الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اللينوتيب العربية
اللينوتيب آلة جديدة لجمع حروف الطباعة سطوراً كاملة لم يتوفق اللّغويّون حتى الساعة لتعريب اسمها. وصفوة ما توصف بهِ إنها آلة مؤلفة من جملة قطع تدار بقوة الكهرباء ويستخدمها عامل واحد ، يجلس تلقاءها على كرسيّه. ويضغط على أزرار مبسوطة أمامهُ ، كتِب على كل زرٍّ حرف. من حروف الهجاء على مثال الآلة الكاتبة ومتى ضغط على الزر سقطت أمامهُ قطعة نحاسية محفور عليها الحرف المطلوب في مصّفٍ خاص وهكذا حتى يتم جمع سطر كامل ، فيقراه ويصحح ما يكون قد وقع فيهِ من الخطأ برفع الأحرف المغلوطة ، ويضبطهُ بوضع الأسداس وغيرها من أصول صناعة التنضيد. ثم يدير لولباً آخر فينزل على السطر المحفور المصفوف صفّاً أفقيّاً جزء من الرصاص المصهور لا يلبث أن يجمد ويتحول إلى سطر من أحرف مجموعة جمعاً لا شائبة فيهِ إلا الخطأ الذي قل أن يسلم منهُ منضدُ. ويتم الجمع والسبك بهذه الطريقة في مدة لا تتجاوز ثلث المدة اللازمة للجمع باليد. وإن كان في الجمع باللينوتيب عيب واحد هو عيب التصحيح فإنه إذا وقع خطأ في حرف واحد في السطر وجب تغيير السطر بأكمله. وقد انتشرت اللينوتيب في مشارق الأرض ومغاربها من باكين إلى طنجة. وتنضد بها الحروف في جرائد فرنسا اليومية عدا ستاً ، منها الجريدة الرسمية.
وكان الكثيرون من أهل الصناعة أنه يصعب إيجاد لينوتيب عربية. ولكن بعض المتفننين من عمال المطابع ذلل هذه الصعوبة. وسبق الكاتب الفاضل نعوم أفندي المكرزل ، صاحب جريدة الهدى العربية التي تصدر في نيويرك ، غيره من أصحاب الصحف العربية في استخدام اللينوتيب لصف حروف جريدته. وأقام يوم بدأ بالعمل بها - وكان ذلك منذ سنتين ونصف على ما أذكر - احتفالاً شائقاً حضرهُ جمهور كبير من رجال الأقلام والمشتغلين بالصحف من سوريين وأمريكيين وتأتينا جريدتهُ يومياً في ثماني صحف كبيرة مصورة لا تنقص ترتيباً ودقة في صناعتها عن صحف أميريكا اليومية. ولا شك في أن الفضل في بلوغ هذه الصحيفة مبلغها من الترقي عائد إلى البيئة التي تصدر فيها وإلى ما هو معروف عن صاحبها من المقدرة في صناعتهِ.
وكان ينتظر أن يعم استعمال اللينوتيب مطابع الصحف اليومية في الآستانة لأسباب عدة منها وفرة عدد ما يطبع من كل واحدة من هذه الصحف ، ومهارة صفافي الحروف الأتراك
وجمال خط كتابهم ، وتعويلهم قسمين إذا دعت الحالة إلى ذلك فلا يحتاجون إلى مراجعة السطور وزيادة عدد الأسداس بين الكلمات كما يعمل صفافو الأحرف العربية لإيقاع نهاية الكلمة في آخر السطر. وقد سألتُ أحد أدباء الأتراك عن سبب امتناع الصحف التركية الكبرى عن استخدام اللينوتيب فما أحار جواباً.
