الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التدبير المنزلي
في مدارسنا ومعاهدنا العلمية نهضةٌ حقيقية تناولتْ جميع فروع التعليم والتدريس. ولنظارة المعارف على هذه الحركة المباركة يدٌ تُذكرُ مع الشكر الجزيل. وقد أصابت مدارسُ البنات قسطاً وافراً من هذه النهضة ، وأصبحت تتدرَّج شيئاً فشيئاً في مدارج الترقي والكمال. ومن الموادّ التي وجَّهت إليها النظارة اهتماماً خاصّاً ، درس الاقتصاد المنزلي ، ولا يخفي على أحد ما في هذا العلم من الفوائد الجمة. وقد أحببنا بهذه المناسبة أن ننقل هنا شيئاً عن مزاولة ذلك التعليم في بريطانية العظمى أطلعن عليهِ حديثاً في إحدى المجلات لعل النظارة تجد فيهِ ما يقع لديها موقع الاستحسان. أعارت بريطانية العُظمى ولاسيما انكلترا تعليم تدبير المنزل اهتماماً عظيماً في السنوات الأخيرة ، فشادت عن سعةٍ مدارس المعلّمات لهذا الغرض ، وأَنشأت في المدارس الابتدائية والثانوية فروعاً خاصَّةً بتعليم الاقتصاد المنزلي. وازدرى فريق من الانكليز ذلك الفنَّ الجليل فانبرى أشهر خطبائهم وأعظم كتَّابهم لرفع شأنهِ ، وأعانهم ذَوو الأمر بنفوذهم الواسع ، وشدَّدت الحكومة على ربَّات المنازل في تدبير منازلهنَّ فمن ذلك مثلا ، أنَّ إِحدى المحاكم الانكليزية أصدرت يوماً حكماً على
سيدة بالسجن والغرامة هذه حيثيات الحكم: حيث أن زوجة ب. كانت تقضي أكثر أوقاتها أمام وجهات المخازن الكبيرة ، تتأمل القبعات والثياب المعروضة فيها ، وماليتها لا تمكّنها من ابتياع مثل هذه الثياب؛ وحيث أنَّ جيرانها وبعض مفتشي البوليس رأوا رأي العين قذارة بيتها وسوء ترتيبه ، وحيث أنهم رأوا زوجها يكنس ويغسل بدلاً منها الخ. فقد حكمت عليها المحكمة بالسجن الخ. وأصدرت محكمةٌ أُخرى حكماً على امرأة بالغرامة لأنها تحققت قذارة رأس ابنتها. ولم تكتفِ الحكومة بذلك وبما فاه بهِ الخطباءُ ، وخطَّتهُ أقلام الكتَّاب مما يرفعُ شأن التدبير المنزلي ، بل أشارت بوضع شهادة جديدة تُدْعى ليسانس الاقتصاد المنزلي تعدل قيمة الليسانس في العلوم الأُخرى العالية. ولم يلبث أمرُ هذه الشهادة أن نال أهمية كبرى لدى طبقات الانكليز المختلفة. فصار أكثرهم يعتبرُها حلية المرأة ، والشرط المتمّم لتهذيبها ، مثريةً كانت أو فقيرة. وأصبح اليومَ الرأيُ العامّ يمتدح ما كان بالأمس يذّم ، ويُعظم ما كان يحتقر. وكانت بعض المدارس الثانوية قد أَبدت علناً عدم استحسانها لهذا المشروع ، ورأت وضعَ الطبخ في بروجرامها إزاءَ اللاتينية واليونانية مُحطّاً من قدر العلم. فلم تلبث أيضاً أن انقاذت إلى الرأي العام ، إِمَّا لاعتقادها بصحتهِ ، وإِمَّا اضطراراً
وخوفاً من إِعراض الطالبات عنها. ولم يقعد هذا الفوز الباهر ذوي النفوذ في انكلترا عن متابعة السعي في توفير الوسائل التي تحبّب إلى الشابات تعلُّم تدبير المنزل والتي تحسّنهُ في
