الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 34
- بتاريخ: 1 - 5 - 1913
شاعرية خليل مطران
على راية الفرقة يعلّق القائدُ شارةَ المجد والشرف ، عندما يبلي أفراد تلك الفرقة البلاء الحسن في مواقع القتال. . . وفي ميدان النهضة الأبية الحديثة أبلى شعراؤنا بلاءً حسناً ، فكأن سمو أفندينا المعظَّم قد علَّق تلك الشارة على رايتهم إذ وضعها على صدر شاعرنا خليل مطران. . . فليهنأ الخليل لواءَ الشعر العصري؛ وليهنأ النيشان الذي حلَّ على صدر يحوي الدرَّ والجوهر؛ وليُحمَد مليكُ البلاد على آلائه وليُشكر. . . . أما بعد. فقد رأيت أن خير ما يصاغ من التهاني في مثل هذا الاحتفال الزاهر هو حديثٌ أُطار حكم إياه ، أيها السادة ، عن المحتفَل بهِ وعن شاعريته. فأقول:
منشدٌ للغرامِ لم يشدُ إلاّ
…
كان إنشادُهُ نواحاً شجيَّا
شاعرُ كان عمرُهُ بيتَ تشبيبٍ
…
وكان الأنينُ فيهِ الرويَّا
إنَّ في نظمهِ لحسّاً لطيفاً
…
باقياً منهُ في السطورِ خفيَّا
هي أبيات كتبها خليل مطران على الصفحة الأولى من ديوان الشاعر الفرنسوي ألفرد ده موسه ولا يسع من ينظر فيها إلا أن يقابل بين حالَتيْ الواصف والموصوف ، وشعر الأول والثاني ، فيجدها تنطبق أتمّ الانطباق على الاثنين: كأن الشاعرَ العربي وصف حاله لما وصف حال الشاعر الإفرنجي. . . من المعروف أن لحياة الكاتب ، والمحيط الذي ينشأ ويعيش فيهِ تأثيراً كبيراً في كتابته. ويرى على ذلك دليلاً واضحاً في شعر خليل: دبَّ شاعرنا وشبَّ تحت سماء سوريا الجميلة ، بين جبالها وقممها البيضاء ، أمام بحرها الصافي وأمواجه الزرقاء ، فجاءَ شعره رقيقاً لطيفاً. . . ترعرع وكبر في وادي النيل بين آثار المدينة القديمة وصروحها العظيمة ، فكان إنشاده فخماً عظيماً. عاش تارة في القرى والجبال ، فتشرَّب حب الفضيلة والطبيعة ، فأسمعنا الشعر زاهراً طاهراً؛ وعاش طوراً في المدن ، فراعه ما فيها من التعاسة والشقاء ، فألقى علينا إنشاده مبكياً زاجراً. قال في مقدمة ديوانه أن القارئ يدارجهُ مدراجةً تمثِّلهُ لديهِ في كل حالة مرَّ بها ولقد أصاب في ذلك ، فإن شعره بالحقيقة رسمٌ تمثَّلت لنا فيهِ كل أطوار صاحبه ، وارتسمت بين أبياتهِ كل عواطف قلبه ، وتأثرات فؤاده. وهذا سرُّ محاسن شعره العديدة. وصف لنا خليلٌ حياته في صبا ، بين آثار بعلبك ، فتمثلناه:
نَزقاً بينَهنَّ غرّاً لعوباً
…
لاهياً عن تبصُّرٍ واعتبارِ
مستقلاً عظيمها مستخفّاً
…
ما بها مِن مهابة ووقارِ
نتبارى عَدْواً كأنا فراشا
…
روضة ما لنا من استقرارِ
ثم بعد أن كبر وخاض معترك هذه الحياة نلقاه:
في هجرةٍ لا أنسَ فيها
…
للغريب ولا صفاء
تتقاذفُ الآفاقُ بي
…
قَذْف العواصف للهباء
وتُحيطُ ب يلججُ الصروف
…
فمن بلاءِ في بلاء