وكذلك لم تستخدم اللينوتيب في مطابع القاهرة وبيروت ، وهما مركزا النهضة الأدبية العربية ، ويوجد في كل منهما دور للطباعة لا تنقص أهمية عن دور الطباعة الكبرى في لندن وبرلين وباريس. بل سبقنا أخواننا المراكشيون في طبع مطبوعاتهم الرسمية والشبيهة لها باللينوتيب. فقد نشرت مجلة في عددها الصادر في شهر نوفمبر الماضي رسالة وردت إليها من مكاتبها في طنجة يؤخذ منها أنهُ أنشئت في رباط الفتح وفي الدار البيضاء مطبعتان كبيرتان جهّزتا بعدد من اللينوتيبات - على حد قولك أسطرلابات - من بينها لينوتيب عربية وضعت في مطبعة رباط وتصف بها الآن أحرف الجريدة الرسمية لحكومة المغرب الأقصى وجريدة السعادة الشبيهة بالرسمية. وزينت المجلة رسالة المغربية. وجريدة السعادة المشار إليها جريدة نصف أسبوعية يحررها الأديب اللبناني وديع أفندي كرم. وقد عرفتهُ قبل ذهابه إلى المغرب الأقصى إِذ كان يشتغل في الجرائد اليومية بالقاهرة. وقد مرَّ بنا منذ خمس سنوات قاصداً لبنان فجرى بيني وبينه حديث عن جريدته وإقبال المغاربة على مطالعتها فقال لي: إِن القوم هناك يعتقدون أن الصحف بدعة يحرّمها الدين. ولم نتمكن من إِقناعهم بخطأِهم إِلَاّ بأن أتينا بشيخين من علمائهم وأجلسناهما في مكتب التحرير كما توضع التماثيل في مخازن تجار الملابس ، وأبحنا زيارتنا لكل قاصد من الأُدباء وأهل الفضل. وكلما وفد علينا واحد منهم نشير إلى شيخ من الشيخين فيبدأ في شرح الصحافة وفوائدها وعدم
مخالفتها للدين. ولكن هذه العملية لم تكن لتقنع الكثيرين بأن الدين لا يحرّم مطالعة صحف الأخبار!! فذكَّرتني هذه المحادثة بما جرى بيني وبين الشيخ الكتاني ، وهو أحد أئمة الدين في المغرب الأقصى. وكان قد حضر إلى القاهرة في أواخر سنة 1903 وأقام بيننا أسبوعين ترددت عليهِ خلالها غير مرَّة. وتحادثنا في عدة شؤون خاصة وعامة. فأتى يوماً ذكر الوراقة والطباعة فقال الأُستاذ رضي الله عنه: أنا لا أحب السير في أسواق الورَّاقين. قلت ولم يا مولاي؟ قال: لأنهم يبيعون فيها الورق الأبيض وربما أُخذ شيءٍ منه وكتب عليهِ
ما يخالف القرآن. ولا شبهة في أنهُ عند انتشار اللينوتيب في المغرب الأقصى تبدد بقوَّة مطبوعاتها أوهام الشيخ الكتاني وأمثاله وتجدد فرنسا بقوَّة الكهرباء ما درستهُ أيدي الظلم من علوم المغرب وآداب أهله الزاهرة.
ومن المصادافات الغربية أنهُ في الشهر الذي طبعت فيهِ الجريدة الرسمية للدولة المغربية الشريفة المحمية باللينوتيب وزَّع بعضُهم رسالة مصُورّة على أصحاب المطابع والمشتغلين بالصحف في القاهرة والاسكندرية قال فيها إِنه أنشأ في العاصمة مستودعاً كبيراً للينوتيب العربية. وقد طبعت هذه الرسالة طبعاً متقناً على اللينوتيب. وضمنها ناشرها بحثاً فنيّاً في فضل صف الأحرف باللينوتيب على تنضيدها باليد. ثم أخذ تدحض براهين القائلين بصعوبة تصحيح أحرف اللينوتيب. ومما جاءَ في
هذه الرسالة أن استعمال اللينوتيب ينشأ عنا أمور ثلاثة وهي: زيادة كمية العمل ، وتقليل النفقات ، وفتح أبواب جديدة للرزق. ولا يقتصر النفع على إتمام الجمع بسرعة بحروف نظيفة جديدة على الدوام بل أن ترتيب الصحائف يوفر وقتاً كبيراً بدون خوف من وقوع الخطأ. وليس هذا فقط بل إِنَّ بعضهم أنشأ في القاهرة مدرسة خاصة يديرها مهندس ميكانيكي اختصاصي باللينوتيب. ولكل من يشتري واحدة أو أكثر من عدد اللينوتيب أن يدخل من أراد في تلك المدرسة ليتعلم إدارة اللينوتيب بالمجان. ولكن هذه البيانات والتسهيلات لم تقنع أصحاب المطابع العربية وتدعوهم إلى صفّ أبطال الحروف باليد والاستعاضة عنها باللينوتيب. ولهم في ذلك حجج بعضها مالي وبعضها صناعي. وليس هنا مجال تأييد أحد الرأيين أو تفنيده. وكل ما أرجوه أن يتوفق كتابنا إلى تحسين خطَّهم ويمتنعوا عن التغير والتبديل في المسودّات. وحينذاك لا يكون هناك حائل يحول دون استخدام اللينوتيب بشرط أن يزداد عدد ما يطبع سواء من الكتب والمجلات والجرائد فيقوم بنفقات هذه الآلة المدهشة وأجور العاملين فيها وما يلزمها من كهرباء ورصاص ثمَّ أن لا ينسى من يؤَرخ الصحافة العربية والطباعة أن الفضل في تعميم اللينوتيب عائد كغيره من محسنات الطبع إلى الغرب ومخترعيهِ.
القاهرة
توفيق حبيب