الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحرب والسلم
افتتاح قصر السلام في مدينة لاهاي
لا يُنكر أحدٌ أنَّ الحربَ مجلبةُ الدَّمار والبوار ، ومدعاةٌ لخراب العباد والبلاد ، لما يتقدَّمها ويصحبها ويليها من بذل الأموال وسفك الدماء وتخريب الأمصار. فهي من بقايا الهمجية ومن آثار التوحش. لذلك هبَّ قومٌ من دُعاة الإنسانية يناهضون فكرة التسليح ويعملون على إِبطال القتال بتعميم مبدأِ التحكيم العام والاِستناد إليهِ بدلاً من التعويل على السيف والدفع. فسخر منهم الآخرون ، وعدُّوا أمنيتهم من قبيل الأحلام ، وإِن كانوا وأِباهم متفقين على ويلات الحرب وفظائعهم. ذلك لأنهم يرون الحرب دائمة ما دام الإِنسان ذا طمع ، وقد يُدرج الإِنسان في كفنهِ ، ولا يموت الطمع في صدره. والتاريخ شاهد لا ترد شهادتهُ في هذا الموضوع. فإن الحرب في نظرهم شرٌّ ولكنهُ شرٌّ متحتم الوقوع. على أن أنصار السلم لم يعبأ وأبهزءِ الهازئين ، ولا بتصنيع الحوادث أحياناً لآمالهم بل ظلوا يكتبون ويخطبون ويسعون لنشر مباديهم ، حتى أخذت فكرة التحكيم العام في المشاكل الدولية ترسخ شيئاً فشيئاً في الأذهان. ورأينا أكثر من مشكلة في هذه السنين تُحَلُّ عقدتها بالطرُق السلمية ، بعد أن كانت مثيلاتها في الماضي لا تُحل إلَاّ بظبي الحراب وبإشعال البارود. فكرة السلم العام خطرت لكثيرين من الفلاسفة والاِجتماعيين منذ
زمنٍ بعيد ، ولكنها لم تبرز بشكل حسيّ إلَاّ منذ نحو ربع قرن. وذلك أنَّ فريقاً من كتَّاب الإنكليز ، وفي مقدمتهم مستر ستدِ صاحب مجلة المجلات المشهورة ، رأُوا وجوب تعميم هذه الفكرة. وأوحي إلى البعض أن اسكندر الثالث قيصر الروس يميلُ ميلاً أكيداً إلى إِيقاف التسليح في العالم. فما كاد هذا الاعتقاد يتجسم في رأس مستر ستدِ ، حتى نهض يعمل بجدٍّ واجتهاد لتحقيق تلك الأمنية. فكتب عريضة وقَّعها من كل ذي مقام في بلاد الانكليز ، وقدّمها إلى حكومتها ملتمساً منها فيها مخاطبة الدول في سبيل إِيقاف التسليح وتحديده. فأرسلت وزارة الخارجية الانكليزية تلك العريضة إلى القيصر. وبينما القيصر يتحفَّزُ للعمل ، نشبت الحرب بين الصين واليابان فكان من العبث محاولة إِقناع الدول بإيقاف التسليح ، ودويُّ المدافع يقصف في بعض إِنحاء العالم ، فاضطر القيصر إلى تأجيل العمل وحالت وفاته دون متابعة الأمر. غير أن القيصر الحالي الذي خلفه لم يكن أقلَّ منهُ رغبةً في ذلك فدعا الأمم إلى السلام ،
ولبَّث الشعوبُ نداءَهُ. وكانت نتيجة ذلك عقد المؤتمر الأول في لاهاي عاصمة هولندة سنة 1899. ثم أراد أحد ملوك المال ، مستر أندرو كارنجي ، أن يشترك مع ملوك السياسة في هذا العمل المجيد ، وأن يضع لمشروع السلام أثراً خالداً ، فوضع سنة 1903 تحت تصرُّف حكومة هولندة مبلغ مليون ونصف مليون من الريالات لإقامة البناء اللازم لمحكمة لاهاي وإِنشاء مكتبة عمومية لمحكمة التحكيم المستديمة. فسرَّ ذلك حكومة هولندة وزاد
افتخارها باختيار عاصمتها مركزاً مستديماً للسلام ، وكعبةً تحجُّ إليها الآمال ، فأرادت أن تشترك في المشروع اشتراكاً فعليّاً ، وتُظهر للمستر كارنجي على هبتهِ العظيمة ، فقرّرت إِنفاق مبلغ 56 ألف جنيه من خزانة الحكومة لابتياع خمسين ألف متر مربع من حديقة كانت قسماً من المتنزه الملكي. فتم البيع في آخر يوليو سنة 1905.