وهكذا يمكننا أن ندرس حياة خليل شطراً شطراً ، من مطالعة ديوانه سطراً سطراً. قلنا أنه عاش بين جمال الطبيعة ومظالم البشر؛ وهذا ما قوَّي فيهِ الخيال والشعور. ومعروفٌ أن هاتين القوّتين هما جناحا الشاعر يحلّق بهما إلى أعلى سماء الشعر؛ ويأمن تهشمهما إذا كان العقل رائدهُ في حياته العلوية. وقد قال في مقدَّمة ديوانهِ إنّ شعره هو شعر الحياة والحقيقة والخيال أي أنَّ الذي أوحاهُ هو الحسُّ والعقل والمخيَّلة. وهذا هو التقسيم الذي نتبعه في درس شعره:
1 -
الخيال:
هو أقوى قوانا العقلية لأنه وحده القوة الفاعلة الموجدة ، وسائر القوى ، كالحس والحافظة والعقل ، ليست إلا قوى مفعولة تتأثر وتعمل بما يطرأ عليها. وإذا كان الشعر كما حدَّه مرمونتل صورة تتكلم أو كلاماً
يصوِّر وهو كذلك ، يكون الخيال شرط الشاعرية الأول. وقد قيل: الشعر هو ابنُ البكر. وبفضل هذه القوَّة يفوق الشاعرُ المصوِّرَ ، لأنه بكلمة واحدة كثيراً ما يمثِّل لنا مشهداً يقتضي تصويره ألواناً مختلفة وتفاصيل متعددة. وكثيراً ما رأينا خليلاً أدقَّ تصويراً وأبلغ رسماً من أمهر المصوّرين ، فإذا وصف مثلاً الجنديّ الجريح وقائده يقلّدُهُ وساماً ، قال:
. . . . فقلَّده وساماً
…
وكلُّ جراحةٍ فيهِ وسامُ
وإذا كانت نفسهُ مثقلةً بالهمّ ، يرى ذلك الهم
. . . . كبحرٍ
…
ضمَّ في جوفهِ البعيد غريقاً
وإذا شكت عينهُ المسَّهدة طول الليل ، فهي:
تحسب السرجَ في حشاهُ قروحاً
…
وترى الشهبَ في سماهُ حروقا
وهذا بيتٌ تكاد تكون كلُّ كلمةٍ فيهِ صورةً حسية
وإذا تبسم أمامه عبدٌ يرى ابتسامهُ
…
. . . . . مثل وميضٍ في حالكٍ مسودّ
ويرى الليلة الجميلة:
أشبهَ بالجاريةِ الغراءِ
…
في حلةٍ شفافةٍ سوداءِ
وإذا تمثَّل الشمسَ منيرةً في كبد السماء ، تصوِّر له مخيلتهُ المتقدة هذا المنظر تصويراً يعجز عنه قلم المصوّر ، فيقول:
تبعثُ الشمسُ باهرات شعاعٍ
…
تغتدي بانحدارِها شبهَ رُبدِ
فهي في الأفق تارةً مسحاتٌ
…
من بهارٍ وتارةُ نثرُ وردِ
وهي بين الغصون نسج دقيقٌ
…
من نضارٍ يشفُّ عن لازوردِ
وإذا خاطب الغادة الحسناء ، قال لهما:
أنتِ ابتسامٌ صيغ في قطرةٍ
…
من الندى في قَبَسٍ من صباح
وإذا رأى قرطين حلقاً في أُذن تلك الحسناء تصوَّرهما دُرّاً جرى من صَدَف
وإذا رآها مكللةً بزهر الفل أعجب بالورد يحمل فلَاّ
وإذا كانت تلك الغادة مقبلة رآها:
. . . . كالغصنِ أثقلهُ الجني
…
فمال قليلاً واستوي متقوّما
وإذا وصف الصبية اللعوبَ الطروب ، قال فأبدع وصفاً وتشبيهاً:
ضحّاكةٌ كالنَورِ في الزهَرِ
…
رقاصةٌ كالغصن في الوادي
كرَّارةٌ كنسيمة السحرِ
…
ثرثارةٌ كالطائرِ الشادي
وهل تكون مثل هذه الفتاة إذا نزل بها همٌّ إلَاّ:
كطائرٍ راقَهُ غديرٌ
…
فرقَّهُ جانحاً وطارْ
وإذا عبث لهواء بشعرَها قال:
وتناثرت ضُفرُ الفتاةِ غمائماً
…
سترت عن الأبصار طلعة نجمها
وإذا وصف الولد الذي لا يقرُّ له قرار. قال:
