَ وليسقط. من يحيى ومن يسقط أيها المساكين؟
لكل أمريء في هذه الأمة موضع يميّزه؛ والناس في درجاتهم متقاربون. وليس رجلٌ ينكره معارفه ، ويتجافاه أقرب أقاربه إلاّ الأديب. فهو إذا برَّز على أقرانه حسدوه ، وإن أقصر عنهم حقّروه ، وإن ولج جمعاً جالت فيهِ أبصار المستهزئين. وله في خلقه أناسٌ يفخرون بملابسهم ، وليست بصنع أيديهم ، ولا أنسجتها من نسجهم ، ولا أثمانها من كسبهم ، ولا زينتُها تجمل ما قبح من أشكالهم. أولئك يطاؤون الهامات ، ويذلّون الرقاب ، ويتهادون في كل مزدحمٍ ، تهاديَ الكواعب الرُّود في الوشي والبرود. طواويسُ الرجال يقضون طوال الأعوام في ديوان الحياة ، ثم يخرجون منهُ كما تخرج الأنعام من تحت السقائف ، لا متزودين ولا مستخلفين. إلى حيث ألقت رحلها! ننظر إلى الكتاب
المطبوع بإحدى اللغات الأجنبية فنرى مكتوباً على جلدهِ: الطبعة العشرون والطبعة الخمسون وأكثر من ذلك. وقد يكون عدد نسخ الكتاب ، في الطبعة الواحدة ، عشرة آلاف على الأقل ، وليس في الشرق كتاب طُبع مرَّتين إلاّ نادراً أو ما كان متضمناً للمجون. وجرائدنا يأكل مشتركوها أثمان اشتراكهم فيها ، ويكتفي قرّاؤها بنسخٍ يأخذوها من المشتركين ، أو يقرأونها في القهوات. قرأها أشهراً وأياماً. وأغرب منهم من جاءته جريدة الجامعة العثمانية وهي جريدة كانت تنشرها الجامعة العثمانية وهي بيروت ، وتعطيها من دون ثمن ، ويُكتب على غلافها مجاناً فردَّ الرجل الجريدة بعد أن كتب على غلافتها بالعربية والفرنساوية مرفوضة. رفضَ الفضل ورفض الكرامة. لا طال ذنب زمانه! ولم يخجله كرَمُ الذين أحسنوا بها عليهِ إحساناً لم يقع على مستحقّهِ ومثل هؤلاء المخلوقات كثير بيننا ولا فخر!
يموت أدباؤنا ، وتُطفأ أنوار المعاني في عقولهم ، وتبقى بيوتهم خاليةً وأجدائهم دائرة ، وليس فينا من تحدّثهُ نفسهُ بأن ينقّبَ عن آثارهم ، وينشرَ للأمة ما طويَ من معارفهم إقراراً بفضلهم ، وتخليداً لذكرهم ، واستفادة من آثار قرائحهم. ونحاول بعد ذلك أن نجاري الأمم أو أن نُشبه عباد الله. ما أكبرَ جهلنا بأقدارنا ، وما أبعدنا عن مواضع الأنصاف. لا أديبُ العراق أجدتهُ فرائده ، ولا الأستاذ مفتاح هنأته بلاغته ، ولا أمام العبد أغناهُ شعره. وأنَّ نسخة من قصة القاضي والحرامي أو قصة دليله المحتالة لأحبُّ إلى عامّتنا ، وأشهى إلى خاصبّتنا من درر هؤلاء العظماء وجواهرهم ، وأدعى للشجون ثم أبعثُ للطرب من قصائدهم وقصولهم. سقاهم الله! رعاهم الله! عاشوا مظلومين. وأودعتْ بطون المقابر كنوزاً يتباهى بأمثالهم ملوكُ الأرض. يروى أنَّ بعض الانكليز يقول لو خُيّرنا بين أن نخسر الهند كلها أو نخسرّ شكسبير لاخترنا خسارتنا للهند ، ولأبقينا شاعرَنا عوضاً عنها ونحن ماذا نقول؟ نقول لتحيَ الديكة والحمائم ، أم نصيح ليحيى الدستور؟؟ أنا لنطمعُ اليوم في أن ننال ما لا يتاح نا إلاّ بعد خمسين عاماً فمَثلنا مَثل جماعة من العميان قيل إنّهم ركبوا أحدَ المعابر القوارب ليعبروا النيل. فقال قائلهم: هل لكم في الخروج من المركب من غير أن تدفعوا أجراً؟ قالوا بلى. قال: إذن فاسمعوا لما أقول. إذا قارب المعبرُ الشاطئَ صاح النوتي. فلّق. فثِبُوا هنالك وثبةَ رجلٍ واحد ، وتفرَّقوا هرباً ، واعلموا أنهُ لا يترك معبرَهُ ويعدو وراءكم. فقبلوا المشورة. وكان النوتيُّ يسمع المؤامرة وهم لا يشعرون.