عيون الأفراد ، فأوعزت في جلوسترشاير مثلاً إلى كلّ ممرّضة من ممرّضات المجلس البلدي أن تعود الفقراء ، وتمرّضهم مجاناً ، وأن تعلّمهم قواعد حفظ الصحة وتنظيف المسكن والملبس ، وأن تترك منزلها مفتوحاً أبداً ليدخلهُ من شاء رؤية حسن تدبيرها المنزلي. وقد روى بعض من زاروا تلك المنازل أنها تلمع كالشمس نظافةً وبهجةً رغم بساطة أثاثها ولمَّا كان تعليم الشابة تدبير المنزل ومعيشتهِ وواجباتهِ ، فقد رأت بريطانية أن تُرَبّي حُبَّة في فؤادها منذ الصغر ، وأن تزرعَ في نفسها - وهي لا تزال خاليةً من كلّ زرع - ولعاً بالترتيب والتنظيف والاقتصاد لا تؤثّرُ فيهِ طوارئُ الحياة وأدوارها ، فأفسحت لتعليم تدبير المنزل مجالاً واسعاً في روجرام تعليم مدارس الأطفال والمدارس الابتدائية والثانوية وفي الجامعات الكبرى. فغدا بذلك أمر الاهتمام بشؤُون المنزل يُرافق الفتاة كلَّ أيام دراستها ، كما يُرافقها سائر أيام حياتها بعد خروجها من المدرسة إذ تصبح ربَّة منزل.
طرق تدبير المنزل سبقت ألمانية وبلجيكية وأميريكة بريطانية العظمى إلى هذا العلم ، وخبرته السنين الطوال ، ورأت بريطانية أن تستفيد من ذلك الاختبار ، لتتقي الوقوع فيما وقعت فيهِ تلك الدولُ من الخطأ ، فوجَّه وزير المعارف إلى تلك البلاد الإِرساليات لدرس طريقة التعليم المثلى. ولم يلبث المرسلون أن عادوا إليهِ بتقاريرهم فعرضها على المدارس ، وأجاز لكلّ مدرسةٍ أن تختار الطريقة التي تراها ملائمةً
لمركزها وظروفها ، عازماً على تقرير أوفاها بالغرض وأحسنها نتيجة في بروجرام المدارس. على أن كلّ هذه الطرق المتَّبعة الآن ، وإِن فَضُلَ بعضهُا البعض الآخرَ قليلاً ، طرقٌ حسنةٌ سهلة ، تسير بالطالبة ، خطوةً خطوة ، من أوَّل الطريق حتى آخره دون أن تكلّ أو تملّ.
مدارس الأطفال الغالب الآن في هذه المدارس الاقتصار على تعليم الصغيرات إِزالة الغبار عن الأثاث ، وترتيب الأمتعة بخلاف هذه المدارس في ألمانية. فإنها تعلمهنَّ أيضاً مبادئَ غسل الثياب وطبخ الأطعمة.
المدارس الابتدائية تُعطى طالباتها في لندره 60 أُمثولة في فنّ الطبخ يستغرق كلٌّ منها 3
ساعات ، ولا تأتي التلميذة عليها إِلَاّ وتكون قد أَلمَّت علماً بكلّ أصناف الطعام والحلوى وباصطناع الخبز ، وبطرق حفظ الفاكهة والبقول زمناً ، وبطبخ بعض المآكل للمرضى والأطفال و40 أمثولة في غسل الثياب وكيّها على أَحدث الطرق بما فيها الثياب الصوفية والموَّنة ، وفي رئق البالية منها. و 40 أمثولة في تدبير المنزل وتنظيفه ، وفي أضرار المراحيض والمداخن وتطهيرها ، ودروساً أُخرى في قواعد حفظ الصحة والعناية بالأطفال ، وفي علم الحيوان والنبات ، وفي طرق معالجة الأمراض والطوارئ الفجائية ، ريثما يحضر الطبيب ، وفي مضار الكحول ، ودروساً في علم الاقتصاد المنزلي ، وتنسيق الصرف على نسبة الدخل. غير أنَّ هذا البروجرام يختلفُ قليلاً المقاطعات ، ففي جلوسترشاير مثلاً تراجِعُ الطالبات قبل الانتقال إلى المدرسة