كزهرة روض تمرُّ بها
…
فتقلقها النُسُمُ السائره
وإذا تكلم عن السفن الحربية المائسة على ظهر البحار وصفها كالجنّ في جدِّ العواصف
تلعب وإذا وصف سلطة الملك صاحب الشوكة والاقتدار ، قال:
أنت الرجاءُ فأي شيء ترتجي
…
والروعُ أنت شيء ترهبُ
والملكُ جسمُ أنت فيهِ هامةٌ
…
ويداك مشرقُ شمسهِ والمغربُ
أو قال أيضاً فأجاد:
وكأنَّ درَّة سيفهِ عينٌ ترى
…
ما تحت قائمِ سيفهِ آجالا
فما أبلغ هذه الاستعارات والتشابيه وما أجمل!
وإذا وصف جبلا مزحلقاً صوَّره:
كثيرَ الثلوم كأنَّ الفتى
…
إذا زلّ يهوي على مبردِ
وهو بيتٌ من قصيدةٍ عصماء عنوانها فتاة الجبل الأسود فيها من الوصف الفتان ما شاء الخيال وشاءَ التفنن. من ذلك أنه عندما يصف جمال الفتاة وهي بارزة إلى ساحةِ القتال لا يصفهُ كما وصف جمال غيرها من الحسان ، بل يراعي مقتضى الحال ، ويستعير كل صوره من التعابير الحربية ، فيقول:
لهيبُ الحروبِ على وجنتيهِ
…
والنقعُ في شعره الأسودِ
وفي عينهِ مثلُ برقِ السيوفِ
…
وظلُّ المنيّةِ في الأثمدِ
وعندما تنكشف حقيقة هذا الفتي - أو بالأحرى هذه الفتاة - فتكشف عن صدرها أمام قائد الأعداء ، يُبدع خليل في وصفها أيما إبداع إذ يقول:
وأبرز نهدَي فتاةٍ كَعابٍ
…
بطرفٍ حّيي ووجهٍ ندي
كَحُقَيْ لُجيَنٍ بقفلَي عقيقٍ
…
وكنزين في رَصَدٍ مرصدٍ
فكبَّر مما رآهُ الأميرُ
…
وهلّل كلٌّ من الشُهَّدِ
وراعَهَمُ ذانك التوأمان
…
وطوقاهما من دم الأكبدِ
ورثبُهما عند ما أُطلقا
…
إلى ظاهر الدرع والمجسدِ
كوثبِ صَغار المها الظامئاتِ
…
نفرْنَ خفاقاً إلى موردٍ
ويطول بنا المقال لو جئنا على ذكر كل ما توحي المخيلة إلى شاعرنا من لطائف الابتكار. وله قصيدة شهيرة في وصف بعلبك هي مجمع الصوَر وملعب الخيال. وقد جعلتهُ بحقٍّ يسمى شاعر بعلبك والأهرام وبالإجمال فإن خيال خليل يزين ويحسن ويحلي كل ما تقع
عليهِ أبصاره ، فيحقُّ له أن يقولَ كما قال لعروس شعره:
وأبدلُ نور الشمس ما شاءتِ المنى
…
عقيقاً وتبراً ساكباً ونضارا
وأنظمُ من زُهر الدجى لكِ خاتماً
…
وتاجاً وعقداً فاخراً وسوارا
وأصنعُ نوطاً باهراً من هلالها
…
وأنسج من غزل الضياء دثارا
وهذا الذي وضع خليل في مقدمة شعراء الطبقة الأولى في الوصف. أما في الشعر القصصي والخطة التي اختطها للنظم العربي في هذا الباب ، فاقرأوا عين الأم ونابوليون الأول وليمون يوسف أفندي وحكاية شاعر وشهيد المرؤة والعصفور والعقاب ومقتل بزرجمهر والطفلة البويرية وحكاية عاشقين والجنين الشهيد الخ تروا المقام المرء شاعراً. إذ يكون نظمهُ والحالة هذه بارداً جامداً ، نرتاح إليهِ ونجد فيهِ بعض البهجة ، لكنهُ لا يحرّك فينا ساكناً ،. ولا يثير شعوراً كامناً ، كما نرى ذلك في شعراء الوصف؛ فإن هناك ركناً آخر يقوم عليهِ بيت الشعر وهو الحس أو الشعور.