فلما توسّط النهر صاح. فلّق فوثبَ العميان فوقعوا في البحر وغرقوا. وأني لأخشى أن ينادينا الغرورُ نداءَ النوتيّ فنغرق غرق العميان. الأمة في حاجة إلى نوابغها غرباءُ بينها ، والصوت الأرنّ والقول
المسموع ما يهتف بهِ قوم صمتت ألبابهم ، ونطقت ألسنتهم. هم المسيطرون وهم الزعماءُ حَسْبُ الأديب في الشرق نعوتاً تكال له كبلَ الحشف. فهو الأديب الفاضل ، والشاعر البليغ ، والكاتب البارع ، واللودغيّ والألمعي وغير ذلك. وليت هذهِ النعوت تحي لمن تصدق فيهِ ، أو فيمن تكاد تصدق فيهِ. ولكنهُ مشارك فيها مشاركة الغبن. أهل البلدة كلهم أدباءُ فضلاءُ بلغاءُ فصحاءُ ، ما سلم من ذلك ملكٌ ولا سوقة. وأظنُّ هذه هي المساواة التي يطلبها مجانين الدستور ، لا المساواة في الحقوق التي يثني عليها أهل الأنصاف. ألا مَن مبلغٌ عني كلَّ أديب في الشرق أنهُ أديب وأنهُ فاضل ، وأنهُ لوذعي ، وأنهُ ألمعي ، وأنهُ فصيح ، وأنهُ بليغ وأنهُ عند الناس وجودُهُ مثل عدمهِ ، وأنهُ أهون على أمراءِ الذهب من ديك من ديكة الهند ، أو من حمامةٍ من حمائم اليمن. كنت ذات يوم راجعاً من دار البريد وفي يدي سيكارةٌ هي أخرى أخواتها. فمرَّ بجانبي رجلٌ يسرع في مشيتهِ ، فاستطارها من يدي حتى وقعت على الأرض! وكان اليومُ شديدَ الهاجرة لافحَ الحر. فلما توسطت الشارع رأيت عربةً نظيفة فيها رجلٌ من رعاع القوم ، وأمامه اثنانِ من الإوزّ. ثلاث رفقةٍ في خير عربةٍ ، يقودها جوادانِ مطهَّمان. فرفعت طرفي إلى السماء وقلت: يا ربّ تُلهمني الشعرَ ، وتُجري يراعيَ بما يستطيعُ من النثر ، وتجعلُ عبادك يدعونني بالأديب إن صدقاً وإن كذباً ، ثمَّ أرى أني أحقرُ من الإوز في هذا الشرق؟؟ ثم انصرفت صابراً. هذا ميدان واسع ، يتعب الجائل في أرجائهِ. ولولا حقوقٌ للأدب وأهله ما سطّرتها. ثلاثة إخوانٍ: مكروبٌ ودفينان. أما الرثاء فبعضُ ما يجب ولن يفوتني ما استطعت منهُ ، وأما النحيبُ فأني سوف انتحي. فَمن لي بمَن يساجلني الدمعَ ، ويشاركني في الشكاية. أما أنّا لمظلومون!!
ولي الدين يكن