الثانوية في 10 دروس كلَّ ما تكون قد تعلمتهُ في المدرسة الابتدائية. وفي ليستر تبدأ الابنة دروسها ، وهي في السابعة من عمرها ، وتُعطى في السنة 50 أمثولة في الطبخ ، يستغرق كلٌّ منها ساعة واحدة ، فإذا ما بلغت الحادية عشرة ، تُعطى 50 أُمثولة أُخرى في الغسل. فتبلغ بذلك ساعات درسها المئة سنويّاً. وفي ليفربول تتعلم التلميذات بعض القواعد الصحية عن ظهر قلوبهنَّ ، كما يتعلمنَ هنا معاً بصوتٍ مرتفع الحروفَ الهجائية. فمن تلك القواعد التي يرددنها: من يحفظ فمهُ نظيفاً لا تُؤلمه أَسنانهُ وحيث لا تدخل الشمسُ يدخل الطبيب. وغيرها من نوعها. أمَّا فيما يختص بتعليمهنَّ العناية بالأطفال ، فإِن المعلَّمِة تقودهنَّ فرقاً إلى مهد الطفل عند أُمه ، حيث تُريهنَّ رأي العين كيفية الاعتناء بالطفل ، وملاعبته ولفّه وتقميطه الخ. وقد تمكنت إِحدى هؤلاءِ الطالبات بهذه الطريقة من الاعتناءِ بأخيها كلَّ الزمن الذي قضتهُ والدتها في المستشفى ، وكان عمرهُ عندما عُهد بهِ إلى عنايتها 14 يوماً.
المدارس المركزية ورأت بعضُ المدارس تعذُّر وجود جميع الأدوات والمعدّات اللازمة لتعليم تدبير المنزل في كلّ واحدة منها ، فاتفقت على إنشاء معهدٍ مركزي عمومي ، اشتركت في تأثيثهِ ، فتذهب إليه طالبات كل مدرسة منها في مواعيد معيَّنة ، حيث يتعلمنَ تدبير المنزل نظريّاً وعمليَاً وفي هذه المدارس المركزية قسمٌ ليليٌّ لتعليم الشابات.
التعليم في المنازل ومتى تقدمتِ الطالبةُ قليلاً في هذا الفنّ
تذهب مرّةً في الشهر إلى منزل إِحدى المعلّمات ، فتُديره بمعرفتها ليتسنى لها بدّلك تطبيق القواعد العلمية المدرسية على
العمل في بيتٍ منفردٍ. وفي تشستر وليفربول يؤجّر المجلس البلدي لهذا الغرض بأجَر متهاودةٍ منزلاً مؤنثاً لمعلّمات الابتدائية. وقد أبدت كثيرات من هؤلاء التلميذات مهارة عظيمة ونشاطاً وذكاءً في العمل؛ وكثيراً ما توصل البعض منهنَّ إلى اصطناع أبدع أمتعة المنزل من أشياء قديمة بالية لا قيمة لها. فمن ذلك أنَّ إِحداهنَّ أخذت مرَّة صندوقاً للشحن ، وكستهُ قماشاً ظريفاً ، وزانتهُ برسوم جميلة ، فكانت منهُ مكتبة بديعة المنظر تليق بردهة استقبال. وحوَّلت أُخرى جرابات صوف بالية إلى ثوب طفل يصلح للأعياد ، واصطنعت غيرُها من علب الحلوى إطاراً للصوَر متناً جميلاً. ولا ريب في أنَّ مثل هؤاء الطالبات يحوّلنَ منازلهنَّ إلى جنَّات غنَّاء. ولا تُتِمُّ الابنةُ دروسها الابتدائية إلَاّ وتكون قد خاطت كلَّ جهازها من القميص حتى القبعة ، ومهرت كذلك في التمريض والعناية بالأطفال ، وفي الغسل والطبخ ، وفنون الاقتصاد ، واصطناع الأبسطة ، وتنجيد المقاعد والكراسي ، والرسم والتصوير وسائر الأشغال اليدوية.