2 -
الشعور
قال خليل مطران في مقدمة ديوانه: وليس أكثر شعري هذا بين الطرس والمداد إلَاّ مدامع ذرفتها ، وزفرات صعَّدتهاو وقطع من الحياة بدَّدتها؛ ثم نظمتها فتوهمت أني استعدتها. وهكذا يتحقق لنا قوله الأول أن شعره ليس فقط شعر خيال. بل هو أيضاً شعر حياة ومن القول ما يؤثر في النفس وأنّ خلا من كل صورة ، لأنهُ صورة الحياة الحقيقية. وفي شعر خليل الشيء الكثير من هذا القبيل. كقوله مثلاً في مشاكاة وهي من أوليات قصائده:
أرى مثل سهديَ في الكوكبِ
…
أحلَّ بهِ مثلُ ما حلَّ بي
يهيمُ هياميَ من وجدهِ
…
ويهربُ من مهدهِ مهربي
ونجتازُ من هذا الفضاَء الرحيبَ
…
إلَاّ بنا فهو لم يرحبِ
فيا نجمُ ما النارُ تُفني حشاكَ
…
وما سيلُ مدمعك الصيّبِ
أسِرَّ هواكَ إلى صاحبٍ
…
يؤاخيك في همك المنصبِ
أما كلُّ ذي كلفٍ متعب
…
شريكٌ لذي الكلفِ المتعبِ
فهذه أبيات كلها رقةٌ وشعور على خلوّها من الصوَر وأساليب البديع. وأن في المواضيع الشعرية المبتكرة التي طرفها خليل لبرهاناً واضحاً على شعورٍ كبير مقرون بخيال حادّ.
فالحادثة البسيطة تُهيج عواطفَهُ وتثير أشجانهُ. فينظمها ويجيء نظمُها محرّكاً عواطف قارئهِ مهيجاً أحزانه. اسمعهُ يتكلم عن مهد الطفل تظنهُ الأم الحنون:
ويهزُّهُ خفقُ الفؤادِ
…
على مناجاةِ الضمير
وإذا سمع ذاك الطفل يناغي في مهده ، فضَّل مناغاته على هديل الطيور وتغريد البلابل:
. . . . . . . . . . . فكلما
…
أنشدَ علّم الطيورَ النغما
وجمعَ الأملاك حول المهدِ
…
يُسمعها شدوَ المنى والسعدِ
هو يشعر بالألم فيصوّر لنا الفؤادَ المتألم:
كشلو بأنياب الهمومِ مبضَّعِ
ويدري أي تأثير يصيبُ القلب المجروح فيمثّل عواطفهُ المكسورة
كجرحٍ قد ألطّفُهُ بلمسي
…
وإن هو مسَّهُ غيري أُضامُ
هو يفهم قيمة الدمعة التي قال لامرتين أن فيها من الشعر أكثر مما في دواوين الشعراء ، فيمثّل لنا الدموعَ غاسلة كل إثم ، مطهرة من كل دنس. وهو ذاق من الحب حلوهُ ومرَّهُ فيمثّل لنا الحب تارة غاية الحياة ، وطوراً الباعث على كل أمر عظيم:
والحبُّ ألزمُ للأرواحِ ما عظمت
…
ود يكونُ لها أدعي إلى العِظَمِ
أما تحديده للحب فهو:
الحب في المعنى العميم الكامل
…
معنى المراحم والفداءِ الشامل
يعرف أن قلب الإنسان يعيش ويفنى من هذه العاطفة في وقت معاً فيقول:
اسكريني على الدوام وأفني
…
مهجتي أدمعاً وعزمي حريقا
وينصح أخوانه إذ يقول:
أحباي إني مذ أفقتُ من الهوى
…