وقد تمَّ البناءُ الآن ، وجرى الاحتفال الرسمي بافتتاح قصر السلام في الثامن والعشرين من شهر أغسطس الماضي بحضور مندوبي الدول. وقد جاءَ هذا البناءُ فخماً ، لطيف الشكل ، خلواً من كل ما يدلُّ على العظمة الوحشية أو الحربية التي امتازت بها الأبنية الكبيرة حتى الآن. وقد زيّنت واجهة الدور الثاني من القصر بعدَّة تماثيل ترمز إلى العلوم والمعارف العصرية والمزايا الإِنسانية الراقية. وفي صدر البرج الكبير تمثال للتجارة ، وآخر للصنائع ، وبين نافذتي الواجهة قامت تماثيل شتى من اليسار إلى اليمين تمثّل البلاغة وحسن الطوية وقوَّة الإِرادة والسلطة أو القدرة والدرس والبحث والحكمة والإِنسانية والثبات ونُصيب إلى جانبي نافذة القاعة الكبرى تمثالان يمثّلان العدل والقانون كأنهما حارسان يحرسانها. ونُصِب فوق كل ذلك تمثال ملكة السلام بشكلها المعروف وقد جعلت يديها على قبضة سيف مسلول ، لفَّت حوله خريطةً مكتوبة إِشارة إلى الشرائع السائدة. وتحت هذا التمثال فوق الرتاج أسدان فاغران فاهيهما. يفصل بينهما برج
يحرسانها رمزاً إلى أنهُ لم تبقَ ثمت حاجة إلى القوَّة الوحشية لحراسة الحصون وإِنفاذ قرارات السلام. وهناك عدا هذا التماثيل الرمزية أربعة تماثيل أخرى تمثل أربعة رجال عظام: أحدهما تمثال هوجو جروتيوس أول مجاهد في سبيل الشرائع الدولية أهدته جمعيات السلام؛ والثاني تمثال الملك أدور السابع أهدتهُ جمعية السلام العام؛ والثالث تمثال السر رندل كريمر الذي كان يعمل مع كارل ماركس ومازيني في سبيل التحكيم الدولي ، أهدته لجنة
التحكيم الدولي؛ والرابع تمثال المستروليم ستدِ صاحب مجلة المجلات الانكليزية ، أهدته نقابة الصحافيين في هولندة. فيكون أبطال السلام الذينُ نُصبت تماثيلهم في القصر أربعة: قاضٍ وملكُ دستوريٌّ وزعيمُ عمَّالٍ وصحافيّ. أما داخل القصر فغاية في الإتقان والأبدع ، وقد نُقِشت الرسوم العديدة على زجاج نوافذهِ ، منها في المدخل الخارجي ما يدلُّ على فظائع الحروب ونكباتها من سيوف مخضبة بالدماء لا تعف حتى عن العجائز ، وأمهات مضطربات جزعاً على أولادهنَّ ، وقصور مهدَّمة ، وكنوز مبعثرة ، وجثث معفرة يظلها الموت. أما قاعة عقد المؤتمرات الكبرى فطولها نحو 74قدماً وعرضها 41. وهي تسع نحو 300 رجل ، أمام كلّ واحد منهم طاولة للكتابة. وفي صدر القاعة نافذة كبيرة ملوَّنة الزجاج ، وضع في جانب منها تمثال يمثل العدل ، وإلى يسار هذه النافذة مواضع للجلوس درجات بعضها فوق بعض. أما مكتبة القصر فكبيرة متسعة تشغل جانباً كبيراً منه ، وفيها أثمن
الكتب وأكثرها فائدة وألذها تلاوة. وقد علقت في إِحدى قاعات القصر صورة مكبرة بالزيت تمثل المستر أندروكارنجي الذي تبرع بنفقة هذا البناء الفخم. والهدايا التي في القصر كثيرة لا تحصى أهدتها إليه حكومات العالم ومن جملتها سجادة ثمينة جاءته من الحكومة العثمانية وهي تملأ ارض قاعة الاجتماع الكبرى.
في سنة 1915 سينعقد مؤتمر السلم العام في هذا القصر الذي مرّ وصفهُ. وسيكون لدى المجتمعين أمورٌ خطيرة ومشاكل معضلة يتناولها البحث ، وأهمها زيادة التسليح في العالم إلى حدٍّ كادت ترزخ تحتهُ أغنى الحكومات. وقد يصدرُ في ذلك القصر قرارٌ يقضي بإبطال الحروب وتحريمها ، ويُناط أمرُ إِنفاذه بحكومات العالم بأسرهِ ، فيتم ذلك الحلم الجميل وينصرف الإِنسان عن قتال أخيهِ الإِنسان إلى ما يُرقيّ شؤونهُ أدبيّاً وماديّاً. وقد تكون أوربة في حربٍ عمومية طاحنة إبَّان عقد المؤتمر ، وقصف المدافع يُصمَّ الآذان ، فلا يسمع أحدٌ صوتَ خطباءِ السلام وأنصار التحكيم ، فيظل السلم العام حلماً من الأحلام ، ويبقى العدل نوراً ضئيلاً تحجبهُ غياهب المطامع والغايات ، ولا ينفك الحقُّ متضعضع الأركان تقوّضهُ القوَّة وتسحقهُ.