الاقتصاد المنزلي في المدارس الثانوية لم تُفسح هذه المدارس لتدبير المنزل المجال الذي أفسحتهُ المدارس الابتدائية ومدارس الأطفال ، وذلك لأنَّ الطالبة تدخلها وقد أضحت من فضليات ربَّات المنزل ، لا ينقصها إلَاّ النزر القليل ، فتراجع فيها كلَّ ما تعلَّمت قبلاً مع التطويل
والإِسهاب. وقد أرادت بعضُ هذه المدارس أن تصبغَ علم تدبير المنزل بصبغةٍ علمية ، فضمَّتهُ إلى علمي لطبيعيات والكيمياء ، وزادت فيه تعليم الطالبات كيفية تطبيق المبادئ الكيماوية على الشؤون المنزلية ، فتوسَّعت في درس المواد التي يتركب منها كلُّ نوعٍ من أنواع الأغذية وكيفية تحولها الكيماوي بالطبخ والاختمار ، وفحص المآكل بالمجهر ، وطريقة اصطناع المسكَّرات والحلويات ، ودرس محلولات خاصة بتنظيف الأمتعة والأقمشة ، وغسلها من أصوافٍ وأجواخ وحرائر وجلد ورخام وزجاج وخشب ، وكذلك في علم الآليات ، وبعض دروس مالية وتجارية ، كتسليف النقود والاسترهان ، وتحرير العقود والصكوك ، ومسك الدفاتر إلى غير ذلك مما يطولُ شرحهُ.
مدارس المعلّمات أما المعلّمات المكلَّفات بالتعليم في المدارس الابتدائية والثانوية فيتعلمنَ في مدارس عالية خاصة بتحضيرهنَّ للتدريس تعدّهنَّ للشهادات المنزلية العليا المقبولة من الحكومة ، وتؤهلهنَّ للتعليم برواتب تتراوح بين 70 و 300 جنيه سنويّاً. ولا تقبل هذه
لمدارس إِلَاّ حاملات الشهادات الثانوية. ومن تتناوله دروسها علم الحياة ، وعلم الميكروبات ، والحقوق المدنية ، والاقتصاد ، ومسك الدفاتر. ومن هذه المدارس كلية تدبير المنزل في أيدنبرج وفيها ، عدا ما تقدَّم ذكره في الكليَّة السابقة ، أقسامٌ خاصَّة بتعليم كلّ فرعٍ من
فروع تدبير المنزل على حدة ، فتقصده كلُّ فتاة روم الاختصاص بفرع من هذه الفروع ، وتخرج منهُ بعد 6 أشهرٍ بشهادة مربية أولاد أو مدبرة منزل أو طاهية الخ. وتُلقي كلية أيدنبرج أيضاً في العاصمة والضواحي محاضراتٍ في حفظ الصحة والتمريض والعناية بالأطفال وما شابه ذلك. فترى أنَّ التعليم المنزلي في بريطانية قد كاد يبلغُ حدَّ الكمال وهو لا يزال في طورهِ الأوَّل ، فإِنهُ في حالتهِ الحاضرة يمكّن كلَّ انكليزية من إتقان شؤونها المنزلية ، ويعلّمها كيف تُؤَنث منزلها بنفسها ، فتصنع الأبسطة ، وتحبكُ قشَّ الكراسي ، وتُصلح الأقفال ، وتزين الجدران والأمتعة بالرسوم والنقوش ، وتتعهد بنفسها زرع أزهار حديقتها ، وتقي تلك الأزهارَ في غرف المنزل من الذبول السريع ، وتختار الألوان التي تتفق مع بعضها بعض في تنسيق الأمتعة وترتيبها بذوقٍ يزيدها جمالاً ورونقاً؛ فتجعلُ منزلها شعاعاً من نور نفسها ، ونسمةً من حياتها ، يُنير ويُحيي الأفئدة التي يضمُّها بين جدرانهِ. ولقد صدق الوزير الانكليزي الذي قال: إِن إدارةَ المنزل جيداً تستدعي من المقدرة والبراعة والذكاءِ فوق ما تستدعيه إدارة مملكة واسعة ولا ريب في ن مثل هذا التعليم في مصر ، يؤثر تأثيراً سعيداً في الحياة العائلية وفي أخلاق الأمة وصحة عقولها وأبدانها ، وفي سلامها ونجاحها ، ويصرف اهتمام شابَّاتنا عمَّا لا يجديهنَّ نفعاً إلى ما يضمن سعادة أسرِهنَّ.
هند اسكندر عمون