شقيٌّ فكونوا الدهرَ فيهِ سكارى
أما الذي لم يُدرك هذه العاطفة فهو لم يُدرك سرَّ هذه الحياة:
من لم يُحبّ فما الصفاء لهُ
…
صفوٌ وما أكدارُهُ كدرُ
ويرى الحياةَ ولا يعيش كما
…
مرَّت على مرآتها الصوَرُ
ويقول عن قلبه وهو يعني كل قلبك:
يبغي الشفاء من الولوعِ
…
ولا شفاء مع الولوعْ
ألف الصبابةَ فهي أمٌّ
…
مُرضع وهو الرضيعْ
والطفلُ يشقى بالفطامِ
…
فكيفَ يقبلُهُ مطيعْ
لا متسع لدينا أيها السادة لذكر كل ما يجول في صدر شاعرنا الرحب العواطف ، كحنينه إلى الوطن ، وعطشهِ إلى ذلك المنهل الصافي الذي روى صباه ، ووفائه لأصدقائه ونزوعه إلى كل أمر نبيل. فإن هو الغصن الرطب يميل بهِ كل نسيم ، أو وجه البحيرة الصافي يحرِّكه كل ريح. وهو القائل عن نفسه:
والذي درعُهُ فؤادٌ رقيقٌ
…
فجريحٌ إن يقتحَمْ أو يقاجم
فمسكين ذو القلب الرقيق في معترك هذه الحياة إذ يبيت
وفي الجسم نارٌ يلذعُ القلبَ وقدُها
…
وفي القلبِ نارٌ مثلها تلذعُ الجسما
وإذا كان صاحب القلب الرقيق شاعراً من طبقة خليل فهو يصيح:
أنا الألم الساجي لبعد مزافري
…
أنا الأملُ الداجي ولم يخبُ نبراسي
أنا الأسدُ الباكي أنا جبلُ الأسى
…
انا الرمسُ يمشي دامياً فوق أرماسِ
رقَّت حواشي مهجته وشفَّت عن محرّكات نفسهِ ، فسمعنا خفوق قلبه ، ورأينا ذلك القلب كما يصوّره:
وقلبي مسموعُ الخفوق معلَّقٌ
…
بمنهدمِ الأركان أجوفَ معتلّ
بل ما أبلغ التصوير وما أشدّ التأثير عندما ينادي:
الله في صدر وهي
…
وتقوَّست منهُ العظامْ
خاوٍ كجوف الغار تم
…
لأُهُ المخاوف والظلامْ
إلاّ سراجاً حائلاً
…
فيهِ يُنير بلا ابتسامْ
روحٌ تضيء على ضر
…
يحٍ في صميم القلب قامْ
المجال واسع لكتابة درس من أبلغ الدروس النفسية في شعور الشاعر يُقتبَسُ من شعر الخليل بل أن في قصيدته المساء التي أنشدها وهو عليلٌ في مكس الإسكندرية كفاية. فمن يطالعها يرى قلباً أذابته الصبابة والجوى ويسمع الشاعر يشكو اضطراب خواطره إلى البحر وهو:
ثاوٍ على صحر أصمَّ وليت لي
…
قلباً كهذي الصخرة الصماء
ينتابها موجٌ كموجِ مكارهي
…
ويفتها كالسقمِ في أعضائي
والبحرُ خفَّاقُ الجوانب ضائقٌ
…
كمداً كصدري ساعةَ الإمساء
تغشى البريةَ كدرةٌ وكأنها
…
صعدت إلى عينيّ من لحشائي
ومن كانت هذه حالته يرى في غروب الشمس دمعة تذرفها الطبيعة على موته فيخال تلك الشمس المؤذنة بالزوال:
مرَّت خلالَ غمامتين تحدُّراً
…
وتقطَّرت كالدمعةِ الحمراءِ
فكأنَّ آخرَ دمعةٍ للكون قد
…
مُزِجَتْ بآخر دمعي لرثائي
فمن منا لم يشعر يمثل هذه الكآبة. ولكن قليلٌ من له مثلُ هذه المقدرة على إبراز هذه العواطف في ذلك القالب الفتان. يتمنى شاعرنا أن يكون له قلبٌ كالصخرة الصماء ونحن نتمنى أن يبقى قلبه رقيقاً ، ليأتي بمثل هذه الآيات البيَّنات. فكما أن الشجرة لا يسيل ماؤها إلاّ من جراحها فكذلك قلبُ الشاعر لاّ يسيلُ شعره إلا من جراحه. او كما أن العنقود لا يجود بعصيره الطيب ، ما لم تضغطهُ يد الأحزان والشقاء. . . . قال اسكندر دوماس بعد مطالعته ديوان فكتور هوغو ، وفيهِ ما فيهِ من توجُّع فؤاده: فليتبارك الربُّ الذي يُرسل لنا مثل هذه المصائب ، ليخرج من صدرنا مثل هذا الهتاف البديع. . .!
3 -
العقل
أيها السادةز رأينا في شعر خليل عمل القوَّتين الأساسيتين في الشعر - أي الخيال والشعور؛ وهما قوَّتان قد تشردان إذا لم يكن هناك قوة ثالثة - وهي العقل - تخفف من غلوائهما. وقد أصاب قدماءُ اليونان إذ صوَروا الشاعر في مركبة يقودها جوادان جامحان - هما الخيال والشعور - وجعلوا زمامهما في يد العقل لئلا يطوّحا بالشعر على الهاوية. وهذا ما قصده أيضاً من حدَّد الشعر بأنهُ الفلسفة
تحمل زهراً وهذا ايضاً ما أراده خليل ، لما قال إن شعره شعر خيال وحياة وحقيقة. فهو الشاعر الفيلسوف الذي يمعن النظر في حوادث هذا الكون وعللها ومعلولاتها ، ويستنتج منها العبَر والحكم. وفي شعر خليل الشيء الكثير من هذا القبيل. شهد الفيلسوف جول سيمون احتفالاً أُقيم إكراماً لنابليون الثالث ، فنظر إلى الشعب المتجمهر الهاتف هتاف النصر نظرة غضب وازدراء ، وقال لمن حوله هكذا يخلقون الظُلَاّم. . .! هذا ما قاله الفيلسوف الإفرنجي ، فإليكم ما قاله شاعرنا العربي
عن كسرى وقومه:
هم حكّموهُ فاستبدَّ تحكُّماً
…
وهمُ أرادوا ان يصولَ فصالا
والجهلُ داءٌ قد تقادمَ عهدهُ
…
في العالمينَ ولا يَزالُ عضالا
لولا الجهالةُ لم يكونوا كلُّهم
…
إلاّ خلائقَ أخوةً أمثالا
لكنّ خفضَ الأكثرين جناحَهم
…
رفعَ الملوكَ وسوَّد الأبطالا
وإذا رأيتَ الموجَ يسفلُ بعضُهُ
…
ألفيتَ تاليَهُ طغى وتعالا
نقصٌ لفطرةِ كلّ حيٍّ لازمٌ
…
لا يرتجي معهُ الحكيمُ كمالا
فهذه أبيات كلها حكمة وفلسفة اجتماعية. ولا يشنّ شاعرنا الغارة على السلطة بل يريدها مبنيةً على العقل والتروي ، ألا وهو القائل والحكم أعدلُ ما يكون جدالا ولكن هو الاستبداد يملي عليهِ مثل هذه الأبيات:
نعم هي دارٌ للملوكِ عتيقةٌ
…
ولكن غَدَتْ للفحش داراً وبئسما
بناءٌ بمالِ الناسِ جبايةً
…
ولو ذوّبوا تذهيبهُ لجرى دما
كذلك هو يشجب الأعمال الجائرة أينما رآها. اسمعوه يخاطب ملوك مصر بناة الأهرام:
لم يُغنِكم منهُ البناءُ عاليا
…
والأرضُ نهباً والملوك أعبُدا
وكان يُغنيكم جميلُ الذكرِ لو
…
خفضتمُ اللحدَ وشدتم بالهدى
وهو القائل أيضاً:
معرَّةُ الظلمِ على مَن ظلْم
…
وحُكم مَن جَارَ على مَن حكَمْ
كل هذا لأن الخليل فهم مهمة الكاتب ، ولاسيما الشاعر ، وهي مناصرة الخير ومناهضة الشرّ؛ فإذا رأى القويّ يعبث بحقوق الضعيف يهتف:
فيمَ احتباسك للقلْم
…
والأرضُ قد خُضبت بدمْ
سدِّدْ قويمِ سنانهِ
…
في صدرِ مَنْ لم يستقمْ
اليوم يوم القسطِ قد
…
قامَ الأُلى ظَلَموا فقمْ
ثم ينبه قومه للنهوض من ثبات الجهل فيقول:
تمنا على جهلٍ وقد
…
عاشَ الكرامُ ونحن لمْ
فإذا انقضت آجالنا
…
فمن الرُّقادِ إلى العَدَمْ
وإذا بُعثنَا بعدها
…
فكأنها رُؤيا حلمْ
يرى الخليل أجيال الناس تجيء وتنقضي يرى الممالك تشيد بالصوارم وتفنى بالمعايب. فبعد ذلك يقول:
ولم أرَ شيئاً كالفضيلة ثابتاً
…
نَبَتْ عنهُ آفاتُ البلى والمعاطبُ
ثم نراه ، وقد كادت المصائب تصرعه ، يصيح من قلب مكلوم:
غلبتني صروف دهري على صب
…
ري وأفنته نارُها في الملاحم
الأمان الأمانَ ألقيتُ سيفي
…
وطويتُ اللواء تسليمَ راغم
ولكن إِن هيَ إلا نفثة مصدورها ، لا يلبث بعد تفريجها أن يعود فيظهر مظهر الجلد:
شأني مكافحةُ الخطوب إذا دجا
…
نقعُ الحوادثِ في الليالي السودِ
وفي شعر مطران قصائد كثيرة تتطلب درساً مستقلاًّ لما جاءَ فيها من المبادئ الاجتماعية يضطرنا ضيق المقام إلى التنويه بذكرها فقط مثل وفاء والعقاب وحكاية عاشقَين والجنين الشهيد والطفل الطاهر الخ. كل ما ذكرناه من المختارات بهي جميل - وهناك أيضاً غير ذلك محاسن عديدة. وبدائع شتى - وهي على ما رأيتم فيها من الجمال والسناء كالجواهر كانت أجمل وأسنى لو رأيتموها منظومة في عقدها لا منثورة مستقلة كما أوردتها. وقد عرف شاعرنا أن يستفيد من لغات الأجانب دون تقليد ، وينهج نهج قدماء العرب دون تقييد؛ فاحترس بصبغة العرب في التعبير. وادخل أساليب الإفرنج في التأليف والتفكير. فكانت نتيجة ذلك أنه أرغم الشعر العربي على أداء الحاجات الجديدة دون أن يتخطى ما سنَّ له من القواعد القديمة. قلنا بلا تقييد ولا تقليد لأن خليلا نزوع إلى الحرية في كتاباته كما هو شغف بها في حياتهِ.